قال عمرو بن محمّد بن ريّان الصيمري: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وبين يديه رقعة العسكري (عليه السلام) فيها: «إنّي نازلت الله في هذا الطاغي _ يعني المستعين العبّاسي _ وهو آخذه بعد ثلاث». فلمّا كان اليوم الثالث خلع، وكان من أمره ما كان إلى أن قتل.
قال أبوهاشم الجعفري: كنت عند العسكري (عليه السلام) فقال: إذا قام القائم أمر بهدم المنائر ١ والمقاصير التي في المساجد، فقلت في نفسي: لأيّ معنى هذا؟ فأقبل عليّ، فقال (عليه السلام): معنى هذا أنّها محدثة مبتدعة، لم يبنها نبيّ ولا حجّة.
قال أبوهاشم الجعفري: سمعت العسكري (عليه السلام) يقول: من الذنوب التي لا تغفر، قول الرجل: «ليتني لا أؤاخذ إلّا بهذا». فقلت في نفسي: إنّ هذا لهو الدفيق، ينبغي للرجل أن يتفقّد من أمره ومن نفسه كلّ شيء. فأقبل عليّ العسكري (عليه السلام) فقال: يا أبا هاشم، صدقت، فالزم ما حدّثت به نفسك، فإنّ الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة الظلماء، ومن دبيب الذرّ على المسح الأسود.
قال التلعكبري (رحمه الله): كنت في دهليز أبي عليّ محمّد بن همّام (رحمه الله) _ على دكّة، إذ مرّ بنا شيخ كبير عليه درّاعة، فسلّم على أبي علي بن همّام، فردّ عليه السلام ومضى، فقال لي: أ تدري من هو هذا؟ فقلت: لا، فقال لي: هذا شاكريّ ١ لسيّدنا العسكري (عليه السلام) أ فتشتهي أن تسمع من أحاديثه عنه شيئاً؟ قلت: نعم، فقال لي: معك شيء تعطيه؟ فقلت له: معي درهمان صحيحان، فقال: هما يكفيانه.
فمضيت خلفه فلحقته، فقلت له: أبو عليّ يقول لك تنشط للمصير إلينا؟ فقال: نعم، فجئنا إلى أبي عليّ بن همّام، فجلس إليه، فغمزني أبو عليّ أن أسلّم إليه الدرهمين، فقال لي: ما يحتاج إلى هذا، ثمّ أخذهما، فقال له أبو عليّ بن همّام: يا أبا عبد الله محمّد، حدّثنا عن العسكري (عليه السلام) بما رأيت، فقال: كان أستاذي صالحاً من بين العلويّين لم أر قطّ مثله، وكان يركب بسرج صفّته بزيون ٢ مسكي وأزرق، وكان يركب إلى دار الخلافه بسرّ من رأى في كلّ اثنين وخميس، وكان يوم النوبة يحضر من الناس شيء عظيم، ويغصّ الشارع بالدوابّ والبغال والحمير والضجّة، فلا يكون لأحد موضع يمشي ولا يدخل بينهم.
فإذا جاء أستاذي سكنت الضجّة، وهدأ صهيل الخيل ونهاق الحمير، وتفرّقت البهائم حتّى يصير الطريق واسعاً لا يحتاج أن يتوقّى من الدوابّ نحفّه ليزحمها، ثمّ يدخل فيجلس في مرتبته التي جعلت له. فإذا أراد الخروج وصاح البوّابون: هاتوا دابّة العسكري (عليه السلام) سكن صياح الناس وصهيل الخيل، وتفرّقت الدوابّ حتّى يركب ويمضي …
قال محمّد الشاكري: كان أستاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين، ما كان يشرب هذا النبيذ، كان يجلس في المحراب ويسجد فأنام وانتبه وأنام وهو ساجد، وكان قليل الأكل، كان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله، فيأكل منه الواحدة والاثنتين ويقول: شل هذا يا محمّد، إلى صبيانك، فأقول: هذا كلّه؟ فيقول: خذه، ما رأيت قطّ أسدى منه.
