- جواهر البحار
- » تتمة كتاب السماء والعالم
- » أحاديث في حقيقة الرؤيا وتعبيرها
قال النیسابوری: واعلم أنّه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ، والمانع لها من ذلك هو اشتغالها بتدبير البدن وما يرد عليها من طريق الحواسّ، وفي وقت النوم تقلّ تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة، فإذا وقفت النفس على حالة من تلك الأحوال، فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم تحتج إلى التأويل، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة للإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فهناك يفتقر إلى المعبّر، ثمّ منها: ما هي متّسقة منتظمة يسهل على المعبّر الانتقال من تلك المتخيّلات إلى الحقائق الروحانيات، ومنها: ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسمّاة بـ «الأضغاث»، وبالحقيقة الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوّة المتخيّلة لفساد وقع في القوى البدنية، ولورود أمر غريب عليه من خارج، لكنّ القسم المذكور قد تعدّ من الأضغاث من حيث إنّها أعيت المعبّر عن تأويلها.
قال السيّد المرتضى (رحمه الله): إن سأل سائل عن قوله تعالی ﴿وَجَعَلنا نَومَكُم سُباتاً﴾ فقال: إذا كان المراد بالسبات هو النوم فكأنّه قال: «و جعلنا نومكم نوماً»، وهذا ممّا لا فائدة فيه.
الجواب: قلنا: في هذه الآية وجوه:
منها: أن يكون المراد بالسبات الراحة والدعة، وقد قال قوم: إنّ اجتماع الخلق كان في يوم الجمعة، والفراغ منه في يوم السبت، فسمّي اليوم بالسبت للفراغ الذي كان فيه ولأنّ الله تعالی أمر بني إسرائيل فيه بالاستراحة من الأعمال. قيل: وأصل السبات: التمدّد، يقال سبتت المرأة شعرها إذا حلّته من العقص وأرسلته. قال الشاعر:
وإن سبتته مال جثلاً كأنّه سدى واهلات من نواسج خثعما
أراد: إن أرسلته.
ومنها: أن يكون المراد بذلك القطع، والسبت أيضاً الحلق، يقال: سبت شعره إذا حلقه وهو يرجع إلى معنى القطع والنعال السبتية التي لا شعر عليها. قال عنترة:
بطل كأنّ ثيابه في سرحة
يحذي نعال السبت ليس بتوأم
ويقال: لكلّ أرض مرتفعة منقطعة ممّا حولها سبتاء، وجمعها سباتى، فيكون المعنى على هذا الجواب: «جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم وتصرّفكم»
ومنها: أن يكون المراد بذلك «أنّا جعلنا نومكم سباتاً» ليس بموت، لأنّ النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميّت فأراد سبحانه أن يمتنّ علينا بأن جعل نومنا الذي يضاهي فيه بعض أحوالنا أحوال الميّت ليس بموت على الحقيقة ولا يخرج لنا عن الحياة والإدراك، فجعل التأكيد بذكر المصدر قائماً مقام نفي الموت وسادّاً مسدّ قوله: «و جعلنا نومكم» ليس بموت ويمكن في الآية وجه آخر لم يذكر فيها هو أنّ السبات ليس هو كلّ نوم وإنّما هو من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه، والسبات هو النوم الممتدّ الطويل السكون ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم: إنّه مسبوت وبه سبات، ولا يقال ذلك في كلّ نائم، وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله تعالی ﴿وَجَعَلنا نَومَكُم سُباتاً﴾ مجرى أن يقول «و جعلنا نومكم نوماً» والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدّاً طويلاً ظاهر وهو لما في ذلك لنا من المنفعة والراحة، لأنّ التهويم والنوم الغرّار لا يكسبان شيئاً من الراحة بل يصحبهما في الأكثر القلق والانزعاج والهموم هي التي تقلّل النوم وتنزره وفراغ القلب ورخاء البال تكون معهما غزارة النوم وامتداده وهذا واضح.
قال عليّ (عليه السلام): سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الرجل ينام فيرى الرؤيا، فربما كانت حقّاً وربما كانت باطلاً، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عليّ، ما من عبد ينام إلّا عرج بروحه إلى ربّ العالمين، فما رأى عند ربّ العالمين فهو حقّ، ثمّ إذا أمر الله العزيز الجبّار بردّ روحه إلى جسده فصارت الروح بين السماء والأرض فما رأته فهو أضغاث أحلام.
