أحاديث في ما جرى بين الإمام الرضا (ع) والمأمون وهذه أحاديث جليلة جمعها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وقد اقتبس الشيخ حبيب الكاظمي بعض هذه الأحاديث وحذف أسانيدها مع مراعاة التبويب، فكانت جواهر البحار الذي بين يديك.
.
فهرس جواهر البحار
كتاب العقل والعلم والجهل
كتاب التوحيد
كتاب العدل والمعاد
كتاب الاحتجاج
كتاب النبوة
كتاب تاريخ نبينا (ص)
كتاب الإمامة
كتاب الفتن والمحن
كتاب تاريخ أميرالمؤمنين (ع)
كتاب تاريخ فاطمة والحسنين (ع)
كتاب تاريخ السجاد والباقر والصادق والكاظم (ع)
كتاب تاريخ الرضا والجواد والهادي والعسكري (ع)
كتاب تاريخ الحجة (عج)
كتاب السماء والعالم
كتاب الإيمان والكفر
كتاب العشرة
كتاب الآداب والسنن
كتاب الروضة
كتاب الطهارة
كتاب الصلاة
كتاب القرآن
كتاب الأدعية والأذكار
كتاب الزكاة والصدقة
كتاب الصوم
كتاب أعمال السنين والشهور
كتاب الحج والعمرة
كتاب الجهاد
كتاب المزار
كتاب العقود والإيقاعات
الحديث: ١
/
ترتيب جواهر البحار: ٣٢٤٦
كان الرضا (عليه السلام) إذا خلا جمع حشمه كلّهم عنده الصغير والكبير، فيحدّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم، وكان (عليه السلام) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً حتّى السائس والحجّام، إلّا أقعده معه على مائدته. فبينا نحن عنده يوماً، إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار الرضا (عليه السلام)، فقال لنا الرضا (عليه السلام): قوموا تفرّقوا، فقمنا عنه، فجاء المأمون ومعه كتاب طويل، فأراد الرضا (عليه السلام) أن يقوم، فأقسم عليه المأمون بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا يقوم إليه، ثمّ جاء حتّى انكبّ على الرضا (عليه السلام) وقبّل وجهه، وقعد بين يديه على وسادة، فقرأ ذلك الكتاب عليه، فإذا هو فتح لبعض قرى كابل، فيه: إنّا فتحنا قرية كذا وكذا.
فلمّا فرغ قال له الرضا (عليه السلام): وسرّك فتح قرية من قرى الشرك؟ فقال له المأمون: أ وليس في ذلك سرور؟ فقال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، اتّق الله في أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، وما ولّاك الله من هذا الأمر وخصّك به، فإنّك قد ضيّعت أمور المسلمين، وفوّضت ذلك إلى غيرك، يحكم فيهم بغير حكم الله عزّ وجلّ، وقعدت في هذه البلاد، وتركت بيت الهجرة ومهبط الوحي، وإنّ المهاجرين والأنصار يظلمون دونك، ولا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمّة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه ويعجز عن نفقته، فلا يجد من يشكو إليه حاله، ولا يصل إليك، فاتّق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين، وارجع إلى بيت النبوّة، ومعدن المهاجرين والأنصار، أ ما علمت يا أمير المؤمنين، أنّ والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط؟ من أراده أخذه.
قال المأمون: يا سيّدي فما ترى؟ قال (عليه السلام): أرى أن تخرج من هذه البلاد، وتتحوّل إلى موضع آبائك وأجدادك، وتنظر في أمور المسلمين، ولا تكلهم إلى غيرك، فإنّ الله عزّ وجلّ سائلك عمّا ولّاك. فقام المأمون فقال: نعم ما قلت يا سيّدي، هذا هو الرأي، وخرج وأمر أن تقدّم النوائب. وبلغ ذلك ذا الرئاستين فغمّه غمّاً شديداً، وقد كان غلب على الأمر، ولم يكن للمأمون عنده رأي، فلم يجسر أن يكاشفه.
ثمّ قوي الرضا (عليه السلام) جدّاً، فجاء ذو الرئاستين إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا الرأي الذي أمرت به؟ فقال: أمرني سيّدي الرضا (عليه السلام) بذلك، وهو الصواب، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك وجميع أهل العراق وأهل بيتك والعرب، ثمّ أحدثت هذا الحدث الثاني، إنّك جعلت ولاية العهد للرضا (عليه السلام) وأخرجتها من بني أبيك، والعامّة والعلماء والفقهاء وآل عبّاس لا يرضون بذلك، وقلوبهم متنافرة عنك.
