- جواهر البحار
- » تتمة كتاب السماء والعالم
- » أحاديث في حقيقة النفس والروح وأحوالهما
قال الفخر الرازي: اعلم أنّ العلم الضروري حاصل بأنّ هاهنا شيئاً إليه يشير الإنسان بقوله: «أنا» وإذا قال الإنسان: علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكلّ أحد بقوله «أنا» إمّا أن يكون جسماً أو عرضاً أو مجموع الجسم والعرض أو ما تركّب من الجسم والعرض وذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول.
أمّا القسم الأوّل: وهو أن يقال: الإنسان جسم، فذلك الجسم إمّا أن يكون هو هذه البنية أو جسماً داخلاً في هذه البنية أو جسماً خارجاً عنها، أمّا القائلون بأنّ الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وهذا الهيكل المجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوساً فقد بطل كلامهم بالكلّية.
والذي يدلّ على أنّه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وجوه:
الأوّل: أنّ العلم البديهي حاصل بأنّ أجزاء هذه الجثة متبدّلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النموّ والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأنّ المتبدل المتغيّر مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاث العلم القطعي بأنّه ليس عبارة عن مجموع هذه الجثّة.
الثاني: أنّ الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجّه الهمّة نحو أمر مخصوص، فإنّه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعيّنة بدليل أنّه في تلك الحالة قد يقول: غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه المخصوصة فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كلّ واحد من أعضائه وأبعاضه.
الثالث: أنّ كلّ أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كلّ واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه، فيقول: رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي وبدني والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكلّ واحد من هذه الأعضاء.
فإن قالوا: فقد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أنّ نفس الشيء وذاته مغايرة لنفسه وذاته وذلك محال. قلنا: قد يراد بـ «نفس الشيء وذاته»: هذا البدن المخصوص، وقد يراد بـ «نفس الشيء وذاته»، الحقيقة المخصوصة التي إليها يشير كلّ أحد بقوله «أنا»، فإذا قال: نفسي وذاتي كان المراد منه البدن وعندنا أنّه مغاير لجوهر الإنسان.
الرابع: أنّ كلّ دليل يدلّ على أنّ الإنسان يمتنع أن يكون جسماً فهو أيضاً يدلّ على أنّه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل.
الخامس: أنّ الإنسان قد يكون حيّاً حال ما يكون البدن ميّتاً فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن والدليل على صحّة ما ذكرناه قوله تعالی ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢا بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ﴾ فهذا النص صريح في أنّ أولئك المقتولين أحياء والحسّ يدلّ على أنّ هذا الجسد ميتة.
السادس: أنّ قوله تعالی ﴿ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ وقوله ﴿أُغۡرِقُواْ فَأُدۡخِلُواْ نَاراً﴾ يدلّ على أنّ الإنسان حيّ بعد الموت، وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الأنبياء لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار» وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران». وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مات فقد قامت قيامته». وأنّ كلّ هذه النصوص يدلّ على أنّ الإنسان حيّ يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدتان بأنّ هذا الجسد ميّت ولو جوّزنا كونه حيّاً كان يجوز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة، وإذا ثبت أنّ الإنسان حيّ ما كان الجسد ميّتاً لزم أنّ الإنسان شيء غير هذا الجسد.
السابع: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة طويلة له: حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي ويا ولدي، لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال من حلّه ومن غير حلّه، فالمهنّأ لغيري والتبعة عليّ، فاحذروا مثل ما حلّ بي.
وجه الاستدلال: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صرّح بأنّ حال كون الجسد محمولاً على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول: يا أهلي ويا ولدي، جمعت المال من حلّه وغير حلّه ومعلوم أنّ الذي كان الأهل أهلاً له وكان الولد ولداً له وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال والذي بقي في ربقته الوبال ليس إلّا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأنّ في الوقت الذي كان الجسد ميّتاً محمولاً على النعش كان ذلك الإنسان حيّاً باقياً فاهماً وذلك تصريح بأنّ الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد والهيكل.
الثامن: قوله تعالی ﴿يَـٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ۞ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةً﴾ والخطاب بقوله ﴿ٱرۡجِعِيٓ﴾ إنّما يتوجّه إليها حال الموت، فدلّ هذا على أنّ الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون راضياً مرضيّاً عند الله والذي يكون راضياً مرضيّاً ليس إلّا الإنسان فهذا يدلّ على أنّ الإنسان بقي حيّاً بعد موت الجسد والحيّ غير الميّت، فالإنسان مغاير لهذا الجسد.
التاسع: قوله تعالی: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ ۞ ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّ﴾ أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم الحقّ عند كون الجسد ميّتاً فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميّت.
العاشر: ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدّقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولو لا أنّهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدّق لهم عبثاً ولكان الدعاء لهم عبثاً ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً، فإطباق الكلّ على هذه الصدقة والدعاء والزيارة يدلّ على أنّ فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأنّ الإنسان شيء غير هذا الجسد وأنّ ذلك الشيء لا يموت بموت هذا الجسد.
الحادي عشر: أنّ كثيراً من الناس يرى أباه وابنه في المنام ويقول له: اذهب إلى الموضع الفلاني، فإنّ فيه ذهباً دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثمّ عند اليقظة إذا فتّش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولو لا أنّ الإنسان باقٍ حيّ بعد الموت لما كان كذلك ولما دلّ هذا الدليل على أنّ الإنسان حيّ بعد الموت ودلّ الحسّ على أنّ الجسد ميّت كان الإنسان مغايراً لهذا الجسد.
الثاني عشر: أنّ الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه ورجلاه وتقلع عيناه وتقطّع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإنّ ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنّه هو عين ذلك الإنسان من غير تفاوت البتّة حتّى أنّه يقول: أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلّا أنّهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أنّ ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.
الثالث عشر: أنّ القرآن والأحاديث يدلّان على أنّ جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول: ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق؟ فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلق خنزير أو قردة وليس هذا من المسخ في شيء، وإن قلنا إنّ ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ، فنقول: فعلى هذا التقدير الإنسان باقٍ وتلك البنية وذلك الهيكل غير باقٍ فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية.
الرابع عشر: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرى جبرئيل في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فهنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أنّ الحقيقة الإنسانية غير حاصلة، وهذا يدلّ على أنّ الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل.
الخامس عشر: أنّ الزاني يزني بفرجه ويضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئاً آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إنّ ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون الملتذّ والمتألّم هو ذلك الشيء إلّا أنّه يحصل اللذّة بواسطة ذلك العضو ويتألّم بواسطة الضرب على هذا العضو.
السادس عشر: أنّي إذا تكلّمت مع زيد وقلت له: «افعل كذا ولا تفعل كذا» فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهيّ ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيء من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهيّ والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء وذلك يدلّ على أنّ ذلك المأمور والمنهيّ غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المأمور والمنهيّ جملة هذا البدن لا شيء من أجزائه وأبعاضه، قلنا: توجيه التكليف إلى الجملة إنّما يصحّ لو كانت الجملة فاهمة عالمة، فنقول: لو كانت الجملة عالمة، فإمّا أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكلّ واحد من أجزاء البدن علم على حده والأوّل يقتضي قيام العرض الواحد بالمحالّ الكثيرة وهو محال، والثاني: يقتضي أن يكون كلّ واحد من أجزاء البدن عالماً فاهماً على سبيل الاستقلال وقد بيّنّا أنّ العلم الضروري حاصل بأنّ الجزء المعيّن من البدن ليس عالماً فاهماً مدركاً بالاستقلال، فسقط هذا السؤال.
السابع عشر: الإنسان يجب أن يكون عالماً والعلم لا يحصل إلّا في القلب، فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأنّ الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثّة إنّما قلنا: إنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً لأنّه فاعل مختار، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد إلى تكوينه وهما مشروطان بالعلم لأنّ ما لا يكون متصوّراً امتنع القصد إلى تكوينه، فثبت أنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء وإنّما قلنا إنّ العلم لا يوجد إلّا في القلب للبرهان والقرآن، أمّا البرهان فلأنّا نجد العلم الضروري بأنّا نجد علومنا من ناحية القلب وأمّا القرآن فآيات نحو قوله تعالى:﴿لَهُمۡ قُلُوبٌ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا﴾ وقوله:﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَانَ﴾ وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ۞ عَلَىٰ قَلۡبِكَ﴾ وإذا ثبت أنّ الإنسان يجب أن يكون عالماً وثبت أنّ العلم ليس إلّا في القلب، ثبت أنّ الإنسان شيء في القلب أو شيء له تعلّق بالقلب وعلى التقديرين فإنّه بطل قول من يقول إنّ الإنسان هو هذا الجسد وهذا الهيكل.