قال الباقر (عليه السلام): إنّ لإبليس شيطاناً يقال له هزع يملأ المشرق والمغرب في كلّ ليلة يأتي الناس في المنام.
قال عليّ بن إبراهیم في قوله تعالى ﴿لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾: ﴿فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ الرؤيا الحسنة يراها المؤمن و﴿فِي ٱلۡأٓخِرَةِ﴾ عند الموت.
قال داود بن عبد الله بن فرقد: بعثني إنسان إلى الصادق (عليه السلام) زعم أنّه يفزع في منامه من امرأة تأتيه قال: فصحت حتّى سمع الجيران، فقال الصادق (عليه السلام): اذهب، فقل: إنّك لا تؤدّي الزكاة، قال: بلى والله، إنّي لأؤدّيها، فقال (عليه السلام): قل له: إن كنت تؤدّيها لا تؤدّيها إلى أهلها.
قال یاسر الخادم: إنّ الرضا (عليه السلام) أصبح في بعض الأيّام، فقال لي: رأيت البارحة مولى لعليّ بن يقطين وبين عينيه غرّة بيضاء، فتأوّلت ذلك على الدين.
قال أبو بكر بن عيّاش قال: كنت عند الصادق (عليه السلام): فجاءه رجل، فقال: رأيتك في النوم كأنّي أقول لك: كم بقي من أجلي؟ فقلت لي بيدك هكذا _ وأومأ إلى خمس _ وقد شغل ذلك قلبي؟ فقال (عليه السلام): إنّك سألتني عن شيء لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وهي خمس تفرّد الله بها ﴿إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي الْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰاذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
هذا لا ينافي ما أخبروا (عليهم السلام) به من هذه الأشياء على سبيل الإعجاز، لأنّه كان بالوحي والإلهام وكان عدم الإخبار في هذا المقام لعدم وصول الخبر من الله تعالی إليه في تلك الواقعة أو لمصلحة وقد مرّ القول فيه في كتاب الإمامة.
جاء موسى الزوّار العطّار إلى الصادق (عليه السلام) فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤياً هالتني، رأيت صهراً لي ميّتاً وقد عانقني وقد خفت أن يكون الأجل قد اقترب، فقال (عليه السلام): يا موسى، توقّع الموت صباحاً ومساء، فإنّه ملاقينا ومعانقة الأموات للأحياء أطول لأعمارهم، فما كان اسم صهرك؟ قال: حسين، فقال (عليه السلام): أما، إنّ رؤياك تدلّ على بقائك وزيارتك الحسین (عليه السلام) فإنّ كلّ من عانق سميّ الحسين (عليه السلام) يزوره إن شاء الله تعالی.
قال إسماعيل بن عبد الله القرشي: أتى إلى الصادق (عليه السلام) رجل فقال: يا ابن رسول الله، رأيت في منامي كأنّي خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه، وكأنّ شيخاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه وأنا أشاهده فزعاً مذعوراً مرعوباً، فقال (عليه السلام): أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته، فاتّق الله الذي خلقك ثمّ يميتك، فقال الرجل: أشهد أنّك قد أوتيت علماً واستنبطته من معدنه، أخبرك يا ابن رسول الله عمّا قد فسّرت لي. إنّ رجلاً من جيراني جاءني وعرض عليّ ضيعته فهممت أن أملكها بوكس ١ كثير لما عرفت أنّه ليس لها طالب غيري، فقال الصادق (عليه السلام): وصاحبك يتولّانا ويبرأ من عدوّنا؟ فقال: نعم يا ابن رسول الله، رجل جيّد البصيرة مستحكم الدين وأنا تائب إلى الله عزّ وجلّ وإليك مما هممت به ونويته. فأخبرني يا ابن رسول الله، لو كان ناصبيّاً حلّ لي اغتياله؟ فقال (عليه السلام): أدّ الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين (عليه السلام).