والرأي أن تقيم بخراسان حتّى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر محمّد أخيك، وهاهنا يا أمير المؤمنين، مشايخ قد خدموا الرشيد وعرفوا الأمر، فاستشرهم في ذلك، فإن أشاروا به فأمضه، فقال المأمون: مثل من؟ قال: مثل عليّ بن أبي عمران، وابن مونس، والجلودي، وهؤلاء هم الذين نقموا بيعة الرضا (عليه السلام) ولم يرضوا به. فحبسهم المأمون بهذا السبب، فقال المأمون: نعم.
فلمّا كان من الغد جاء الرضا (عليه السلام) فدخل على المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، ما صنعت؟ فحكى له ما قال ذو الرئاستين، ودعا المأمون بهؤلاء النفر فأخرجهم من الحبس، فأوّل من دخل عليه عليّ بن أبي عمران، فنظر إلى الرضا (عليه السلام) بجنب المأمون فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصّكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشرّدونهم في البلاد. قال المأمون له: يا بن الزانية، وأنت بعد على هذا؟ قدّمه يا حرسي واضرب عنقه، فضربت عنقه.
وأدخل ابن مونس، فلمّا نظر إلى الرضا (عليه السلام) بجنب المأمون قال: يا أمير المؤمنين، هذا الذي بجنبك _ والله _ صنم يعبد دون الله، قال له المأمون: يا بن الزانية، وأنت بعد على هذا؟ يا حرسيّ، قدّمه واضرب عنقه، فضرب عنقه.
ثمّ أدخل الجلودي وكان الجلودي في خلافة الرشيد لمّا خرج محمّد بن جعفر بن محمّد بالمدينة بعثه الرشيد وأمره إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهنّ إلّا ثوباً واحداً، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى (عليه السلام) فصار الجلودي إلى باب أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فانهجم على داره مع خيله، فلمّا نظر إليه الرضا (عليه السلام) جعل النساء كلّهنّ في بيت، ووقف على باب البيت، فقال الجلودي للرضا (عليه السلام): لا بدّ من أن أدخل البيت، فأسلبهنّ كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضا (عليه السلام): أنا أسلبهنّ لك وأحلف أنّي لا أدع عليهنّ شيئاً إلّا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتّى سكن، فدخل الرضا (عليه السلام) فلم يدع عليهنّ شيئاً، حتّى أقراطهنّ وخلاخيلهنّ وإزارهنّ إلّا أخذه منهنّ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.
فلمّا كان في هذا اليوم وأدخل الجلودي على المأمون، قال الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الشيخ، فقال المأمون: يا سيّدي، هذا الذي فعل ببنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما فعل من سلبهنّ، فنظر الجلودي إلى الرضا (عليه السلام) وهو يكلّم المأمون، ويسأله عن أن يعفو عنه ويهبه له، فظنّ أنّه يعين عليه لمّا كان الجلودي فعله، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا فيّ، فقال المأمون: يا أبا الحسن، قد استعفى ونحن نبرّ قسمه، ثمّ قال: لا، والله، لا أقبل فيك قوله، ألحقوه بصاحبيه، فقدّم وضرب عنقه.
المصدر الأصلي: عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٩
، ص١٦٤-١٦٧
الحديث: ٢
/
ترتيب جواهر البحار: ٣٢٤٧
قال عبد السلام أبو الصلت الهروي: جئت إلى باب الدار التي حبس فيه الرضا (عليه السلام) بسرخس وقد قيّد، فاستأذنت عليه السجّان، فقال: لا سبيل لكم إليه، فقلت: ولم؟ قال: لأنّه ربما صلّى في يومه وليلته ألف ركعة، وإنّما ينفتل من صلاته ساعة في صدر النهار وقبل الزوال وعند اصفرار الشمس، فهو في هذه الأوقات قاعد في مصلّاه يناجي ربّه، فقلت له: فاطلب لي في هذه الأوقات إذناً عليه، فاستأذن لي عليه فدخلت عليه وهو قاعد في مصلّاه متفكّر.
