- جواهر البحار
- » كتاب الحج والعمرة
- » أحاديث في فضل الحجر وعلّة استلامه
قال عبد الله بن سنان: بينا نحن في الطواف إذ مرّ رجل من آل عمر، فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر، فانتهره وأغلظه وقال له: بطل حجّك، إنّ الذي تستلمه حجر لا يضرّ ولا ينفع، فقلت للصادق (عليه السلام): جعلت فداك، أ ما سمعت قول العمري لهذا الذي استلم الحجر؟ قال: فأصابه ما أصابه، فقال (عليه السلام): وما الذي قال؟ قلت: قال له: يا عبد الله، بطل حجّك، ثمّ إنّما هو حجر لا يضرّ ولا ينفع، فقال الصادق (عليه السلام): كذب، ثمّ كذب، ثمّ كذب، إنّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة.
ثمّ قال (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى لمّا خلق السماوات والأرض، خلق بحرين بحراً عذباً وبحراً أجاجاً، فخلق تربة آدم من البحر العذب، وشنّ عليها من البحر الأجاج، ثمّ جبل آدم فعرك عرك الأديم فتركه ما شاء الله، فلمّا أراد أن ينفخ فيه الروح أقامه شبحاً، فقبض قبضة من كتفه الأيمن فخرجوا كالذرّ، فقال: هؤلاء إلى الجنّة، وقبض قبضة من كتفه الأيسر فقال: هؤلاء إلى النار، فأنطق الله عزّ وجلّ أصحاب اليمين وأصحاب اليسار، فقال أهل اليسار: يا ربّ، لم خلقت لنا النار ولم تبيّن لنا، ولم تبعث إلينا رسولاً؟ فقال الله عزّ وجلّ لهم: ذلك لعلمي بما أنتم صائرون إليه وإنّي سائلكم، فأمر الله عزّ وجلّ النار فأسعرت، ثمّ قال: لهم تقحّموا جميعاً في النار، فإنّي أجعلها عليكم برداً وسلاماً، فقالوا: يا ربّ، إنّما سألناك لأيّ شيء جعلتها لنا هرباً منها، ولو أمرت أصحاب اليمين ما دخلوا، فأمر الله عزّ وجلّ النار فأسعرت ثمّ قال لأصحاب اليمين: تقحّموا جميعاً في النار، فتقحّموا جميعاً فكانت عليهم برداً وسلاماً، فقال لهم جميعاً: أ لست بربّكم؟ قال أصحاب اليمين: «بلى» طوعاً، وقال أصحاب الشمال: «بلى» كرهاً، فأخذ منهم جميعاً ميثاقهم، وأشهدهم على أنفسهم.
قال (عليه السلام): وكان الحجر في الجنّة فأخرجه الله عزّ وجلّ، فالتقم الميثاق من الخلق كلّهم فذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾، فلمّا أسكن الله عزّ وجلّ آدم الجنّة وعصى، أهبط الله عزّ وجلّ الحجر فجعله في ركن بيته، وأهبط آدم على الصفا فمكث ما شاء الله، ثمّ رآه في البيت فعرفه وعرف ميثاقه وذكره، فجاء إليه مسرعاً، فأكبّ عليه وبكى عليه أربعين صباحاً تائباً من خطيئته ونادماً على نقضه ميثاقه، قال (عليه السلام): فمن أجل ذلك أمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة وهي تطوف معه بالكعبة حين استلما الركن: يا عائشة، لولا ما طبع الله على هذا الحجر من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذاً لاستشفى به من كلّ عاهة، وإذاً لألفي كهيئة يوم أنزله الله عزّ وجلّ، وليبعثنّه الله على ما خلق عليه أوّل مرّة، وإنّه لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنّة، ولكنّ الله عزّ وجلّ غيّر حسنه بمعصية العاصين، وسترت بنيّته عن الأئمّة والظلمة، لأنّه لا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء بدؤه من الجنّة، لأنّ من نظر إلى شيء منها على جهته وجبت له الجنّة، وإنّ الركن يمين الله عزّ وجلّ في الأرض، وليبعثنّه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان وعينان، ولينطقنّه الله يوم القيامة بلسان طلق ذلق، ليشهد لمن استلمه بحقّ استلامه اليوم، بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال الصادق (عليه السلام): مرّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود، فقال: والله، يا حجر، إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، إلّا أنّا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّك، فنحن نحبّك، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يا بن الخطّاب؟ فوالله، ليبعثنّه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين الله في أرضه يبايع بها خلقه، فقال عمر: لا أبقانا الله في بلد لا يكون فيه عليّ بن أبي طالب.
قال الصادق (عليه السلام): كان الحجر الأسود أشدّ بياضاً من اللبن؛ فلو لا ما مسّه من أرجاس الجاهلية ما مسّه ذو عاهة إلّا برأ.
قال جعفر بن محمّد بن قولويه ١ : لمّا وصلت بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة للحجّ، وهي السنة التي ردّ القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت، كان أكبر همّي الظفر بمن ينصب الحجر، لأنّه يمضي في أثناء الكتب قصّة أخذه، وأنّه لا يضعه في مكانه إلّا الحجّة في الزمان، كما في زمان الحجّاج وضعه زين العابدين (عليه السلام) في مكانه واستقرّ، فاعتللت علّة صعبة، خفت منها على نفسي، ولم يتهيّأ لي ما قصدت له، فاستنبت المعروف بابن هشام، وأعطيته رقعة مختومة أسأل فيها عن مدّة عمري، وهل تكون الموتة في هذه العلّة؟ أم لا؟ وقلت: همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، وأخذ جوابه وإنّما أندبك لهذا.
فقال المعروف بابن هشام: لمّا حصلت بمكّة، وعزم على إعادة الحجر، بذلت سدنة البيت جملة تمكّنت معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه، وأقمت معي منهم من يمنع عنّي ازدحام الناس، فكلّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه، فتناوله ووضعه في مكانه فاستقام كأنّه لم يزل عنه، وعلت لذلك الأصوات، فانصرف خارجاً من الباب، فنهضت من مكاني أتبعه، وأدفع الناس عنّي يميناً وشمالاً حتّى ظنّ بي الاختلاط في العقل، والناس يفرجون لي، وعيني لا تفارقه حتّى انقطع عن الناس، فكنت أسرع المشي خلفه، وهو يمشي على تؤدة ٢ ولا أدركه. فلمّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري وقف والتفت إليّ، فقال: هات ما معك، فناولته الرقعة، فقال من غير أن ينظر إليها: قل له: لا خوف عليك في هذه العلّة، ويكون ما لا بدّ منه بعد ثلاثين سنة، قال: فوقع عليّ الدمع حتّى لم أطق حراكاً، وتركني وانصرف. قال ابن قولویه: فأعلمني بهذه الجملة.
فلمّا كان سنة سبع وستّين اعتلّ ابن قولویه، وأخذ ينظر في أمره وتحصيل جهازه إلى قبره، فكتب وصيّته واستعمل الجدّ في ذلك، فقيل له: ما هذا الخوف؟ ونرجو أن يتفضّل الله بالسلامة، فما علّتك بمخوفة؟ فقال: هذه السنة التي خوّفت فيها، فمات في علّته.
(٢) «التُّؤَدَة»: التَّأَنّي، وبدون استعجال. مجمع البحرين، ج٣، ص١٨.