عن الحسن بن الجهم قال: قال الرضا (عليه السلام): الرؤيا على ما تعبّر، فقلت له: إنّ بعض أصحابنا روى أنّ رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام، فقال الرضا (عليه السلام) إنّ امرأة رأت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ جذع بيتها انكسر، فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقصّت عليه الرؤيا، فقال لها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدم زوجك ويأتي وهو صالح _ وقد كان زوجها غائباً _ فقدم كما قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ غاب عنها زوجها غيبة أخرى، فرأت في المنام كأنّ جذع بيتها قد انكسر، فأتت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقصّت عليه الرؤيا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: يقدم زوجك ويأتي صالحاً، فقدم على ما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ غاب زوجها ثالثة فرأت في منامها أنّ جذع بيتها قد انكسر فلقيت رجلاً أعسر فقصّت عليه الرؤيا، فقال لها الرجل السوء: يموت زوجك، فبلغ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا كان عبّر لها خيراً؟
قال الباقر (عليه السلام): رأيت كأنّي على رأس جبل والناس يصعدون إليه من كلّ جانب، حتّى إذا كثروا عليه تطاول بهم في السماء، وجعل الناس يتساقطون عنه من كلّ جانب حتّى لم يبق منهم أحد إلّا عصابة يسيرة، ففعل ذلك خمس مرّات في كلّ ذلك يتساقط عنه الناس وتبقى تلك العصابة، أمّا إنّ قيس بن عبد الله بن عجلان في تلك العصابة. فما مكث بعد ذلك إلّا نحواً من خمس حتّى هلك.
كأنّ تأويل الرؤيا الفتن التي حدثت بعده (عليه السلام) في الشيعة، فارتدّوا.
قال الصادق (عليه السلام): رأت فاطمة (عليه السلام) في النوم كأنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ذبحا أو قتلا فأحزنها ذلك، فأخبرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رؤيا، فتمثّلت بين يديه قال: أنت أريت فاطمة هذا البلاء؟ قالت: لا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أضغاث، وأنت أريت فاطمة هذا البلاء؟ قالت: نعم، يا رسول الله، قال: ما أردت بذلك؟ قالت: أردت أحزنها، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام): اسمعي، ليس هذا بشيء.
كأنّ خطابه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لملك الرؤيا وشيطان الأضغاث لقوله سبحانه:﴿إِنَّمَا النَّجوى مِنَ الشَّيطانِ﴾ أو تمثّل بإعجازه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكلّ منهما مثال وتعلّق به روح، فسأله. ومثل هذا التسلّط الذي يذهب أثره سريعاً من الشيطان ولم يوجب معصية على المعصومين (عليهم السلام) لم يدلّ دليل على نفيه ولا ينافيه قوله تعالى ﴿إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ﴾. وقد مرّ بعض القول فيه في كتاب النبوّة وسيأتي أيضاً إن شاء الله تعالی.
قال الصادق (عليه السلام): إذا كان العبد على معصية الله عزّ وجلّ وأراد الله به خيراً أراه في منامه رؤياً تروعه فينزجر بها عن تلك المعصية، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة.
قال أبو المغراء: قال موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): من كانت له إلى الله حاجة وأراد أن يرانا وأن يعرف موضعه فليغتسل ثلاثة ليالٍ، يناجي بنا فإنّه يرانا ويغفر له بنا ولا يخفى عليه موضعه. قلت: سيّدي، فإنّ رجلاً رآك في المنام وهو يشرب النبيذ، قال (عليه السلام): ليس النبيذ يفسد عليه دينه، إنّما يفسد عليه تركنا وتخلّفه عنّا.
قال إبراهيم الكرخي: قلت للصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): إنّ رجلاً رأى ربّه عزّ وجلّ في منامه فما يكون ذلك؟ فقال (عليه السلام): ذلك رجل لا دين له، إنّ الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الصادق (عليه السلام): رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أميّة يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فأصبح كئيباً حزيناً قال: فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول الله، ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل، إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، إنّ هذا شيء ما اطّلعت عليه فعرج إلى السماء، فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها، قال: أ فرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، وأنزل عليه ﴿إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۞ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ۞ لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٌ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٍ﴾ جعل الله عزّ وجلّ ليلة القدر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.