قال أبو الصلت: فقلت: يا بن رسول الله، ما شيء يحكيه عنكم الناس؟ قال (عليه السلام): وما هو؟ قلت: يقولون: إنّكم تدّعون أنّ الناس لكم عبيد؟ فقال (عليه السلام): اللّهمّ فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت شاهد بأنّي لم أقل ذلك قطّ، ولا سمعت أحداً من آبائي (عليهم السلام) قاله قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة، وأنّ هذه منها.
ثمّ أقبل عليّ فقال: يا عبد السلام، إذا كان الناس كلّهم عبيدنا على ما حكوه عنّا، فممّن نبيعهم؟ فقلت: يا بن رسول الله، صدقت، ثمّ قال (عليه السلام): يا عبد السلام، أ منكر أنت لما أوجب الله عزّ وجلّ لنا من الولاية كما ينكره غيرك؟ قلت: معاذ الله، بل أنا مقرّ بولايتكم.
المصدر الأصلي: عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٩
، ص١٧۰-١٧١
الحديث: ٣
/
ترتيب جواهر البحار: ٣٢٤٨
وجد الخليفة المأمون في يوم عيد انحراف مزاج، أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس، فقال لأبي الحسن عليّ الرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن، قم وصلّ بالناس، فخرج الرضا (عليه السلام) وعليه قميص قصیر أبيض، وعمامة بيضاء نظيفة، وهما من قطن، وفي يده قضيب، فأقبل ماشياً يؤمّ المصلّى وهو يقول: السلام على أبويّ آدم ونوح (عليهما السلام)، السلام على أبويّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، السلام على أبويّ محمّد وعليّ (عليهما السلام)، السلام على عباد الله الصالحين.
فلمّا رآه الناس أهرعوا إليه، وانثالوا عليه لتقبيل يديه، فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، تدارك الناس واخرج صلّ بهم، وإلّا خرجت الخلافة منك الآن، فحمله على أن خرج بنفسه، وجاء مسرعاً والرضا (عليه السلام) بعد من كثرة الزحام عليه لم يخلص إلى المصلّى، فتقدّم المأمون وصلّى بالناس.
المصدر الأصلي: كشف الغمّة
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٩
، ص١٧١-١٧٢
الحديث: ٤
/
ترتيب جواهر البحار: ٣٢٤٩
قال الجواد (عليه السلام): إنّ الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) لمّا جعله المأمون وليّ عهده احتبس المطر، فجعل بعض حاشية المأمون والمتعصّبين على الرضا (عليه السلام) يقولون: انظروا لمّا جاءنا عليّ بن موسى (عليه السلام) وصار وليّ عهدنا فحبس الله تعالی عنّا المطر، واتّصل ذلك بالمأمون فاشتدّ عليه، فقال للرضا (عليه السلام): قد احتبس المطر، فلو دعوت الله عزّ وجلّ أن يمطر الناس؟ قال الرضا (عليه السلام): نعم، قال: فمتى تفعل ذلك وكان ذلك يوم الجمعة، قال (عليه السلام): يوم الاثنين، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاني البارحة في منامي ومعه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا بنيّ، انتظر يوم الاثنين فابرز إلى الصحراء واستسق، فإنّ الله عزّ وجلّ سيسقيهم وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون حاله؛ ليزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجلّ.
فلمّا كان يوم الاثنين غدا إلى الصحراء وخرج الخلائق ينظرون فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: اللّهمّ يا ربّ، أنت عظّمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت وأمّلوا فضلك ورحمتك وتوقّعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً عامّاً غير رائث ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارّهم. قال: فوالله الذي بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) بالحقّ نبيّاً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت وتحرّك الناس كأنّهم يرون التنحّي عن المطر.
فقال الرضا (عليه السلام): على رسلكم أيّها الناس، فليس هذا الغيم لكم، إنّما هو لأهل بلد كذا، فمضت السحابة وعبرت، ثمّ جاءت سحابة أخرى تشتمل علی رعد وبرق فتحرّكوا، فقال (عليه السلام): علی رسلكم، فما هذه لكم، إنّما هي لأهل بلد كذا.