(٢) «البُزْيون»: السُّنْدُس. راجع: لسان العرب، ج١٣، ص٥٢
وجّه قوم من المفوّضة والمقصّرة كامل بن إبراهيم المدني إلى العسكري (عليه السلام) قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله لا يدخل الجنّة إلّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي؟ فلمّا دخلت على سيّدي العسكري (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان، وينهانا عن لبس مثله، فقال (عليه السلام) متبسّماً: يا كامل _ وحسر ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن علی جلده _ فقال (عليه السلام): هذا لله وهذا لكم.
ما دخلت قطّ على الهادي (عليه السلام) والعسكري (عليه السلام) إلّا رأيت منهما دلالة وبرهاناً، فدخلت على العسكري (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله ما أصوغ به خاتماً أتبرّك به، فجلست وأنسيت ما جئت له. فلمّا أردت النهوض رمى إليّ بخاتم، وقال: أردت فضّة فأعطيناك خاتماً، وربحت الفصّ والكرى، هنّاك الله.
قال أبو هاشم الجعفري: كنت في الحبس مع جماعة، فحبس العسكري (عليه السلام) وأخوه جعفر، فخفّفنا له وقبّلت وجه الحسن (عليه السلام) وأجلسته على مضربة كانت عندي، وجلس جعفر قريباً منه، فقال جعفر: واشيطناه _ بأعلى صوته يعني جارية له _ فضجره أبو محمّد، وقال له: اسكت، وإنّهم رأوا فيه أثر السكر، وكان المتولّي حبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في الحبس رجل جمحيّ يدّعي أنّه علويّ.
فالتفت العسكري (عليه السلام) وقال: لولا أنّ فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرّج الله عنكم، وأومأ إلی الجمحي، فخرج، فقال العسكري (عليه السلام): هذا الرجل ليس منكم، فاحذروه، فإنّ في ثيابه قصّة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه، فقام بعضهم ففتّش ثيابه، فوجد فيها القصّة يذكرنا فيها بكلّ عظيمة، ويعلمه أنّا نريد أن ننقب الحبس ونهرب.
كان الحسن (عليه السلام) يصوم، فإذا أفطر أكلنا معه، وما كان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة فضعفت يوماً عن الصوم، فأفطرت في بيت آخر على كعكة، وما شعر بي أحد، ثمّ جئت فجلست معه، فقال لغلامه: أطعم أبا هاشم شيئاً فإنّه مفطر، فتبسّمت، فقال (عليه السلام): ما تضحك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوّة فكل اللحم، فإنّ الكعك لا قوّة فيه، فقلت: صدق الله ورسوله، وأنتم عليكم السلام، فأكلت فقال (عليه السلام): أفطر ثلاثاً، فإنّ له المنّة، لا ترجع لمن أنهكه الصوم في أقلّ من ثلاث. فلمّا كان في اليوم الذي أراد الله أن يفرّج عنه، جاءه الغلام فقال: يا سيّدي، أحمل فطورك؟ قال (عليه السلام): احمل وما أحسبنا نأكل منه، فحمل الطعام الظهر، وأطلق عنه العصر وهو صائم، فقالوا: كلوا، هداكم الله.
«فخفّفنا له»، أي أسرعنا إلى خدمته، وفي بعض النسخ: «فحففنا به» _ بالحاء المهملة _ من قولهم: «حفّه»، أي أطاف به؛ و«الجونة»: الخابية مطليّة بالقار؛ و«المنّة» _ بالضمّ _: القوّة.
قال أبوهاشم الجعفري: سأل العسكري (عليه السلام) الفهفكي: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً، ويأخذ الرجل سهمين؟ قال (عليه السلام): لأنّ المرأة ليس لها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة، إنّما ذلك على الرجال.
فقلت في نفسي: قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق (عليه السلام) عن هذه المسألة، فأجابه بمثل هذا الجواب، فأقبل عليّ، فقال (عليه السلام): نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم والأمر سواء، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فضلهما.