روي أنّ عليّ بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قال: كنت أدعو الله سنة عقيب كلّ صلاة أن يعلّمني الاسم الأعظم، فإنّي ذات يوم قد صلّيت الفجر، فغلبتني عيناي وأنا قاعد، إذا أنا برجل قائم بين يديّ يقول لي: سألت الله تعالی أن يعلّمك الاسم الأعظم؟ قال (عليه السلام): قلت: نعم. قال: قل: اللّهمّ إنّي أسألك باسمك الله الله الله الله الذي لا إله إلّا هو ربّ العرش العظيم. قال: فوالله، ما دعوت بها لشيء إلّا رأيت نجحه.
قال الصادق (عليه السلام): كان في بني إسرائيل رجل فدعا الله أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين، فلمّا رأى أنّ الله لا يجيبه قال: يا ربّ، أ بعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت منّي، فلا تجيبني؟ قال: فأتاه آتٍ في منامه، فقال: إنّك تدعو الله عزّ وجلّ منذ ثلاث سنين بلسان بذيّ، وقلب عاتٍ غير تقيّ ونيّة غير صادقة، فأقلع عن بذائك وليتّق الله قلبك ولتحسن نيّتك، قال: ففعل الرجل ذلك ثمّ دعا الله فولد له الغلام.
قال الصادق (عليه السلام): انقطع الوحي وبقي المبشّرات، ألا، وهي نوم الصالحين والصالحات.
قال الصدوق (رحمه الله): يروى في الأخبار الصحيحة عن أئمّتنا (عليهم السلام) أنّ من رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحداً من الأئمّة (عليهم السلام) قد دخل مدينة أو قرية في منامه، فإنّه أمن لأهل المدينة أو القرية ممّا يخافون ويحذرون وبلوغ لما يأملون ويرجون.
قال الرضا (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشّرات؟ يعني (صلى الله عليه وآله وسلم) به الرؤيا.
قال الصادق (عليه السلام): رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءاً من أجزاء النبوّة.
لمّا غيّب الله تعالی في آخر الزمان عن الناس حجّتهم، تفضل عليهم وأعطاهم رأياً في استنباط الأحكام الشرعية ممّا وصل إليهم من أئمّتهم (عليه السلام) ولمّا حجب عنهم الوحي وخزانه أعطاهم الرؤيا الصادقة أزيد ممّا كان لغيرهم ليظهر عليهم بعض الحوادث قبل حدوثها.
قال محمّد الواقفي: كان لي ابن عمّ _ يقال له الحسن بن عبد الله _
وكان زاهداً وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان وربما استقبل السلطان بالكلام الصعب يعظه ويأمر بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه فلم يزل هذه حاله حتّى كان يوماً دخل موسى الكاظم (عليه السلام) المسجد، فرآه فدنا إليه، ثمّ قال له: يا با عليّ، ما أحبّ إليّ ما أنت فيه وأسرّني بك، إلّا أنّه ليست بك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة، قال: جعلت فداك، وما المعرفة؟ قال (عليه السلام) له: اذهب وتفقّه واطلب الحديث، قال: عمّن؟ قال (عليه السلام): عن مالك بن أنس وعن فقهاء أهل المدينة ثمّ اعرض الحديث عليّ.
قال: فذهب فتكلّم معهم ثمّ جاءه فقرأه عليه فأسقطه كلّه. ثمّ قال (عليه السلام) له: اذهب واطلب المعرفة، وكان الرجل معنيّاً بدينه، فلم يزل يترصّد الكاظم (عليه السلام) حتّى خرج إلى ضيعة له فتبعه ولحقه في الطريق، فقال له: جعلت فداك، إنّي أحتجّ عليك بين يدي الله فدلّني على المعرفة، قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) وقال (عليه السلام) له: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره بأمر أبي بكر وعمر فقبل منه، ثمّ قال: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال (عليه السلام): الحسن (عليه السلام) ثمّ الحسين (عليه السلام) حتّى انتهى إلى نفسه (عليه السلام) ثمّ سكت، قال: جعلت فداك، فمن هو اليوم؟ قال (عليه السلام): إن أخبرتك تقبل؟ قال: بلى، جعلت فداك،
فقال (عليه السلام): أنا هو.