فما زال حتّى جاءت عشر سحابات وعبرت، ويقول عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في كلّ واحدة: على رسلكم، ليست هذه لكم، إنّما هي لأهل بلد كذا، ثمّ أقبلت سحابة حادية عشر، فقال (عليه السلام): أيّها الناس، هذه بعثها الله عزّ وجلّ لكم، فاشكروا الله تعالی على تفضّله عليكم، وقوموا إلى منازلكم ومقارّكم، فإنّها مسامتة لكم ولرءوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا مقارّكم ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالی وجلاله، ونزل من المنبر، فانصرف الناس فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم، ثمّ جاءت بوابل المطر فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات، فجعل الناس يقولون: هنيئاً لولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كرامات الله عزّ وجلّ.
ثمّ برز إليهم الرضا (عليه السلام) وحضرت الجماعة الكثيرة منهم، فقال: أيّها الناس، اتّقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفّروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله عزّ وجلّ بشيء بعد الإيمان بالله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحبّ إليكم من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبرتهم إلى جنان ربّهم، فإنّ من فعل ذلك كان من خاصّة الله تبارك وتعالی .
و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله تعالی عليه إن تأمّله وعمل عليه، قيل: يا رسول الله، هلك فلان يعمل من الذنوب كيت وكيت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بل قد نجا، ولا يختم الله تعالی عمله إلّا بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيّئات ويبدّلها له حسنات، إنّه كان مرّة يمرّ في طريق عرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر، فسترها عليه، ولم يخبره بها مخافة أن يخجل، ثمّ إنّ ذلك المؤمن عرفه في مهواة، فقال له: أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب ولا ناقشك الحساب، فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يختم له إلّا بخير بدعاء ذلك المؤمن، فاتّصل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الرجل فتاب وأناب وأقبل على طاعة الله عزّ وجلّ، فلم يأت عليه سبعة أيّام حتّى أغير على سرح المدينة، فوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم، فاستشهد فيهم.
قال الجواد (عليه السلام): وأعظم الله تبارك وتعالی البركة في البلاد بدعاء الرضا (عليه السلام)، وقد كان للمأمون من يريد أن يكون هو وليّ عهده من دون الرضا (عليه السلام) وحسّاد كانوا بحضرة المأمون للرضا (عليه السلام)، فقال للمأمون بعض أولئك: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تكون تاريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم والفخر العظيم من بيت ولد العبّاس إلى بيت ولد عليّ (عليه السلام)، ولقد أعنت على نفسك وأهلك، جئت بهذا الساحر ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته ومتّضعاً فرفعته ومنسيّاً فذكرت به ومستخفّاً فنوّهت به، قد ملأ الدنيا مخرقة وتشوّقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، ما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العبّاس إلى ولد عليّ (عليه السلام)، بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره إلى إزالة نعمتك والتوثّب على مملكتك، هل جنی أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟
فقال المأمون: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه لنا وليعرف بالملك والخلافة لنا وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلنا به ما فعلنا وأخطأنا في أمره بما أخطأنا وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتّى نصوّره عند الرعيّة بصورة من لا يستحقّ لهذا الأمر ثمّ ندبّر فيه بما يحسم عنّا موادّ بلائه، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، فولّني مجادلته، فإنّي أفحمه وأصحابه وأضع من قدره، فلولا هيبتك في صدري لأنزلته منزلته وبيّنت للناس قصوره عمّا رشحته له.
قال المأمون: ما شيء أحبّ إليّ من هذا، قال: فاجمع وجوه أهل مملكتك والقوّاد والقضاة وخيار الفقهاء، لأبين نقصه بحضرتهم فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه على علم منهم بصواب فعلك، قال: فجمع الخلق الفاضلين من رعيّته في مجلس واسع قعد فيه لهم وأقعد الرضا (عليه السلام) بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فابتدأ هذا الحاجب المتضمّن للوضع من الرضا (عليه السلام) وقال له: إنّ الناس قد أكثروا عنك الحكايات وأسرفوا في وصفك بما أرى أنّك إن وقفت عليه برئت إليهم منه، فأوّل ذلك أنّك دعوت الله في المطر المعتاد مجيؤه فجاء، فجعلوه آية لك معجزة أوجبوا لك بها أن لا نظير لك في الدنيا، وهذا أمير المؤمنين _ أدام الله ملكه وبقاءه _ لا يوازن بأحد إلّا رجّح به، وقد أحلّك المحلّ الذي عرفت، فليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكاذبين لك وعليه ما يتكذّبونه.