ذكر الفخر الرازي حججاً عقليّة طويلة الذيل على إثبات النفس ومغايرتها للبدن.
منها: أنّ النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكلّ واحد من أجزائه، أمّا كونها واحدة فتارة ادّعى البداهة فيه وتارة استدلّ عليه بوجوه: منها أنّا إذا فرضنا جوهرين مستقلّين يكون كلّ واحد منهما مستقلّاً بفعله الخاصّ امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاصّ به مانعاً لاشتغال الآخر بفعله الخاصّ به وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان محلّ الإدراك والفكر جوهراً ومحلّ الغضب جوهراً آخر ومحلّ الشهوة جوهراً ثالثاً وجب أن لا يكون اشتغال القوّة الغضبية بفعلها مانعاً للقوّة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكنّ التالي باطل، فإنّ اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه وبالعكس، فعلمنا أنّ هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلّة بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد، فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقاً له عن الاشتغال بالفعل الآخر.
ومنها: أنّ حقيقة الحيوان أنّه جسم ذو نفس حسّاسة متحرّكة بالإرادة، فالنفس لا يمكنها أن تتحرّك بالإرادة إلّا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلّا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرّك بالإرادة هو بعينه مدركاً للخير والشرّ والملذّ والموذي والنافع والضارّ، فثبت بما ذكرنا أنّ النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أنّ ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشامّ والذائق واللامس والمتخيّل والمتفكّر والمتذكّر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات لكلّ المدركات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية.
ثمّ قال: وأمّا المقدّمة الثانية فهي في بيان أنّه لمّا كانت النفس شيئاً واحداً وجب أن لا يكون النفس هذا البدن ولا شيئاً من أجزائه وأمّا امتناع كونها جملة هذا البدن، فتقريره أنّا نعلم بالضرورة أنّ القوّة الباصرة غير سارية في كلّ البدن وكذا القوّة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيّل والتذكّر والتفكّر والعلم بأنّ هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية.
وأمّا بيان أنّه يمتنع أن يكون النفس جزءاً من أجزاء البدن، فإنّا نعلم بالضرورة أنّه ليس في البدن جزء واحد هو بعينه موصوف بالإبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أنّ الإبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال، فأمّا أن يقال: إنّه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكلّ هذه الإدراكات وكلّ هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل أنّه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرناه أنّ النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهة أنّ جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضاً أنّ شيئاً من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذٍ يحصل اليقين بأنّ النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكلّ واحد من أجزائه وهو المطلوب.
ولنقرّر هذا البرهان بعبارة أخرى نقول: إنّا نعلم بالضرورة أنّا إذا أبصرنا شيئاً عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حرّكنا أبداننا إلى القرب منه، فوجب القطع بأنّ الذي أبصر هو الذي عرف وأنّ الذي عرف هو الذي اشتهى وأنّ الذي اشتهى هو الذي حرّك إلى القرب منه، فيلزم القطع بأنّ المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي إليه والمحرّك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئاً والعارف شيئاً ثانياً والمشتهي شيئاً ثالثاً والمحرّك شيئاً رابعاً لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته، والذي اشتهى لم يحرّك لكن من المعلوم أنّ كون شيء مبصراً لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالماً بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضاً فإنّا نعلم بالضرورة أنّ الرائي للمرئيّات أنا وأنّي لمّا رأيتها عرفتها ولمّا عرفتها اشتهيتها ولمّا اشتهيتها طلبتها وحرّكت الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضاً بالضرورة أنّ الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذه الشهوة وبهذا التحريك أنا لا غيري وأيضاً العقلاء قالوا الحيوان لا بدّ وأن يكون حسّاساً متحرّكاً بالإرادة، فإن لم يحسّ بشيء لم يشعر بكونه ملائماً وبكونه منافراً وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريداً للجذب أو الدفع فثبت أنّ الشيء الذي يكون متحرّكاً بالإرادة، فإنّه بعينه يجب أن يكون حسّاساً فثبت أنّ المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات وأنّ المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد.
وأيضاً فإنّا إذا تكلّمنا بكلام لقصد تفهيم الغير معاني تلك الكلمات فقد عقلناها وأردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولمّا حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسّل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني.
إذا ثبت هذا فنقول: إن كان محلّ العلم والإرادة ومحلّ تلك الحروف والأصوات جسماً واحداً لزم أن يقال: إنّ محلّ العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنّه ليس كذلك وإن قلنا: إنّ محلّ العلوم والإرادات هو القلب لزم أن يكون محلّ الصوت هو القلب أيضاً وذلك باطل أيضاً بالضرورة وإن قلنا: إنّ محلّ الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحلّ العلوم والإرادات هو القلب ومحلّ القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات، كنّا قد وزّعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنّا أبطلنا ذلك وبيّنّا أنّ المدرك لجميع الإدراكات والإرادات والمحرّك لجميع الأعضاء بجميع أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئاً واحداً فلم يبق إلّا أن يقال محلّ الإدراك والقدرة على التحريك شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأنّ هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات، فكما أنّ النجّار يفعل أفعالاً مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكّر بالدماغ وتعقل بالقلب، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها وذات النفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلّق بها تعلّق التصرّف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقينيّ في هذا المطلوب وبالله التوفيق.
ومنها: أنّه لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إمّا أن يقوم بكلّ واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بجميع الأجزاء حياة وعلم وقدرة واحدة والقسمان باطلان: أمّا الأوّل فلأنّه يقتضي كون كلّ واحد من أجزاء الجسد حيّاً عالماً قادراً على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيواناً واحداً، بل أحياء عالمين قادرين وحينئذٍ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم بالبعض بالسلسلة، لكنّا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأنّي أجد ذاتي ذاتاً واحدة وحيواناً لا حيوانات كثيرين وأيضاً فبتقدير أن يكون كلّ واحد من أجزاء هذا الجسد حيواناً واحداً على حدة فحينئذٍ لا يكون لكلّ واحد منها خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا الجزء أن يتحرّك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآخر أن يتحرّك إلى الجانب الآخر فحينئذٍ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين الشخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأمّا الثاني: فلأنّه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحالّ الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة مع أنّه يعود المحذور السابق أيضاً.
ومنها: أنّا لمّا تأمّلنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضدّ من أحوال الجسم وذلك يدلّ على أنّ النفس ليست جسماً وتقرير هذه المنافاة من وجوه:
الأوّل: أنّ كلّ جسم حصلت فيه صورة فإنّه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلّا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالاً تامّاً. مثاله أنّ البصر إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلّا بعد زوال الشكل الأوّل عنه ثمّ إنّا وجدنا الحالّ في قبول النفس لصور المعقولات بالضدّ من ذلك، فإنّ النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتّة يعسر قبولها لشيء من الصور العقلية، فإذا قبلت صورة واحدة كان قبولها للصورة الثانية أسهل، وإذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة أسهل، ثمّ إنّ النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتّة، بل كلّما كان قبولها للصور أكثر كان قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهماً وإدراكاً. كلّما ازداد تخريجاً وارتياضاً للعلوم فثبت أنّ قبول النفس للصورة العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أنّ النفس ليست بجسم.
والثاني: أنّ المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن. أمّا أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس عن القوّة إلى الفعل في التعقّلات والإدراكات وكلّما كانت الأفكار أكثر، كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأمّا أثرها في البدن فهو أنّها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرّت لانتهت إلى الماليخوليا وموت البدن، فثبت بما ذكرنا أنّ هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد سبباً لكماله ونقصانه معاً ولحياته وموته معاً وإنّه محال.