قال: جعلت فداك، فشيء أستدلّ به؟ قال (عليه السلام): اذهب إلى تلك الشجرة _ وأشار إلى أمّ غيلان _ فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر (عليه السلام): أقبلي، قال: فأتيتها. قال: فرأيتها _ والله _ تجبّ الأرض جبوباً[1] حتّى وقفت بين يديه ثمّ أشار إليها، فرجعت قال: فأقرّ به، ثمّ لزم السكوت، فكان لا يراه أحد يتكلّم بعد ذلك.
وكان من قبل ذلك يرى الرؤيا الحسنة وترى له ثمّ انقطعت عنه الرؤيا فرأى ليلة الصادق (عليه السلام) فيما يرى النائم، فشكا إليه انقطاع الرؤيا فقال (عليه السلام): لا تغتمّ، فإنّ المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا.
قال العسكري (عليه السلام): من أكثر المنام رأى الأحلام.
قال الشهید (رحمه الله): الظاهر أنّه (عليه السلام) يعني أنّ طلب الدنيا كالنوم وما يصير منها كالحلم. وأقول: يتحمّل أن يكون المعنى أنّ كثرة الغفلة عن ذكر الله وعن الموت وأمور الآخرة موجبة للأمانيّ الباطلة والخيالات الفاسدة التي هي كأضغاث الأحلام ولا يلتفت إليها الكرام مع أنّ الحمل على ظاهره أظهر وأصوب بحمل الأحلام على الفاسدة منها كما ورد أنّ الحلم من الشيطان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله وتحزين من الشيطان والذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرؤيا على ثلاثة، منها: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم؛ ومنها: الأمر يحدّث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام؛ ومنها: جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوّة.
قال الكراجكي (رحمه الله): وجدت لشيخنا المفيد (رحمه الله) في بعض كتبه: أنّ الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز وتهاون أهل النظر به شديد والبليّة بذلك عظيمة وصدق القول فيه أصل جليل، والرؤيا في المنام يكون من أربع جهات:
أحدها: حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتّى يحصل كالمنطبع في النفس فيتخيّل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه وهذا معروف بالاعتبار.
الجهة الثانية: من الطباع وما يكون من قهر بعضها لبعض فيضطرب له المزاج ويتخيّل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئيّ وملبوس ومبهج ومزعج قد ترى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتّى أنّ من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي يتخيّل له من وقوعه منه، ويناله من الهلع والزمع ما لا ينال غيره ومن غلبت عليه السوداء يتخيّل له أنّه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظنّ صحّة ذلك حتّى إنّه ربما اعتقد في نفسه النبوّة وأنّ الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك.
والجهة الثالثة: ألطاف من الله عزّ وجلّ لبعض خلقه من تنبيه وتيسير وإعذار وإنذار فيلقي في روعه ما ينتج له تخييلات أمور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة وتزجره عن المعصية وتخوفه الآخرة ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة وفكر يحدث له معرفة.
والجهة الرابعة: أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان يذكره بها أموراً تحزنه وأسباباً تغمّه فيما لا يناله أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه أو تخيّل شبهة في دينه يكون منها هلاكه وذلك مختصّ بمن عدم التوفيق لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلّا الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) ومن رسخ في العلم من الصالحين.
وقد كان شيخي (رض) قال لي: إنّ كلّ من كثر علمه واتّسع فهمه قلّت مناماته، فإن رأى مع ذلك مناماً وكان جسمه من العوارض سليماً فلا يكون منامه إلّا حقّاً يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيّجة للطباع وغلبة بعضها على ما تقدّم به البيان والسكران أيضاً لا يصحّ منامه وكذلك الممتلئ من الطعام، لأنّه كالسكران ولذلك قيل: إنّ المنامات قلّ ما يصحّ في ليالي شهر رمضان، فأمّا منامات الأنبياء (عليهم السلام) فلا تكون إلّا صادقة وهي وحي في الحقيقة ومنامات الأئمّة (عليهم السلام) جارية مجرى الوحي وإن لم تسمّ وحياً ولا تكون قطّ إلّا حقّاً وصدقاً وإذا صحّ منام المؤمن، فإنّه من قبل الله تعالی كما ذكرناه.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزءاً من النبوّة.
وروي عنه (عليه السلام) أنّه قال: رؤيا المؤمن تجري مجرى كلام تكلّم به الربّ عنده.
