قال سعد بن أبي الخصیب ١ : دخلت أنا وابن أبي لیلی ٢ المدینة، فبينا نحن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ دخل الصادق (عليه السلام) فقمنا إليه، فسألني عن نفسي وأهلي، ثمّ قال (عليه السلام): من هذا معك؟ فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال (عليه السلام): نعم، ثمّ قال (عليه السلام) له: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتفرّق بين المرء وزوجه، ولا تخاف في هذا أحداً؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): فبأيّ شيء تقضي؟ قال: بما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن أبي بكر وعمر، قال (عليه السلام): فبلغك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أقضاكم عليّ (عليه السلام)؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): فكيف تقضي بغير قضاء عليّ (عليه السلام) وقد بلغك هذا؟ فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى.
(٢) محمّد بن عبد الرحمن ابن أبي لیلی (م١٤٨هـ): فقیه كوفي، من أصحاب الرأي، ولّي القضاء بالكوفة في الدولة الأمویة والعبّاسیة طیلة ثلاث وثلاثین سنة. راجع: الأعلام، ج٦، ص١٨٩.
قال الصادق (عليه السلام): إذا فشت أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكّام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمّة نصر المشركون على المسلمين.
قال الصادق (عليه السلام): القضاة أربعة: قاضٍ قضى بالحقّ وهو لا يعلم أنّه حقّ، فهو في النار، وقاضٍ قضى بالباطل وهو لا يعلم أنّه باطل، فهو في النار، وقاضٍ قضى بالباطل وهو يعلم أنّه باطل، فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحقّ وهو يعلم أنّه حقّ، فهو في الجنّة.
قال الصادق (عليه السلام): من كانت بينه وبين أخيه منازعة، فدعاه إلى رجل من أصحابه يحكم بينهما، فأبى إلّا أن يرفعه إلى السلطان، فهو كمن حاكم إلى الجبت والطاغوت، وقد قال الله: ﴿يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ إلى قوله: ﴿بَعيداً﴾.
قال عليّ (عليه السلام) _ في صفة من يتصدّى للحكم بين الأمّة، وليس لذلك بأهل _: إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان:
رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشعوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته.
ورجل قمش ١ جهلا موضع في جهّال الأمّة، غارّ في أغباش ٢ الفتنة، عمٍ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجن ٣ ، واكتنز من غير طائل.
جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهلٌ خبّاط جهالاتٍ، عاشٍ ركّاب عشواتٍ، لم يعضّ على العلم بضرسٍ قاطعٍ، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليء _ والله _ بإصدار ما ورد عليه.
لا يحسب العلم في شيءٍ ممّا أنكره، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ منه المواريث إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهّالاً، ويموتون ضلّالاً، ليس فيهم سلعة أبور من كتاب الله إذا تلي حقّ تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً منه إذا حرّف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر.
(٢) «الأغباش»: جمع «الغَبَشُ» وهو شدّة الظلمة. لسان العرب، ج٦، ص٣٢٢.
(٣)«الآجِن»: الماء المتغيّر الطعم واللون. لسان العرب، ج١٣، ص٨.
قال عليّ (عليه السلام) _ فيما كتب إلى قثم بن العبّاس _: واجلس لهم العصرين فأفت للمستفتي، وعلّم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلّا لسانك، ولا حاجب إلّا وجهك، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت ١ عن أبوابك في أوّل وردها، لم تجد فيما بعد على قضائها.
قال عليّ (عليه السلام) لعبد الله بن العبّاس عند استخلافه إيّاه على البصرة: سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإيّاك والغضب، فإنّه طيرة من الشيطان.