والثالث: أنّا شاهدنا أنّه ربما كان بدن الإنسان ضعيفاً نحيفاً، فإذا لاح نور من الأنوار القدسية وتجلّى له سرّ من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جرأة عظيمة وسلطنة قويّة ولم يعبأ بحضور أكبر السلاطين ولم يقم له وزناً ولولا أنّ النفس شيء سوى البدن والنفس إنّما تحيا وتبقى بغير ما به يقوى البدن ويحيا لما كان الأمر كذلك.
والرابع: أنّ أصحاب الرياضات والمجاهدات كلّما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلّما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوات الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروماً عن آثار النظر والعقل والفهم والمعرفة ولو لا أنّ النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.
والخامس: أنّا نرى النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية، فإنّها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل، أمّا إذا آل الأمر إلى التعقّل والإدراك فإنّها مستقلّة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإنّ الإنسان يمكنه أن لا يبصر شيئاً إذا غمض عينه وأن لا يسمع شيئاً إذا سدّ أذنيه ولا يمكنه البتّة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالماً به فعلمنا أنّ النفس غنيّة بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه أمارات قويّة في أنّ النفس ليست بجسم.
ذكر الفخر الرازي في إثبات أنّ النفس ليست بجسم وجوهاً من الدلائل السمعية:
الأوّل: قوله تعالی ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡ﴾ ومعلوم أنّ أحداً من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد، فدلّ ذلك على أنّ النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.
الثاني: قوله تعالی ﴿أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُ﴾ وهذا صريح في أنّ النفس غير هذا الجسد.
الثالث: أنّه تعالی ذكر مراتب الخلقة الجسمانية، فقال: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَانَ مِن سُلَٰلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ إلى قوله ﴿فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَامَ لَحۡماً﴾ ولا شكّ أنّ جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثمّ إنّه تعالی لمّا أراد أن يذكر نفخ الروح قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأۡنَاهُ خَلۡقاً ءَاخَرَ﴾ وهذا تصريح بأنّ ما يتعلّق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيّرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدلّ على أنّ الروح شيء مغاير للبدن.
فإن قالوا هذه الآية حجّة عليكم، لأنّه تعالی قال: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَانَ مِن سُلَٰلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ وكلمة «من» للتبعيض وهذا يدلّ على أنّ الإنسان بعض من أبعاض الطين، قلنا: كلمة «من» أصلها لابتداء الغاية، كقولك: خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَانَ مِن سُلَٰلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه، لأنّه تعالی يسوّي المزاج أوّلاً ثمّ ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من سلالة.
الرابع: قوله ﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ ميّز تعالی بين التسوية وبين نفخ الروح، فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء ثمّ أضاف الروح إلى نفسه بقوله من روحي دل ذلك على أن جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد.
الخامس: قوله تعالی: ﴿وَنَفۡسٍ وَمَا سَوَّىٰهَا ۞ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ وهذه الآية صريحة في وجود النفس موصوفة بالإدراك والتحريك معاً لأنّ الإلهام عبارة عن الإدراك وأمّا الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أنّ الإنسان شيء واحد وهو موصوف بالإدراك والتحريك وهو موصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى أخرى ومعلوم أنّ جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين وليس في البدن عضو واحد موصوف بهذين الوصفين فلا بدّ من إثبات جوهر واحد يكون موصوفاً بكلّ هذه الأمور.
السادس: قوله تعالی: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَانَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٍ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيراً﴾ فهذا تصريح بأنّ الإنسان شيء واحد وذلك الشيء الواحد هو المبتلى بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك، وليس عضو من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير جملة البدن ومغاير أجزاء البدن وهو الموصوف بهذه الصفات.
واعلم أنّ الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلّقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكلّ ذلك يدلّ على أنّ النفس غير هذا الجسد والعجب ممّن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثمّ يقول توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان يعرف ما الروح وهذا من العجائب.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ للجسم ستّة أحوال: الصحّة والمرض والموت والحياة والنوم واليقظة وكذلك الروح فحياتها علمها وموتها جهلها ومرضها شكها وصحّتها يقينها ونومها غفلتها ويقظتها حفظها.
قال الصادق (عليه السلام): مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به وقال: إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تواكله وإنّما هي كلل للبدن محيطة به.
قال الصادق (عليه السلام): خلق أعظم ١ من جبرئيل وميكائيل وهو مع الأئمّة يفقّههم وهو من الملكوت.
روي عن أبي الحسن (عليه السلام) ١ يقول: إنّ المرء إذا نام، فإنّ روح الحيوان باقية في البدن والذي يخرج منه روح العقل، فقال عبد الغفّار الأسلمي: يقول الله عزّ وجلّ: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» إلى قوله «إلى أجل مسمى» أ فليس ترى الأرواح كلّها تصير إليه عند منامها فيمسك ما يشاء ويرسل ما يشاء. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إنّما يصير إليه أرواح العقول. فأمّا أرواح الحياة فإنّها في الأبدان لا يخرج إلّا بالموت ولكنّه إذا قضى على نفس الموت قبض الروح الذي فيه العقل ولو كانت روح الحياة خارجة لكان بدناً ملقى لا يتحرّك ولقد ضرب الله لهذا مثلاً في كتابه في أصحاب الكهف، حيث قال: ﴿وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ﴾ أ فلا ترى أنّ أرواحهم فيهم بالحركات؟
قال محمّد بن مروان: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: إنّ الله خلقنا من نور عظمته، ثمّ صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة فأسكن ذلك النور فيه، فكنّا نحن خلقاً وبشراً نورانيّين، لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا نصيب، وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيباً إلّا للأنبياء، فلذلك صرنا نحن وهم الناس وسائر الناس همج للنار وإلى النار.
قال الصادق (عليه السلام): إذا حيل بينه وبين الكلام أتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن شاء الله، فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن يمينه والآخر عن يساره فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، وأمّا ما كنت تخاف فقد أمنت منه ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة، فيقول: هذا منزلك من الجنّة، فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضّة، فيقول: لا حاجة لي في الدنيا …
فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه وهي في الجسد فيختار الآخرة فيغسله فيمن يغسله ويقلّبه فيمن يقلّبه، فإذا أدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدماً وتلقاه أرواح المؤمنين يسلّمون عليه ويبشّرونه بما أعدّ الله له جلّ ثناؤه من النعيم، فإذا وضع في قبره ردّ إليه الروح إلى وركيه ثمّ يسأل عمّا يعلم، فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيدخل عليه من نورها وبردها وطيب ريحها.
قال الباقر (عليه السلام): إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت ببياض وجهه أشدّ من بياض لونه ويرشّح جبينه ويسيل من عينيه كهيئة الدموع فيكون ذلك خروج نفسه وإنّ الكافر تخرج نفسه سيلاً من شدقه كزبد البعير أو كما تخرج نفس البعير.
قال الصادق (عليه السلام): إذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن وغيره ينظر إلى كلّ شيء يصنع به، فإذا كفّن ووضع على السرير وحمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه، فدخلت فيه فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة أو من النار فينادي بأعلى صوته: إن كان من أهل الجنّة عجّلوني عجّلوني، وإن كان من أهل النار ردّوني ردّوني، وهو يعلم كلّ شيء يصنع به ويسمع الكلام.
قال حبّة العرني: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنّه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتّى أعييت ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت حتّى نالني مثل ما نالني أوّلاً ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّي قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة، ثمّ طرحت الرداء ليجلس عليه، فقال لي: يا حبّة، إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال: قلت: يا أمير المؤمنين، وإنّهم لكذلك؟ قال (عليه السلام): نعم ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون، فقلت: أجسام أم أرواح؟ فقال (عليه السلام): أرواح، وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلّا قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنّها لبقعة من جنّة عدن.
قال الصادق (عليه السلام): إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويستر عنه ما يكره وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ، قال: وفيهم من يزور كلّ جمعة ومنهم من يزور على قدر عمله.
قال إسحاق بن عمّار: سألت الكاظم (عليه السلام) عن الميّت يزور أهله؟ قال (عليه السلام): نعم. فقلت: في كم يزور؟ قال (عليه السلام): في الجمعة وفي الشهر وفي السنة على قدر منزلته. فقلت: في أيّ صورة يأتيهم؟ قال (عليه السلام): في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم ويشرف عليهم فإن رآهم بخير فرح، وإن رآهم بشرّ وحاجة حزن واغتمّ.