فأمّا وسوسة شياطين الجنّ فقد ورد السمع بذكرها، قال الله تعالی: ﴿مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ۞ ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ﴾ وقال: ﴿وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡ﴾ وقال: ﴿شَيَاطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُوراً﴾ وورد السمع به فلا طريق إلى دفعه.
فأمّا كيفية وسوسة الجنّي للإنسي، فهو أنّ الجنّ أجسام رقاق لطاف فيصحّ أن يتوصّل أحدهم برقّة جسمه ولطافته إلى غاية سمع الإنسان ونهايته فيوقع فيه كلاماً يلبس عليه إذا سمعه ويشتبه عليه بخواطره، لأنّه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه ويصحّ أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعاً وليس هو في العقل مستحيلاً.
روى جابر بن عبد الله أنّه قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب إذ قام إليه رجل، فقال: يا رسول الله، إنّي رأيت كأنّ رأسي قد قطع وهو يتدحرج وأنا أتبعه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحدّث بلعب الشيطان بك، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا لعب الشيطان أحدكم في منامه فلا يحدّثنّ به أحداً.
وأمّا رؤية الإنسان للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لأحد الأئمّة (عليهم السلام) في المنام فإنّ ذلك عندي على ثلاثة أقسام: قسم أقطع على صحّته وقسم أقطع على بطلانه وقسم أجوّز فيه الصحّة والبطلان، فلا أقطع فيه على حال فأمّا الذي أقطع على صحّته فهو كلّ منام رأى فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمّة (عليهم السلام) وهو الفاعل لطاعة أو آمر بها وناهٍ عن معصية أو مبيّن لقبحها وقائل لحقّ أو داعٍ إليه وزاجر عن باطل أو ذامّ لمن هو عليه، وأمّا الذي أقطع على بطلانه فهو كلّ ما كان ضدّ ذلك لعلمنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) صاحبا حقّ وصاحب الحقّ بعيد عن الباطل، وأمّا الذي أجوّز فيه الصحّة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) وليس هو آمراً ولا ناهياً ولا على حال يختصّ بالديانات مثل أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو ذلك، وأمّا الخبر الذي يروى عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: من رآني فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي.
فإنّه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كلّ حال ويكون المراد به القسم الأوّل من الثلاثة الأقسام؛ لأنّ الشيطان لا يتشبّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شيء من الحقّ والطاعات، وأمّا ما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: «من رآني نائماً رآني يقظان»، فإنّه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصّاً كالخبر الأوّل على القسم الذي قدمناه، والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ويكون قوله نائماً حالاً للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وليست حالاً لمن رآه فكأنّه قال:من رآني وأنا نائم فكأنّما رآني وأنا منتبه. والفائدة في هذا المقال أن يعلّمهم بأنّه يدرك في الحالتين إدراكاً واحداً فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن أن يذكروه بحضرته وهو منتبه، وقد روي عنه (عليه السلام) أنّه غفا ثمّ قام يصلّي من غير تجديد وضوء فسئل عن ذلك، فقال: «إنّي لست كأحدكم تنام عيناي ولا ينام قلبي». وجميع هذه الروايات أخبار آحاد، فإن سلّمت فعلى هذا المنهاج وقد كان شيخي (رحمه الله) يقول: إذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنّه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلّة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة، فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنّه نبيّ مع تمكّن إبليس ممّا لا يتمكّن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام؟
وممّا يوضح لك أنّ من المنامات التي يتخيّل للإنسان أنّه قد رأى فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) منها ما هو حقّ ومنها ما هو باطل أنّك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلمني أنه خليفته من بعده وأنّ أبا بكر وعمر وعثمان ظالموه وأعداؤه وينهاني عن موالاتهم ويأمرني بالبراءة منهم ونحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب الشيعة، ثمّ يرى الناصبي يقول: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو يأمرني بمحبّتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنّهم أصحابه في الدنيا والآخرة وأنّهم معه في الجنّة ونحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب الناصبية، فنعلم لا محالة أنّ أحد المنامين حقّ والآخر باطل. فأولى الأشياء أن يكون الحقّ منهما ما ثبت الدليل في اليقظة على صحّة ما تضمّنه والباطل ما أوضحت الحجّة عن فساده وبطلانه.