- جواهر البحار
- » تتمة كتاب الصلاة
- » أحاديث في الاستخارة بالرقاع
سئل القائم (عليه السلام) عن الرجل تعرض له حاجة ممّا لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ خاتمين فيكتب في أحدهما: نعم أفعل، وفي الآخر: لا تفعل، فيستخير الله مراراً ثمّ يرى فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا؟ والعامل به والتارك له هو مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك؟ فأجاب (عليه السلام): الذي سنّه العالم (عليه السلام) في هذه الاستخارة بالرقاع والصلاة.
ذكر شيخنا المفيد (رحمه الله) في الرسالة العزّية ما هذا لفظه: باب صلاة الاستخارة: وإذا عرض للعبد المؤمن أمران فيما يخطر بباله من مصالحه في أمر دنياه كسفره وإقامته ومعيشته في صنوف يعرض له الفكر فيها، أو عند نكاح وتركه وابتياع أمة أو عبد ونحو ذلك، فمن السنّة أن لا يهجم على أحد الأمرين، وليتوقّ حتّى يستخير الله عزّ وجلّ، فإذا استخاره عزم على ما خطر بباله على الأقوى في نفسه، فإن ساوت ظنونه فيه توكّل على الله تعالى وفعل ما يتّفق له منه، فإنّ الله عزّ وجلّ يقضي له بالخير
إن شاء الله تعالى.
ولا ينبغي للإنسان أن يستخير الله في فعل شيء نهاه عنه، ولا حاجة به في استخارة لأداء فرض، وإنّما الاستخارة في المباح وترك نفل إلى نفل لا يمكنه الجمع بينهما كالجهاد والحجّ تطوعاً، أو السفر لزيارة مشهد دون مشهد، أو صلة أخ مؤمن وصلة غيره بمثل ما يريد صلة الآخر به، ونحو ذلك.
وللاستخارة صلاة موظّفة مسنونة، وهي ركعتان يقرأ الإنسان في إحداهما فاتحة الكتاب وسورة معها، ويقرأ في الثانية الفاتحة وسورة معها، ويقنت في الثانية قبل الركوع، فإذا تشهّد وسلّم حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: اللّهمّ، إنّي أستخيرك بعلمك وقدرتك، وأستخيرك بعزّتك، وأسألك من فضلك، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب. اللّهمّ، إن كان هذا الأمر الذي عرض لي خيراً في ديني ودنياي وآخرتي فيسّره لي، وبارك لي فيه، وأعنّي عليه، وإن كان شرّاً لي فاصرفه عنّي، واقض لي الخير حيث كان ورضّني به حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت. وإن شاء قال: اللّهمّ، خر لي في ما عرض لي من أمر كذا وكذا، واقض لي بالخيرة فيما وفّقتني له منه برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال الصادق (عليه السلام): إذا أردت أمراً فخذ ستّ رقاع، فاكتب في ثلاث منها: «بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة: افعل»، وفي ثلاث منها: «بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة: لا تفعل»، ثمّ ضعها تحت مصلّاك ثمّ صلّ ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل مائة مرّة: «أستخير الله برحمته خيرة في عافية»، ثمّ استو جالساً وقل: «اللّهمّ خر لي واختر لي في جميع أموري في يسر منك وعافية»، ثمّ اضرب بيدك إلى الرقاع فشوّشها وأخرج واحدة واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات افعل، فافعل الأمر الذي تريده، وإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل، فلا تفعله، وإن خرجت واحدة افعل والأخرى لا تفعل، فاخرج من الرقاع إلى خمس، فانظر أكثرها فاعمل به، ودع السادسة لا يحتاج إليها.
هذا أشهر طرق هذه الاستخارة وأوثقها وعليه عمل أصحابنا، وليس فيه ذكر الغسل، وذكره بعض الأصحاب لوروده في سائر أنواع الاستخارة ولا بأس به، وأيضاً ليس فيه تعيين سورة في الصلاة، وذكر بعضهم سورتي الحشر والرحمن لورودهما في الاستخارة المطلقة، فلو قرأهما أو الإخلاص في كلّ ركعة ...