قال العسكري (عليه السلام): إنّ في الجنّة باباً یقال له المعروف، لا يدخله إلّا أهل المعروف، فحمدت الله في نفسي، وفرحت بما أتكلّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال: نعم، فدم على ما أنت عليه، فإنّ أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، جعلك الله منهم _ يا أبا هاشم _ ورحمك.
سئل العسكري (عليه السلام) عن قوله تعالی: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَا فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٌ لِّنَفۡسِهِ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٌ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَاتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾، قال: كلّهم من آل محمّد (عليهم السلام)، الظالم لنفسه: الذي لا يقرّ بالإمام، المقتصد: العارف بالإمام، و﴿سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَاتِ﴾: الإمام.
فجعلت أفكّر في نفسي عظم ما أعطى الله آل محمّد (عليهم السلام) وبكيت، فنظر إليّ وقال (عليه السلام): الأمر أعظم ممّا حدّثت به نفسك من عظم شأن آل محمّد (عليهم السلام) فاحمد الله أن جعلك متمسّكاً بحبلهم تدعى يوم القيامة بهم إذا دعي كلّ أناس بإمامهم، إنّك على خير.
قال أبوهاشم الجعفري: ركب العسكري (عليه السلام) يوماً إلى الصحراء، فركبت معه، فبينما يسير قدّامي وأنا خلفه، إذ عرض لي فكر في دين كان عليّ قد حان أجله، فجعلت أفكّر في أيّ وجه قضاؤه، فالتفت إليّ وقال (عليه السلام): «الله يقضيه»، ثمّ انحنى على قربوس سرجه فخطّ بسوطه خطّة في الأرض، فقال (عليه السلام): «يا أبا هاشم، انزل، فخذ واكتم»، فنزلت وإذا سبيكة ذهب، فوضعتها في خفّي وسرنا، فعرض لي الفكر فقلت: إن كان فيها تمام الدين وإلّا فإنّي أرضي صاحبه بها، ويجب أن ننظر في وجه نفقة الشتاء، وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها.
فالتفت إليّ ثمّ انحنى ثانية فخطّ بسوطه مثل الأولى. ثمّ قال (عليه السلام): «انزل، وخذ واكتم،». فنزلت، فإذا بسبيكة، فجعلتها في الخفّ الآخر، وسرنا يسيراً ثمّ انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي. فجلست وحسبت ذلك الدين، وعرفت مبلغه، ثمّ وزنت سبيكة الذهب، فخرج بقسط ذلك الدين ما زادت ولا نقصت، ثمّ نظرت ما نحتاج إليه لشتوتي ١ من كلّ وجه، فعرفت مبلغه الذي لم يكن بدّ منه على الاقتصاد بلا تقتير ولا إسراف، ثمّ وزنت سبيكة الفضّة، فخرجت على ما قدّرته ما زادت ولا نقصت.
قال أبو هاشم الجعفري: شكوت إلى العسكري (عليه السلام) ضيق الحبس وشدّة القيد، فكتب إليّ: «أنت تصلّي الظهر في منزلك، فأخرجت عن السجن وقت الظهر، فصلّيت في منزلي». وكنت مضيّقاً فأردت أن أطلب منه معونةً في الكتاب الذي كتبته فاستحييت، فلمّا صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمائة دينار، وكتب إليّ: «إذا كانت لك حاجة فلا تستحي، واطلبها تأتيك على ما تحبّ أن تأتيك».
قال الحلبي: اجتمعنا بالعسكر وترصّدنا للعسكري (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه: «ألا، لا يسلّمنّ عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمنون على أنفسكم» وإلى جانبي شابّ، فقلت: من أين أنت؟ قال: من المدينة، قلت: ما تصنع ههنا؟ قال: اختلفوا عندنا في العسكري (عليه السلام) فجئت لأراه وأسمع منه أو أرى منه دلالة ليسكن قلبي، وإنّي لولد أبي ذرّ الغفاري.