روي أنّ في العرش تمثالاً لكلّ عبد فإذا اشتغل العبد بالعبادة رأت الملائكة تمثاله وإذا اشتغل بالمعصية أمر الله بعض الملائكة حتّى يحجبوه بأجنحتهم لئلّا تراه الملائكة فذلك معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا من أظهر الجميل وستر القبيح.
قال الباقر (عليه السلام): والله، ما من عبد من شيعتنا ينام إلّا أصعد الله روحه إلى السماء فيبارك عليها، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته وفي رياض جنّته وفي ظلّ عرشه وإن كان أجلها متأخّراً بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردّها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):… يا عليّ، إنّ أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال شوقاً إليهم ولما يرون منزلتهم عند الله عزّ وجلّ.
قال أبو عبیدة الحذّاء: قال الباقر (عليه السلام) فيقول الله عزّ وجلّ ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ فقال (عليه السلام): لعلّك ترى أنّ القوم لم يكونوا ينامون؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال (عليه السلام): لا بدّ لهذا البدن أن تريحه حتّى تخرج نفسه فإذا خرج النفس استراح البدن ورجعت الروح فيه وفيه قوّة على العمل.
إنّ مخنّثاً قدم المدينة فنزل على مخنّث من غير أن يعلم أنّه مخنّث، فبلغ ذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: الأرواح جنود مجنّدة.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): الأرواح جنود مجنّدة فتشامّ كما تشامّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فلو أنّ مؤمناً جاء إلى مجلس فيه مائة منافق ليس فيهم إلّا مؤمن واحد لجاء حتّى يجلس إليه.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة.
قال الصدوق (رحمه الله): اعتقادنا في النفوس أنّها الأرواح التي بها الحياة وأنّها الخلق الأوّل لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أوّل ما أبدع الله _ سبحانه وتعالى _ هي النفوس المقدّسة المطهّرة، فأنطقها بتوحيده، ثمّ خلق بعد ذلك سائر خلقه.
واعتقادنا فيها: أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنّما تنقلون من دار إلى دار». وأنّها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة.
واعتقادنا فيها: أنّها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منها منعمة ومنها معذّبة إلى أن يردّها الله عزّ وجلّ بقدرته إلى أبدانها.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): كلام الصدوق (رحمه الله) في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه.
ثمّ قال (رحمه الله): النفس عبارة عن معانٍ: أحدها: ذات الشيء؛ والآخر: الدم السائل؛ والآخر: النفس الذي هو الهواء؛ والرابع: هو الهوى وميل الطبع.
فأمّا شاهد المعنى الأوّل: فهو قولهم:«هذا نفس الشيء»، أي ذاته وعينه.
وشاهد الثاني: قولهم: «كلّما كانت النفس سائلة فحكمه كذا وكذا».
وشاهد الثالث: قولهم: «فلان هلكت نفسه» إذا انقطع نفسه ولم يبق في جسمه هواء يخرج من حواسه.
وشاهد الرابع: قول الله تعالی: ﴿إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوٓءِ﴾ يعني: الهوى داعٍ إلى القبيح، وقد يعبّر عن النفس بالنقم. قال الله تعالی «ويحذركم الله نفسه» يريد نقمته وعقابه.
فأمّا الروح فعبارة عن معانٍ: أحدها: الحياة؛ والثاني: القرآن؛ والثالث: ملك من ملائكة الله تعالى؛ والرابع: جبرئيل.
فشاهد الأوّل: قولهم «كلّ ذي روح فحكمه كذا» يريدون كلّ ذي حياة، وقولهم فيمن مات: «قد خرجت منه الروح يعنون الحياة»، وقولهم في الجنين: «صورة لم يلجه الروح» يريدون لم تلجه الحياة.
وشاهد الثاني: قوله تعالی ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحاً مِّنۡ أَمۡرِنَا﴾ يعني القرآن.
وشاهد الثالث: قوله ﴿يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ﴾.
وشاهد الرابع: قوله تعالی ﴿قُلۡ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ﴾ يعني جبرئيل.
وأمّا ما ذكره الصدوق (رحمه الله) ورواه «أنّ الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» فهو حديث من أحاديث الآحاد وخبر من طرق الأفراد وله وجه غير ما ظنّه من لا علم له بحقائق الأشياء، وهو أنّ الله تعالی خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر وما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر وليس الأمر كما ظنّه أصحاب التناسخ ودخلت الشبهة فيه على حشوية الشيعة، فتوهّموا أنّ الذوات الفعّالة المأمورة المنهيّة كانت مخلوقة في الذرّ وتتعارف وتعقل وتفهم وتنطق ثمّ خلق الله لها أجساداً من بعد ذلك، فركبها فيها ولو كان ذلك كذلك لكنّا نعرف نحن ما كنّا عليه وإذا ذكرنا به ذكرناه.
ولا يخفى علينا الحال فيه، أ لا ترى أنّ من نشأ ببلد من البلاد فأقام فيه حولاً ثمّ انتقل إلى غيره، لم يذهب عنه علم ذلك وإن خفي عليه لسهوه عنه فيذكر به ذكره؟ ولولا أنّ الأمر كذلك لجاز أن يولد منّا إنسان ببغداد وينشأ بها ويقيم عشرين سنة فيها ثمّ ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد ولا يذكر منها شيئاً وإن ذكر به وعدد عليه علامات حاله ومكانه ونشوئه وهذا ما لا يذهب إليه عاقل، والذي صرّح به الصدوق (رحمه الله) في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنّه قولهم، فالجناية بذلك على نفسه وغيره عظيمة.
فأمّا ما ذكره من أنّ الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضادّ ألفاظ القرآن قال الله تعالی﴿كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٍ ۞ وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ والذي حكاه من ذلك وتوهّمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أنّ الأنفس لا يلحقها الكون والفساد وأنّها باقية وإنّما تفنى وتفسد الأجسام المركّبة، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ وزعموا أنّ الأنفس لم تزل تتكـرّر في الصور والهياكل لم تحدث ولم تفن ولن تعدم وأنّها باقية غير فانية وهذا من أخبث قول وأبعده من الصواب وما دونه في الشناعة والفساد شنع به الناصبة على الشيعة ونسبوهم به إلى الزندقة ولو عرف مثبته ما فيه لما تعرّض له لكن أصحابنا المتعلّقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلّة فطنة يمرّون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها ولا يفرقون بين حقّها وباطلها ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها.
والذي ثبت من الحديث في هذا الباب أنّ الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين، منها: ما ينقل إلى الثواب والعقاب، ومنها: ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) ما ذكرنا في هذا المعنى وبيّنّاه وسئل عمّن مات في هذه الدار، أين تكون روحه؟ فقال (عليه السلام): من مات وهو ماحض للإيمان محضاً أو ماحض للكفر محضاً نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة، فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه وردّ روحه إلى جسده وحشره ليوفّيه أعماله فالمؤمن ينتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنان من جنان الله يتنعّم فيها إلى يوم المآب والكافر ينتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه ويجعل في النار فيعذّب بها إلى يوم القيامة.
وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالی ﴿قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ ۞ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالی ﴿ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ فأخبر سبحانه أنّ مؤمناً قال بعد موته _ وقد أدخل الجنّة _: ﴿يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ﴾ وأخبر أنّ كافراً يعذّب بعد موته غدوّاً وعشيّاً ويوم يقوم الساعة يخلّد في النار.
والضرب الآخر من يلهى عنه ويعدم نفسه عند فساد جسمه فلا يشعر بشيء حتّى يبعث وهو من لم يمحض الإيمان محضاً ولا الكفر محضاً وقد بيّن الله ذلك عند قوله ﴿إِذۡ يَقُولُ أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡماً﴾ فبيّن أنّ قوماً عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتّى يظنّ بعضهم أن ذلك كان عشراً ويظنّ بعضهم أنّ ذلك كان يوماً وليس يجوز أن يكون ذلك من وصف من عذب إلى بعثه ونعم إلى بعثه لأنّ من لم يزل منعماً أو معذّباً لا يجهل عليه حاله فيما عومل به ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّما يسأل في قبره من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً فأمّا ما سوى هذين فإنّه يلهى عنه.