فقال الرضا (عليه السلام): ما أدفع عباد الله عن التحدّث بنعم الله عليّ وإن كنت لا أبغي أشراً ولا بطراً، وأمّا ذكرك صاحبك الذي أحلّني فما أحلّني إلّا المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصدّيق (عليه السلام) وكانت حالهما ما قد علمت، فغضب الحاجب عند ذلك، فقال: يا ابن موسى، لقد عدوت طورك وتجاوزت قدرك أن بعث الله تعالی بمطر مقدّر وقته لا يتقدّم ولا يتأخّر، جعلته آية تستطيل بها وصولة تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم (عليه السلام) لمّا أخذ رءوس الطير بيده ودعا أعضاءها التي كان فرّقها على الجبال فأتينه سعياً وتركبن على الرءوس وخفقن وطرن بإذن الله، فإن كنت صادقاً فيما توهّم فأحي هذين وسلّطهما عليّ، فإنّ ذلك يكون حينئذٍ آية معجزة، فأمّا المطر المعتاد مجيؤه فلست أحقّ بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الذي دعا كما دعوت، وكان الحاجب قد أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند المأمون الذي كان مستنداً إليه وكانا متقابلين على المسند.
فغضب عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) وصاح بالصورتين: دونكما الفاجر، فافترساه ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً، فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدين فتناولا الحاجب وعضاه ورضاه وهشماه وأكلاه ولحسا دمه والقوم ينظرون متحيّرين ممّا يبصرون.
فلمّا فرغا منه أقبلا على الرضا (عليه السلام) وقالا: يا وليّ الله في أرضه، ما ذا تأمرنا نفعل بهذا؟ أ نفعل به فعلنا بهذا _ يشيران إلى المأمون _؟ فغشي على المأمون ممّا سمع منهما، فقال الرضا (عليه السلام): قفا، فوقفا، ثمّ قال الرضا (عليه السلام): صبّوا عليه ماء ورد وطيّبوه، ففعل ذلك به وعاد الأسدان يقولان: أ تأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الذي أفنيناه؟ قال (عليه السلام): لا، فإنّ لله عزّ وجلّ فيه تدبيراً هو ممضيه، فقالا: ما ذا تأمرنا؟ فقال (عليه السلام): عودا إلى مقرّكما كما كنتما، فعادا إلى المسند وصارا صورتين كما كانتا.
فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شرّ حميد بن مهران _ يعني الرجل المفترس _ ثمّ قال للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا الأمر لجدّكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ لكم، فلو شئت لنزلت عنه لك، فقال الرضا (عليه السلام): لو شئت لما ناظرتك ولم أسألك، فإنّ الله عزّ وجلّ قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصورتين إلّا جهّال بني آدم، فإنّهم وإن خسروا حظوظهم، فللّه عزّ وجلّ فيهم تدبير وقد أمرني بترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهرته من العمل من تحت يدك كما أمر يوسف (عليه السلام) بالعمل من تحت يد فرعون مصر، قال: فما زال المأمون ضئيلاً إلى أن قضى في عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) ما قضى.
المصدر الأصلي: عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٩
، ص١٨۰-١٨٥
الحديث: ٥
/
ترتيب جواهر البحار: ٣٢٥٠
روي أنّه لمّا سار المأمون إلى خراسان وكان معه الرضا (عليه السلام) عليّ بن موسى (عليه السلام)، فبينا هما يسيران إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن، إني فكّرت في شيء فنتج لي الفكر الصواب فيه، فكّرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبية.
فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ لهذا الكلام جواباً إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت؟ فقال له المأمون: إنّي لم أقله إلّا لأعلم ما عندك فيه، قال له الرضا (عليه السلام): أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أنّ الله تعالی بعث نبيّه محمّداً (صلى الله عليه وآله)، فخرج علينا من وراء أكمة ١ من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك كنت مزوّجه إيّاها؟ فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال له الرضا (عليه السلام): أ فتراه كان يحلّ له أن يخطب إليّ؟ فسكت المأمون هنيئة، ثمّ قال: أنتم _ والله _ أمسّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحماً.
المصدر الأصلي: عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، المحاسن
/
المصدر من بحار الأنوار: ج٤٩
، ص١٨٨
(١) «الأَكَمَة»: جمعه: «الآكام»، وهي تلّ صغير. راجع: مجمع البحرين، ج٦، ص٨.