فبينما نحن كذلك إذ خرج العسكري (عليه السلام) مع خادم له، فلمّا حاذانا نظر إلى الشابّ الذي بجنبي، فقال (عليه السلام): أ غفاريّ أنت؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): ما فعلت أمّك حمدوية؟ فقال: صالحة ومرّ، فقلت للشابّ: أ كنت رأيته قطّ وعرفته بوجهه قبل اليوم؟ قال: لا، قلت: فينفعك هذا؟ قال: ودون هذا.
قحط الناس بسرّ من رأى في زمن الحسن العسكري (عليه السلام) فأمر الخليفة الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيّام متوالية إلى المصلّى ويدعون فما سقوا. فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب، فلمّا مدّ يده هطلت السماء بالمطر فشكّ أكثر الناس، وتعجّبوا وصبّوا إلى دين النصرانية.
فأنفذ الخليفة إلى الحسن العسكري (عليه السلام) _ وكان محبوساً فاستخرجه من محبسه _ وقال: الحق أمّة جدّك، فقد هلكت، فقال (عليه السلام): إنّي خارج في الغد ومزيل الشكّ إن شاء الله تعالی. فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه، وخرج الحسن (عليه السلام) في نفر من أصحابه، فلمّا بصر بالراهب وقد مدّ يده، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه، ففعل وأخذ من بين سبابتيه عظماً أسود، فأخذه الحسن (عليه السلام) بيده ثمّ قال له: استسق الآن، فاستسقى وكان السماء متغيّماً فتقشّعت وطلعت الشمس بيضاء.
فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمّد؟ قال (عليه السلام): هذا رجل مرّ بقبر نبيّ من الأنبياء، فوقع إلى يده هذا العظم، وما كشف من عظم نبيّ إلّا وهطلت السماء بالمطر.
قال أبو بكر الفهفكي: أردت الخروج بسرّ من رأى لبعض الأمور _ وقد طال مقامي بها _ فغدوت يوم الموكب، وجلست في شارع أبي قطيعة ابن داود، إذ طلع العسكري (عليه السلام) يريد دار العامّة، فلمّا رأيته قلت في نفسي: أقول له: يا سيّدي، إن كان الخروج عن سرّ من رأى خيراً فأظهر التبسّم في وجهي، فلمّا دنا منّي تبسّم تبسّماً جيّداً، فخرجت من يومي، فأخبرني أصحابنا أنّ غريماً كان له عندي مال قدم يطلبني، ولو ظفر بي يهتكني، لأنّ ماله لم يكن عندي شاهداً.
كتب بعض أصحابنا إلى العسكري (عليه السلام) من أهل الجبل، يسأله عمّن وقف على موسى الكاظم (عليه السلام)، أتولّاهم أم أتبرّأ منهم؟ فكتب (عليه السلام): «أ تترحّم على عمّك؟ لا رحم الله عمّك، وتبرّأ منه، أنا إلى الله منهم بريء، فلا تتوالاهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً سواء من جحد إماماً من الله أو زاد إماماً ليست إمامته من الله وجحد» أو قال (عليه السلام): « ثالث ثلاثة، إنّ الجاحد أمر آخرنا جاحد أمر أوّلنا، والزائد فينا كالناقص الجاحد أمرنا». وكان هذا السائل لم يعلم أنّ عمّه كان منهم، فأعلمه ذلك.
قال إدريس بن زياد الكفرتوثائي: كنت أقول فيهم ١ قولاً عظيماً، فخرجت إلى العسكر للقاء العسكري (عليه السلام) فقدمت وعليّ أثر السفر ووعثاؤه ٢ ، فألقيت نفسي على دكّان حمّام فذهب بي النوم، فما انتبهت إلّا بمقرعة العسكري (عليه السلام) قد قرعني بها حتّى استيقظت، فعرفته، فقمت قائماً أقبّل قدمه وفخذه وهو راكب والغلمان من حوله، فكان أوّل ما تلقّاني به أن قال: يا إدريس، ﴿بَلۡ عِبَادٌ مُّكۡرَمُونَ ۞ لَا يَسۡبِقُونَهُ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِ يَعۡمَلُونَ﴾، فقلت: حسبي يا مولاي، وإنّما جئت أسألك عن هذا، فتركني ومضى.