وقال في الرجعة: إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان أو محض الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب. وقد اختلف أصحابنا فيمن ينعّم ويعذّب بعد موته، فقال بعضهم: المعذّب والمنعّم هو الروح التي توجّه إليها الأمر والنهي والتكليف سمّوها جوهراً، وقال آخرون: بل الروح الحياة جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا وكلا الأمرين يجوزان في العقل والأظهر عندي قول من قال: إنّها الجوهر المخاطب وهو الذي يسمّيه الفلاسفة «البسيط».
وقد جاء في الحديث: أنّ الأنبياء خاصّة والأئمّة (عليهم السلام) من بعده ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء فيتنعّمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا، وهذا خاصّ لحجج الله دون من سواهم من الناس وقد روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من صلّى عليّ من عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ من بعيد بلغته. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): من صلّى عليّ مرّة صلّيت عليه عشراً ومن صلّى عليّ عشراً صلّيت عليه مائة مرّة فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليّ أو فليقل. فبيّن أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ولا يكون كذلك إلّا وهو حيّ عند الله تعالی وكذلك أئمّة الهدى يسمعون سلام المسلم عليهم من قرب ويبلغهم سلامه من بعد وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم وقد قال: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَاتاً بَلۡ أَحۡيَآءٌ﴾إلى آخر ما مرّ في كتاب المعاد …
قال المفيد (رحمه الله): القول في تنعّم أصحاب القبور وتعذيبهم على أيّ شيء يكون الثواب لهم والعقاب ومن أيّ وجه يصل إليهم ذلك وكيف تكون صورهم في تلك الأحوال؟ وأقول: إنّ الله تعالی يجعل لهم أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ينعم مؤمنيهم فيها ويعذّب كفّارهم وفسّاقهم فيها دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرّق وتندرس وتبلى على مرور الأوقات وينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور وهذا يستمرّ على مذهبي في النفس ومعنى الإنسان المكلّف عندي وهو الشيء المحدث القائم بنفسه الخارج عن صفات الجواهر والأعراض ومضى به روايات عن الصادقين من آل محمّد (عليهم السلام) ولست أعرف لمتكلّم من الإمامية قبلي فيه مذهباً فأحكمه ولا أعلم بيني وبين فقهاء الإمامية وأصحاب الحديث فيه اختلافاً.
قال العلّامة الحلّي (رحمه الله): اختلف الناس في حقيقة النفس ما هي وتحرير الأقوال الممكنة فيها أنّ النفس إمّا أن تكون جوهراً أو عرضاً أو مركّباً منهما وإن كانت جوهراً فإمّا أن تكون متحيّزة أو غير متحيّزة وإن كانت متحيّزة فإمّا أن تكون منقسمة أو لا تكون وقد صار إلى كلّ من هذه الأقوال قائل والمشهور مذهبان، أحدهما: أنّ النفس جوهر مجرّد ليس بجسم ولا حالّ في الجسم وهو مدبّر لهذا البدن وهو قول جمهور الحكماء ومأثور عن شيخنا المفيد (رحمه الله) وبني نوبخت من أصحابنا والثاني: أنّها جوهر أصلية في هذا البدن حاصلة فيه من أوّل العمر إلى آخره لا يتطرّق إليها التغيّر ولا الزيادة ولا النقصان وعند المعتزلة عبارة عن الهيكل المشاهد المحسوس وهاهنا مذاهب أخرى منها: أنّ النفس هو الله تعالی ومنها: أنّها هي المزاج، ومنها: أنّها النفس، ومنها أنّها النار، ومنها: أنّها الهواء وغير ذلك من المذاهب السخيفة.
قال العلّامة الحلّي (رحمه الله) في شرحه اختلف الناس في ماهية النفس وأنّها هل هي جوهر أم لا؟ والقائلون بأنّها جوهر اختلفوا في أنّها هل هي مجرّدة أم لا؟ والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلّمين كبني نوبخت من الإمامية والمفيد منهم: والغزالي من الأشاعرة أنّها جوهر مجرّد ليس بجسم ولا جسماني وهو الذي اختاره المصنّف.
قوله (عليه السلام) «من عرف نفسه فقد عرف ربّه». قال بعض العلماء: الروح لطيفة لاهوتية في صفة ناسوتية دالّة من عشرة أوجه على وحدانية ربّانية لمّا حرّكت الهيكل ودبّرته علمنا أنّه لا بدّ للعالم من محرّك ومدبّر، دلّت وحدتها على وحدته، دلّ تحريكها للجسد على قدرته، دلّ اطّلاعها على ما في الجسد على علمه، دلّ استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه، دلّ تقدّمها عليه وبقاؤها بعده على أزله وأبده، دلّ عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به، دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد على عدم أينيته، دلّ عدم مسّها على امتناع مسّه، دلّ عدم إبصارها على استحالة رؤيته.
قال الشیخ عليّ بن یونس العاملي: قوله تعالی ﴿يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي﴾ إن قيل: كيف أبهم الله الجواب قلنا فيه وجوه:
الف: قال الكتابيّون للمشركين: اسألوا محمّداً عنه، فإن توقّف فيه فهو نبيّ، فسألوه فأجاب بذلك وقوله ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ عنى اليهود. قالوا: أوتينا التوراة وفيها علم كلّ شيء.
ب: كان قصدهم بالسؤال تخجيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ الروح لمّا قيل على معانٍ مختلفة كما سلف حتّى لو أجاب بواحد منها قالوا: ما نريد هذا، فأبهموا السؤال فأبهم الجواب بما ينطبق على الجميع بأنّه من أمر الله أي أنّه أحدثه بقوله «كن» أو هو من شأنه وخلقه.
ج: عن ابن عبّاس أنّهم سألوا عن جبرئيل لأنّهم كانوا يدّعون معاداته.
د: عن عليّ (عليه السلام): أنّهم سألوا عن الملك العظيم الجثّة.
هـ: لو أريد الروح التي في البدن لم يكن في الآية دليل على أنّه لا يعلمها إلّا الله.
وجزم القائلين بالتجرّد أيضاً بمحض شبهات ضعيفة مع أنّ ظواهر الآيات والأخبار تنفيه أيضاً جرأة وتفريط.
فالأمر مردّد بين أن يكون جسماً لطيفاً نورانياً ملكوتياً داخلاً في البدن تقبضه الملائكة عند الموت وتبقى معذّباً أو منعّماً بنفسه أو بجسد مثالي يتعلّق به كما مرّ في الأخبار أو يلهى عنه إلى أن ينفخ في الصور كما في المستضعفين ولا استبعاد في أن يخلق الله جسماً لطيفاً يبقيه أزمنة متطاولة كما يقول المسلمون في الملائكة والجنّ ويمكن أن يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده المثالي ولا يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده بقدرة الله سبحانه أو يكون مجرّداً يتعلّق بعد قطع تعلّقه عن جسده الأصلي بجسد مثالي ويكون قبض الروح وبلوغها الحلقوم وأمثال ذلك تجوّزاً عن قطع تعلّقها أو أجرى عليها أحكام ما تعلّقت أوّلاً به وهو الروح الحيواني البخاري مجازاً.
ثمّ الظاهر من الأخبار أنّ النفس الإنساني غير الروح الحيواني وغير سائر أجزاء البدن المعروفة وأمّا كونها جسماً لطيفاً خارجاً من البدن محيطاً به أو متعلّقاً به فهو بعيد ولم يقل به أحد وإن كان يستفاد من ظواهر بعض الأخبار كما عرفت. (ص١٠٤-١٠٥)
قال التفتازاني: قد سبق أنّ لفظ القوّة كما يطلق على مبدأ التغيير والفعل فكذا يطلق على مبدأ التغيّر والانفعال فقوّة النفس باعتبار تأثّرها عمّا فوقها من المبادئ للاستكمال بالعلوم والإدراكات يسمّى عقلاً نظريّاً وباعتبار تأثيرها في البدن لتكميل جوهره وإن كان ذلك أيضاً عائداً إلى تكميل النفس من جهة أنّ البدن آلة لها في تحصيل العلم والعمل يسمّى عقلاً عملياً.