ثمّ إنّه لا يظهر مع كثرة إحداهما تفاوت في مرّات الحسن وضدّه، وبعض الأصحاب جعلوا لهما مراتب بسرعة خروج افعل أو لا تفعل، أو توالي أحدهما بأن يكون الخروج في الأربع أولى في الفعل والترك من الخروج في الخمس، أو يكون خروج مرّتين افعل ثمّ لا تفعل ثمّ افعل أحسن من الابتداء بلا تفعل ثمّ افعل ثلاثاً، وكذا العكس إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تظهر بالمقايسة بما ذكر وليس ببعيد. (ص٢٣١)
قال السيّد ابن طاوس (رحمه الله): وممّا وجدت من عجائب الاستخارات أنّني أذكر أنّني وصلت الحلّة في بعض الأوقات التي كنت مقيماً بدار السلام، فأشار بعض الأقوام بلقاء بعض أبناء الدنيا من ولاة البلاد الحلّية، فأقمت بالحلّة لشغل كان لي شهراً فكنت كلّ يوم أستصلحه للقائه أستخير الله جلّ جلاله أوّل النهار وآخره في لقائه في ذلك الوقت، فتأتي الاستخارة «لا تفعل»، فتكمّلت نحو خمسين استخارة في مدّة إقامتي كلّها «لا تفعل»، فهل يبقى مع هذا عندي ريب؟ لو كنت لا أعلم حال الاستخارة أنّ هذا صادر عن الله جلّ جلاله العالم بمصلحتي، هذا مع ما ظهر بذلك من سعادتي، وهل يقبل العقل أن يستخير الإنسان خمسين استخارة تطلع كلّها اتّفاقاً «لا تفعل»؟
وممّا وجدت من عجائب الاستخارات أنّني قد بلغت من العمر نحو ثلاث وخمسين سنة، ولم أزل أستخير مذ عرفت حقيقة الاستخارات وما وقع أبداً فيها خلل ولا ما أكره، ولا ما يخالف السعادات والعنايات، فأنا فيها كما قال بعضهم:
قلت للعاذل لمّا جاءني
من طريق النصح يبدي ويعيد
أيّها الناصح لي في زعمه
لا ترد نصحاً لمن ليس يريد
فالذي أنت له مستقبح
ما على استحسانه عندي مزيد
وإذا نحن تباينّا كذا
فاستماع العذل شيء لا يفيد
قال عبد الرحمن بن سیابة: خرجت إلى مكّة ومعي متاع كثير فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلى اليمن، وبعض أصحابنا: ابعث به إلى مصر، فذكرت ذلك للصادق (عليه السلام) فقال لي: ساهم بين مصر واليمن، ثمّ فوّض أمرك إلى الله، فأيّ البلدين خرج اسمه في السهم ابعث إليه متاعك، فقلت: كيف أساهم؟ قال (عليه السلام): اكتب في رقعة: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنّه لا إله إلّا أنت عالم الغيب والشهادة، أنت العالم وأنا المتعلّم، فانظر في أيّ الأمرين خير لي، حتّى أتوكّل عليك فيه فأعمل به».
ثمّ اكتب: «مصراً إن شاء الله»، ثمّ اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثمّ اكتب: «اليمن إن شاء الله»، ثمّ اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثمّ اكتب: «يحبس إن شاء الله ولا يبعث به إلى بلدة منهما»، ثمّ اجمع الرقاع فادفعها إلى من يسترها عنك، ثمّ ادخل يدك، فخذ رقعة من الثلاث رقاع، فأيّها وقعت في يدك فتوكّل على الله، فاعمل بما فيها إن شاء الله تعالى،
هذا عمل معتبر وسنده لا يقصر عن العمل المشهور في الرقاع، فإنّ ابن سيابة عندي من الممدوحين الذين اعتمد الأصحاب على أخبارهم، ويمكن تأييده بأخبار القرعة، فإنّه ورد أنّها لكلّ أمر مشكل، وورد أنّه ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج لهم الحقّ، ولا سيّما إذا اختلفت الآراء في الأمر الذي يقرعون فيه.