(٢) «وَعْثاء السفر»: مشقّته. كتاب العين، ج٢، ص٢٣١.
قال محمّد بن عباس ١ : تذاكرنا آيات الإمام (عليه السلام) فقال ناصبيّ: «إذا أجاب عن كتاب أكتبه بلا مداد علمت أنّه حقّ»، فكتبنا مسائل وكتب الرجل بلا مداد على ورق وجعل في الكتب، وبعثنا إليه، فأجاب عن مسائلنا، وكتب على ورقة اسمه واسم أبويه، فدهش الرجل، فلمّا أفاق اعتقد الحقّ.
قال محمّد بن الأقرع: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) أسأله عن الإمام هل يحتلم؟ وقلت في نفسي _ بعدما فصل الكتاب _: الاحتلام شيطنة، وقد أعاذ الله أولياءه من ذلك، فردّ (عليه السلام) الجواب: «الأئمّة حالهم في المنام حالهم في اليقظة، لا يغيّر النوم منهم شيئاً، قد أعاذ الله أولياءه من لمّة الشيطان، كما حدّثتك نفسك».
قال الحسن بن طريف: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) أسأله: ما معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): «من كنت مولاه فعليّ مولاه»؟ قال (عليه السلام): أراد بذلك أن جعله علماً يعرف به حزب الله عند الفرقة.
قال الحسن بن طریف: كتبت إلى العسكري (عليه السلام) وقد تركت التمتّع ثلاثين سنة وقد نشطت لذلك، وكان في الحيّ امرأة وصفت لي بالجمال، فمال إليها قلبي، وكانت عاهراً لا تمنع يد لامس فكرهتها، ثمّ قلت: قد قال: تمتّع بالفاجرة، فإنّك تخرجها من حرام إلى حلال.
فكتبت إلى العسكري (عليه السلام) أشاوره في المتعة، وقلت: أ يجوز بعد هذه السنين أن أتمتّع؟ فكتب (عليه السلام): «إنّما تحيي سنّة وتميت بدعة، ولا بأس، وإيّاك وجارتك المعروفة بالعهر، وإن حدّثتك نفسك أنّ آبائي قالوا: تمتّع بالفاجرة، فإنّك تخرجها من حرام إلى حلال، فهذه امرأة معروفة بالهتك، وهي جارة وأخاف عليك استفاضة الخبر فيها».
فتركتها ولم أتمتّع بها، وتمتّع بها شاذان بن سعد رجل من إخواننا وجيراننا، فاشتهر بها حتّى علا أمره، وصار إلى السلطان وغرم بسببها مالاً نفيساً، وأعاذني الله من ذلك ببركة سيّدي (عليه السلام).
قال أبو سهل البلخي: كتب رجل إلى العسكري (عليه السلام) يسأله الدعاء لوالديه وكانت الأمّ غالية والأب مؤمناً؟ فوقّع (عليه السلام): «رحم الله والدك». وكتب آخر: يسأل الدعاء لوالديه، وكانت الأمّ مؤمنة والأب ثنويّاً، فوقّع (عليه السلام): «رحم الله والدتك». والتاء منقوطة بنقطتين من فوق ١ .
قال أبو القاسم الهروي: خرج توقيع من العسكري (عليه السلام) إلى بعض بني أسباط، قال: كتبت إليه أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل، فكتب إليّ: «وإنّما خاطب الله عزّ وجلّ العاقل ليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر ممّا جاء به خاتم النبيّين وسيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: ساحر وكاهن وكذّاب، وهدى الله من اهتدى، غير أنّ الأدلّة يسكن إليها كثير من الناس، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يأذن لنا فنتكلّم، ويمنع فنصمت.