والمشهور أنّ مراتب النفس أربع: لأنّه إمّا كمال وإمّا استعداد نحو الكمال قويّ أو متوسّط أو ضعيف؛ فالضعيف وهو محض قابلية النفس للإدراكات يسمّى عقلاً هيولانياً تشبيهاً بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها بمنزلة قوّة الطفل للكتابة والمتوسّط وهو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات تسمّى عقلاً بالملكة لمّا حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الشخص المستعدّ لتعلّم الكتابة وتختلف مراتب الناس في ذلك اختلافاً عظيماً بحسب اختلاف درجات الاستعدادات والقوى وهو الاقتدار على استحضار النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء ويسمّى عقلاً بالفعل لشدّة قربه من الفعل، وأمّا الكمال فهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب ويسمّى عقلاً مستفاداً أي من خارج هو العقل الفعّال الذي يخرج نفوسنا من القوّة إلى الفعل فيما له من الكمالات ونسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا.
قال ابن سینا: وكمال القوّة النظرية: معرفة أعيان الموجودات وأحوالها وأحكامها كما هي، أي على الوجه الذي هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وسمّي حكمة نظرية، وكمال القوّة العملية: القيام بالأمور على ما ينبغي، أي على الوجه الذي يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية، وسمّي حكمة عملية وفسّروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنّها خروج النفس من القوّة إلى الفعل في كمالها الممكن علماً وعملاً إلّا أنّه لمّا كثر الخلاف وفشا الباطل والضلال في شأن الكمال وفي كون الأشياء كما هي والأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنّهم على هدى من الله تعالی وكانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرّد الأحكام العملية، بل بمعنى معرفة النفس ما لها وما عليها والعمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أنّ المشار إليها في قوله <وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡراً كَثِيراً> هو الفقه وأنّه اسم للعلم والعمل جميعاً.
وقد تقسم الحكمة المفسّرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية العملية لأنّها إن كانت علماً بالأصول المتعلّقة بقدرتنا واختيارنا فعملية وغايتها العمل وتحصيل الخير وإلّا فنظرية وغايتها إدراك الحقّ وكلّ منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام: فالنظرية إلى الإلهي والرياضي والطبيعي؛ والعملية إلى علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم سياسة المدينة؛ لأنّ النظرية إن كان علماً بأحوال الموجودات من حيث يتعلّق بالمادّة تصوّراً وقواماً، فهي العلم الطبيعي وإن كان من حيث يتعلّق بها قواماً لا تصوّراً فالرياضي كالبحث عن الخطوط والسطوح وغيرهما ممّا يفتقر إلى المادّة في الوجود لا في التصوّر وإن كان من حيث لا يتعلّق بها لا قواماً ولا تصوّراً فالإلهي ويسمّى العلم الأعلى وعلم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب والمجرّدات وما يتعلّق بذلك. والحكمة العملية إن تعلّقت بآراء ينتظم بها حال الشخص وذكاء نفسه، فالحكمة الخلقية وإلّا فإن تعلّقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصّة فالحكمة المنزلية والعامّة فالحكمة المدنية والسياسة.
ثمّ قال: للإنسان قوّة شهوية هي مبدأ جذب المنافع ودفع المضارّ من المآكل والمشارب وغيرها وتسمّى القوّة البهيمية والنفس الأمّارة، وقوّة غضبيّة هي مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلّط والترفّع وتسمّى السبعية والنفس اللوّامة، وقوّة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق والشوق إلى النظر في العواقب ليتميّز بين المصالح والمفاسد.
ويحدث من اعتدال حركة الأولى العفّة، وهي أن تكون تصرّفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ليسلم عن أن تستعبدها الهوى وتستخدمها اللذّات ولها طرف إفراط هي الخلاعة والفجور، أي الوقوع في ازدياد اللذّات على ما لا ينبغي، وطرف تفريط هي الخمود، أي السكون عن طلب ما رخّص فيه العقل والشرع من اللذّات إيثاراً لا خلقة ومن اعتدال حركة السبعية الشجاعة وهي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الرؤية من غير اضطراب في الأمور الهائلة، ولها طرف إفراط هو التهوّر، أي الإقدام على ما لا ينبغي، وتفريط وهو الجبن، أي الحذر عمّا لا ينبغي ومن اعتدال حركة النطقية وهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة، وطرف إفراطها الجربزة وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي، وطرف تفريطها الغباوة وهي تعطيل الفكر بالإرادة والوقوف على اكتساب العلوم، فالأوساط فضائل والأطراف رذائل وإذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة، فأصول الفضائل: العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة ولكلّ منها شعب وفروع مذكورة في كتب الأخلاق وكذا الرذائل الستّة.
قال الفخر الرازي في تعديد خواص النفس الإنسانية: ونحن نذكر منها عشرة:
القسم الأوّل من الخواصّ: النطق، وفيه أبحاث:
الأوّل: أنّ الإنسان الواحد لو لم يكن في الوجود إلّا هو وإلّا الأمور الموجودة في الطبيعة لهلك أو ساءت معيشته بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد ممّا في الطبيعة مثل الغذاء المعمول فإنّ الأغذية الطبيعية لا يلائم الإنسان والملابس أيضاً لا يصلح للإنسان إلّا بعد صيرورتها صناعيّة، فكذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات حتّى تنتظم أسباب معيشته والإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات بل لا بدّ من المشاركة حتّى يخبز هذا لذاك وينسج ذاك لهذا فلهذه الأسباب احتاج الإنسان إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه بعلامة وضعية وهي أقسام:
فالأوّل: أصلحها وأشرفها الأصوات المركبّة والسبب في شرفها أنّ بدن الإنسان لا يتمّ ولا يكمل إلّا بالقلب الذي هو معدن الحرارة الغريزية ولا بدّ من وصول النسيم البارد إليه ساعة فساعة حتّى يبقى على اعتداله ولا يحترق فخلقت آلات في بدنه بحيث يقدر الإنسان على استدخال النسيم البارد في قلبه، فإذا مكث ذلك النسيم لحظة تسخن وفسد فوجب إخراجه فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سبباً لحدوث الصوت، فلا جرم سهل تحصيل الصوت بهذا الطريق ثمّ إنّ ذلك الصوت سهل تقطيعه في المحابس المختلفة فحصلت هيئات مخصوصة بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس وتلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف والأصوات بهذا الطريق ثمّ تركّب الحروف، فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثمّ جعلوا كلّ كلمة مخصوصة معرفة لمعنى مخصوص فلا جرم صار تعريف المعاني المخصوصة بهذا الطريق في غاية السهولة من وجوه:
الأوّل: أنّ إدخالها في الوجود في غاية السهولة والثاني: أن تكون الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة والثالث: أنّ عند الحاجة إلى التعريف تدخل في الوجود وعند الاستغناء عن ذكرها تعدم لأنّ الأصوات لا تبقى.
والقسم الثاني من طرق التعريف: الإشارة، والنطق أفضل بوجوه:
الأوّل: أنّ الإشارة إنّما تكون إلى موجود حاضر عند المشير محسوس وأمّا النطق فإنّه يتناول المعدوم ويتناول ما لا يصحّ الإشارة إليه ويتناول ما يصح الإشارة إليه أيضاً.
والثاني: أنّ الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معيّن، فالإشارة نوع واحد أو نوعان فلا يصحّ لتعريف الأشياء المختلفة بخلاف النطق، فإنّ الأصوات والحروف البسيطة والمركّبة كثيرة.
والثالث: أنّه إذا أشار إلى شيء فذلك الشيء ذات قامت به صفات كثيرة، فلا يعرف بسبب تلك الإشارة أنّ المراد تعريف الذات وحدها أو الصفة الفلانية أو الصفة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو المجموع، وأمّا النطق فإنّه وافٍ بتعرّف كلّ واحدة من هذه الأحوال بعينها.