ولو أحبّ أن لا يظهر حقّاً، ما بعث النبيّين مبشّرين ومنذرين، فصدعوا بالحقّ في حال الضعف والقوّة، وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره، وينفذ حكمه الناس في طبقات شتّی، والمستبصر على سبيل نجاة متمسّك بالحقّ متعلّق بفرع أصيل، غير شاكّ ولا مرتاب، لا يجد عنه ملجأ، وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه، ويسكن عند سكونه، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان، شأنهم الردّ على أهل الحقّ، ودفع الحقّ بالباطل، حسداً من عند أنفسهم، فدع من ذهب يذهب يميناً وشمالاً، فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.
ذكرت ما اختلف فيه مواليّ، فإذا كانت الوصيّة والكبر فلا ريب، ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم، أحسن رعاية من استرعيت، وإيّاك والإذاعة وطلب الرئاسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة. ذكرت شخوصك إلى فارس، فاشخص، خار الله لك، وتدخل مصر إن شاء الله آمناً وأقرِئ من تثق به من مواليّ السلام، ومرهم بتقوى الله العظيم، وأداء الأمانة، وأعلمهم أنّ المذيع علينا حرب لنا». قال: فلمّا قرأت: «وتدخل مصر إن شاء الله» لم أعرف معنى ذلك، فقدمت إلى بغداد، وعزيمتي الخروج إلى فارس، فلم يتهيّأ ذلك، فخرجت إلى مصر.
قال أبو هاشم: كتب إليه (عليه السلام) بعض مواليه يسأله أن يعلّمه دعاء، فكتب إليه أن ادع بهذه الدعاء: « يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، يا عزّ الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلّ على محمّد وآل محمّد، وأوسع لي في رزقي، ومدّ لي في عمري، وامنن عليّ برحمتك، واجعلني ممّن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل بي غيري».
قال أبو هاشم: فقلت في نفسي: «اللّهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك»، فأقبل عليّ العسكري (عليه السلام) فقال: أنت في حزبه وفي زمرته، إذ كنت بالله مؤمناً، ولرسوله مصدّقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فأبشر، ثمّ أبشر.
قال محمّد بن الحسن بن ميمون: كتبت إلي العسكري (عليه السلام) أشكو الفقر، ثمّ قلت في نفسي: أ ليس قد قال الصادق (عليه السلام): «الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدوّنا»؟ فرجع الجواب: «إنّ الله عزّ وجلّ يخصّ أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير منهم كما حدّثتك نفسك، الفقر معنا خير من الغنی مع عدوّنا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استبصر بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبّنا كان معنا في السنام الأعلی، ومن انحرف عنّا فإلی النار».
قال الفضل بن الحارث: كنت بسرّ من رأى وقت خروج سيّدي الهادي (عليه السلام) فرأينا العسكري (عليه السلام) ماشياً قد شقّ ثوبه، فجعلت أتعجّب من جلالته وهو له أهل، ومن شدّة اللون والأدمة، وأشفق عليه من التعب، فلمّا كان من الليل رأيته في منامي، فقال (عليه السلام): اللون الذي تعجّبت منه اختبار من الله لخلقه، يختبر به كيف يشاء، وإنّها ﴿لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰارِ﴾، لا يقع فيه على المختبر ذمّ، ولسنا كالناس فنتعب ممّا يتعبون، نسأل الله الثبات والتفكّر في خلق الله فإنّ فيه متّسعاً، إنّ كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة.
كان العسكري (عليه السلام) يلعن عروة بن يحيى، وذلك أنّه كانت للعسكري (عليه السلام) خزانة وكان يليها أبو عليّ بن راشد (رحمه الله) فسلّمت إلى عروة فأخذها لنفسه، ثمّ أحرق باقي ما فيها يغايظ بذلك العسكري (عليه السلام) فلعنه وبرئ منه، ودعا عليه، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتّى قبضه الله إلى النار. فقال (عليه السلام): جلست لربّي في ليلتي هذه كذا وكذا جلسة، فما انفجر عمود الصبح، ولا انطفأ ذلك النار، حتّى قتل الله عروة _ لعنه الله _.