والقسم الثالث: الكتابة وظاهر أنّ المؤونة في إدخالها في الوجود صعبة ومع ذلك فإنّها مفرّعة على النطق وذلك لأنّا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كلّ معنى من المعاني البسيطة والمركّبة نقشاً لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية وذلك غير ممكن فدبّروا فيه طريقاً لطيفاً وهو أنّهم وضعوا بإزاء كلّ واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشاً خاصّاً ثمّ جعلوا النقوش المركّبة في مقابلة الحروف المركّبة، فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق إلّا أنّ على هذا التقدير صارت الكتابة مفرّعة على النطق إلّا أنّه حصل في الكتابة منفعة عظيمة وهي أنّ عقل الإنسان الواحد لا يفي باستنباط العلوم الكثيرة، فالإنسان الواحد إذا استنبط مقداراً من العلم وأثبته في الكتاب بواسطة الكتابة فإذا جاء بعده إنسان آخر ووقف عليه قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على ذلك الأوّل، فظهر أنّ العلوم إنّما كثرت بإعانة الكتابة فلهذا قال (عليه السلام): قيّدوا العلم بالكتابة. فهذا بيان حقيقة النطق والإشارة والكتابة.
البحث الثاني ممّا يتعلّق بهذا الباب: أنّ المشهور أنّه يقال في حدّ الإنسان: إنّه حيوان ناطق، فقال بعضهم: إنّ هذا التعريف باطل طرداً وعكساً. أمّا الطرد: فلأنّ بعض الحيوانات قد تنطق وأمّا العكس: فهو بعض الناس لا ينطق فأجيب عنه بأنّ المراد منه النطق العقلي ولم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيراً ملخّصاً، فنقول: الحيوان نوعان: منه ما إذا عرف شيئاً فإنّه لا يقدر على أن يعرف غيره حال نفسه مثل البهائم وغيرها، فإنّها إذا وجدت من نفسها أحوالاً مخصوصة لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال، وأمّا الإنسان فإذا وجد من نفسه حالة مخصوصة، قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه، فالناطق الذي جعل فصلاً مقوّماً هو هذا المعنى والسبب فيه: أنّ أكمل طرق التعريف، هو النطق فعبّر عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالّة عليها، وبهذا التقرير فإنّ تلك السؤال لا يتوجّه، والله أعلم بالصواب.
البحث الثالث: أنّ هذه الألفاظ والكلمات لها أسماء كثيرة:
فالأوّل: اللفظ، وفيه وجهان: أحدهما: أنّ هذه الألفاظ إنّما تولّد بسبب أنّ ذلك الإنسان لفظ ذلك الهواء من حلقه، فلمّا كان سبب حدوث هذه الأصوات، هو لفظ ذلك الهواء لا جرم سمّيت باللفظ، والثاني: أنّ تلك المعاني كانت كامنة في قلب ذلك الإنسان، فلمّا ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة معلومة، فكأنّ ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.
والاسم الثاني: الكلام واشتقاق هذه اللفظة من الكلم وهو الجرح والسبب أنّ الإنسان إذا سمع تلك اللفظة، تأثّر جسمه بسماعها وتأثّر عقله بفهم معناها، فلهذا السبب سمّي بالكلمة.
والاسم الثالث: العبارة، وهي مأخوذة من العبور والمجاوزة، وفيه وجهان: الأوّل: أنّ ذلك النفس لمّا خرج منه فكأنّ جاوزه وعبر عليه. الثاني: أنّ ذلك المعنى عبر من القائل إلى فهم المستمع.
الاسم الرابع: القول، وهذا التركيب يفيد الشدّة والقوّة ولا شكّ أنّ تلك اللفظة لها قوّة، إمّا لسبب خروجها إلى الخارج وإمّا لسبب أنّها تقوى على التأثّر في السمع وعلى التأثير في العقل، والله أعلم.
النوع الثاني: من خواصّ الإنسان قدرته على استنباط الصنائع العجيبة ولهذه القدرة مبدأ وآلة، أمّا المبدأ فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها ببعض وأمّا الآلة فهي اليدان، وقد سمّاهما الحكيم أرسطاطاليس الآلة المباحة وسنذكر هذه اللفظة في علم التشريح إن شاء الله، وقد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخر كالنحل في بناء البيوت المسدسة إلّا أنّ ذلك لا يصدر من استنباط وقياس، بل إلهام وتسخير ولذلك لا يختلف ولا يتنوّع، هكذا قاله الشيخ وهو منقوض بالحركة الفلكية وسنفرّد لهذا البحث فصلاً على الاستقصاء.
النوع الثالث من خواصّ الإنسان: الأعراض النفسانية المختلفة وهي على أقسام:
فأحدها: أنّه إذا رأى شيئاً لم يعرف سببه حصلت حالة مخصوصة في نفسه مسمّاة بالتعجّب.
وثانيها: أنّه إذا أحسّ بحصول الملائم حصلت حالة مخصوصة وتتبعها أحوال جسمانية وهي تمدّد في عضلات الوجه مع أصوات مخصوصة وهي الضحك. فإن أحسّ بحصول المنافي والموذي حزن، فانعصر دم قلبه في الداخل، فينعصر أيضاً دماغه وتنفصل عنه قطرة من الماء وتخرج من العين وهي البكاء.
وثالثها: أنّ الإنسان إذا اعتقد في غيره أنّه اعتقد فيه أنّه أقدم على شيء من القبائح حصلت حالة مخصوصة تسمّى بالخجالة، ورابعها: أنّه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنّه قبيح، فامتنع عنه لقبحه حصلت حالة مخصوصة هي الحياء وبالجملة فاستقصاء القول في تعديد الأحوال النفسانية مذكور في باب الكيفيات النفسانية.
والنوع الرابع من خواصّ الإنسان: الحكم بحسن بعض الأشياء وقبح بعضها، إمّا لأنّ صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به وإمّا لأجل أنّ المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية اقتضت تقريرها لتبقى مصالح العالم مرعيّة وأمّا سائر الحيوانات، فإنّها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد فإنّه لا يفترس صاحبه فليس ذلك مشابهاً للحالة الحاصلة للإنسان بل هيئة أخرى، لأنّ كلّ حيوان فهو يحبّ بالطبع كلّ من ينفعه، فلهذا السبب الشخص الذي أطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعاً له عن افتراسه.
النوع الخامس من خواصّ الإنسان: تذكر الأمور الماضية وقيل: إنّ هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات والجزم في هذا الباب بالنفي والإثبات مشكل.
والنوع السادس: الفكر والرؤية وهذا الفكر على قسمين: أحدهما أن يتفكّر لأجل أن يعرف حاله وهذا النوع من الفكر ممكن في الماضي والمستقبل والحاضر.
قال الفخر الرازي في بيان أنّ اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذّات الحسية: اعلم أنّ الغالب على الطباع العامية أنّ أقوى اللذّات وأكمل السعادات لذّة المطعم والمنكح ولذلك فإنّ جمهور الناس لا يعبدون الله إلّا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة وإلّا ليجدوا المناكح الشهيّة هناك وهذا القول مردود عند المحقّقين من أهل الحكمة وأرباب الرياضة ويدلّ عليه وجوه.
الحجّة الأولى: لو كانت سعادة الإنسان متعلّقة بقضاء الشهوة وإمضاء الغضب لكان الحيوان الذي يكون أقوى في هذا الباب من الإنسان أشرف منه لكنّ الجمل أكثر أكلاً من الناس والذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان والعصفور أقوى على السفاد من الإنسان، فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان لكنّ التالي معلوم البطلان بالضرورة، فوجب الجزم بأنّ سعادة الإنسان غير متعلّقة بهذه الأمور.
الحجّة الثانية: كلّ شيء يكون سبباً لحصول السعادة والكمال فكلّما كان ذلك الشيء أكثر حصولاً كانت السعادة والكمال أكثر حصولاً، فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سبباً لكمال حال الإنسان ولسعادته لكان الإنسان كلّما أكثر اشتغالاً بقضاء شهوة البطن والفرج وأكثر استغراقاً فيه كان أعلى درجة وأكمل فضيلة، لكنّ التالي باطل، لأنّ الإنسان الذي جعل عمره وقفاً على الأكل والشرب والبعال يعدّ من البهيمة ويقضى عليه بالدناءة والخساسة وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ليس من باب السعادات والكمالات بل من باب دفع الحاجات والآفات.
الحجّة الثالثة: أنّ الإنسان يشاركه في لذّة الأكل والشرب جميع الحيوانات الخسيسة، فإنّه كما أنّ الإنسان يلتذّ بأكل السكر فكذلك الجعل يلتذّ بتناول السرقين، فلو كانت هذه اللذّات البدنية هي السعادة الكبرى للإنسان لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات الخسيسة، بل نزيد ونقول: لو كانت سعادة الإنسان متعلّقة بهذه اللذّات الخسيسة لوجب أن يكون الإنسان أخسّ الحيوانات، والتالي باطل فالمقدّم مثله. وبيان وجه الملازمة أنّ الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الخسيسة البدنية إلّا أنّ الإنسان يتنغصّ عليه المطالب بسبب العقل، فإنّ العقل سمّي عقلاً لكونه عقالاً له وحبساً له عن أكثر ما يشتهيه ويميل طبعه إليه فإذا كان التقدير أنّ كمال السعادة ليس إلّا في هذه اللذّات الخسيسة، ثمّ بيّنّا أنّ هذه اللذّات الخسيسة حاصلة على سبيل الكمال والتمام للبهائم والسباع من غير معارض ومدافع وهي حاصلة للإنسان مع المنازع القويّ والمعارض الكامل وجب أن يكون الإنسان أخسّ الحيوانات ولمّا كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ثبت أنّ هذه اللذّات الخسيسة ليست موجبة للبهجة والسعادة.
الحجّة الرابعة: أنّ هذه اللذّات الخسيسة إذا بحث عنها فهي في الحقيقة ليست لذّات بل حاصلها يرجع إلى دفع الألم والدليل عليه: أنّ الإنسان كلّما كان أكثر جوعاً كان التذاذه بالأكل أكمل وكلّما كان ألم الجوع أقلّ كان الالتذاذ بالأكل أقلّ وأيضاً إذا طال عهد الإنسان بالوقاع واجتمع المني الكثير في أوعية المني حصلت في تلك الأوعية دغدغة شديدة وتمدّد وثقل وكلّما كانت هذه الأحوال الموذية أكثر كانت اللذّة الحاصلة عند اندفاع ذلك المنيّ أقوى ولهذا السبب فإنّ لذّة الوقاع في حقّ من طال عهده بالوقاع يكون أكمل منها في حقّ من قرب عهده به، فثبت أنّ هذه الأحوال التي يظنّ أنّها لذات جسمانية، فهي في الحقيقة ليست إلّا دفع الألم وهكذا القول في اللذّة الحاصلة بسبب لبس الثياب، فإنّه لا حاصل لتلك اللذّة إلّا دفع ألم الحر والبرد وإذا ثبت أنّه لا حاصل لهذه اللذات إلّا دفع الآلام فنقول ظهر أنّه ليس فيها سعادة لأنّ الحالة السابقة هي حصول الألم والحالة الحاضرة عدم الألم وهذا العدم كان حاصلاً عند العدم الأصلي فثبت أنّ هذه الأحوال ليست سعادات ولا كمالات البتّة.
الحجّة الخامسة: أنّ الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي يشاركه سائر الحيوانات وإنّما يمتاز عنها بالإنسانية وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال وموجبة لنقصانها وتقليلها، فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة لكان الإنسان من حيث إنّه إنسان ناقصاً شقيّاً خسيساً ولمّا حكمت البديهة بفساد هذا التالي ثبت فساد المقدّم.
الحجّة السادسة: أنّ العلم الضروري حاصل بأنّ بهجة الملائكة وسعادتهم أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته ومن بهجة الديدان والذباب وسائر الحيوانات والحشرات، ثمّ لا نزاع أنّ الملائكة ليس لها هذه اللذّات، فلو كانت السعادة القصوى ليست إلّا هذه اللذّات لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالاً وأكمل درجة من الملائكة المقرّبين ولمّا كان هذا التالي باطلاً، كان المقدّم مثله. بل هاهنا ما هو أعلى وأقوى ممّا ذكرناه وهو أنّه لا نسبة لكمال واجب الوجود وجلاله وشرفه وعزّته إلى أحوال غيره مع أنّ هذه اللذّات الحسّية ممتنعة عليه، فثبت أنّ الكمال والشرف قد يحصلان سوى هذه اللذّات الجسمية، فإن قالوا ذلك الكمال لأجل حصول الإلهية وذلك في حقّ الخلق محال. فنقول: لا نزاع أنّ حصول الإلهية في حقّ الخلق محال إلّا أنّه قال (عليه السلام): تخلّقوا بأخلاق الله.
والفلاسفة قالوا: الفلسفة عبارة عن التشبّه بالإله بقدر الطاقة البشريّة، فيجب عليه أن يعرف تفسير هذا التخلّق وهذا التشبّه ومعلوم أنّه لا معنى لهما إلّا تقليل الحاجات وإضافة الخيرات والحسنات لا بالاستكثار من اللذّات والشهوات.
الحجّة السابعة: أنّ هؤلاء الذين حكموا بأنّ سعادة الإنسان ليس إلّا في تحصيل هذه اللذّات البدنيّة والراحات الجسمانية إذا رأوا إنساناً أعرض عن طلبها مثل أن يكون مواظباً للصوم مكتفياً بما جاءت الأرض عظم اعتقادهم فيه وزعموا أنّه ليس من جنس الإنسان بل من زمرة الملائكة، ويعدّون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل وإذا رأوا إنساناً مستغرق الفكر والهمّة في طلب الأكل والشرب والوقاع مصروف الهمّة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال معرضاً عن العلم والزهد والعبادة قضوا بالبهيمية والخزي والنكال ولو لا أنّه تقرّر في عقولهم أنّ الاشتغال بتحصيل هذه اللذّات الجسدانية نقص ودناءة وأنّ الترفّع عن الالتفات إليها كمال وسعادة لمّا كان الأمر على ما ذكرنا، ولكان يجب أن يحكموا على المعرض عن تحصيل هذه اللذّات بالخزي والنكال وعلى المستغرق فيها بالسعادة والكمال وفساد التالي يدلّ على فساد المقدّم.
الحجّة الثامنة: كلّ شيء يكون في نفسه كمالاً وسعادة وجب أن لا يستحيا من إظهاره، بل يجب أن يفتخر بإظهاره ويتبجّح بفعله ونحن نعلم بالضرورة أنّ أحداً من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل ولا بكثرة المباشرة ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان في هذه الأعمال وأيضاً فالعاقل لا يقدر على الوقاع إلّا في الخلوة، فأمّا عند حضور الناس فإنّ أحداً من العقلاء لا يجد في نفسه تجويز الإقدام عليه وذلك يدلّ على أنّه تقرّر في عقول الخلق أنّه فعل خسيس وعمل قبيح فيجب إخفاؤه عن العيون وأيضاً فقد جرت عادة السفهاء بأنّه لا يشتم بعضهم بعضاً إلّا بذكر ألفاظ الوقاع وذلك يدلّ على أنّه مرتبة خسيسة ودرجة قبيحة وأيضاً لو أنّ واحداً من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم فلاناً كيف يواقع زوجته، فإنّ ذلك الرجل يستحيي من ذلك الكلام ويتأذّى من ذلك القائل وكلّ هذا يدلّ على أنّ ذلك الفعل ليس من الكمالات والسعادات بل هو عمل باطل وفعل قبيح.
الحجّة التاسعة: كلّ فرس وحمار كان ميله إلى الأكل والشرب والإيذاء أكثر وكان قبوله للرياضة أقلّ كان قيمته أقلّ وكلّ حيوان كان أقلّ رغبة في الأكل والشرب وكان أسرع قبولاً للرياضة كانت قيمته أكثر. أ لا ترى أنّ الفرس الذي يقبل الرياضة في الكـرّ والفرّ والعدو الشديد، فإنّه يشترى بثمن رفيع وكلّ فرس لا يقبل هذه الرياضة يوضع على ظهره الإكاف ويسوّى بينه وبين الحمار ولا يشترى إلّا بثمن قليل، فلمّا كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة لا تظهر فضائلها بسبب الأكل والشرب والوقاع، بل بسبب تقليلها وبسبب قبول الأدب وحسن الخدمة لمولاه فما ظنّك بالحيوان الناطق العاقل.