- جواهر البحار
- » كتاب أعمال السنين والشهور
- » أحاديث في أدعية ليالي القدر والإحياء
قال الصادق (عليه السلام): ليلة القدر في كلّ سنة، ويومها مثل ليلتها.
قال السيّد ابن الطاوس (رحمه الله): يا أيّها المقبل بإقبال الله جلّ جلاله عليه، حيث استدعاه إلى الحضور بين يديه، وارتضاه أن يخدمه ويختصّ به، ويكون ممّن يعزّ عليه.
لو عرفت ما في مطاوي هذه العنايات من السعادات، ما كنت تستكثر لله جلّ جلاله شيئاً من العبادات، فتمّم رحمك الله جلّ جلاله وظائف هذه الليلة من غير تثاقل ولا تكاسل ولا إعجاب.
فأنت ذلك المخلوق من التراب، الذي شرّفك مولاك ربّ الأرباب، وخلّصك من ذلك الأصل الذميم، وأتحفك بهذا التكريم والتعظيم، واخدمه واعرف له قدر المنّة عليك، ولا يخطر بقلبك إلّا أنّ هذه العبادة من أعظم إحسانه إليك، وأنت تعبده لأنّه أهل _ والله _ للعبادة، فإنّك مستعظم لنفسك، كيف بلغ بك إلى هذه السعادة.
واعلم أنّك إن عبدته لأجل طلب أجرة على عبادتك، كنت في مخاطرتك كرجل كان عليه لبعض الغرماء الأقوياء الأغنياء ديون لا يقوم لها حكم العدد والإحصاء، فاجتاز هذا الذي عليه الديون الكثيرة مع غريمه صاحب الحقوق الكثيرة على سوق فيه حلاوة، فاقتضى إنعام الغريم أنّه اشترى لهذا الذي عليه الدين العظيم طبقاً من تلك الحلاوة العظيمة اللذّات، وكلّفه حملها إلى دار الغريم، ليأكلها الذي عليه الديون وحده على أبلغ الشهوات.
فلمّا أكلها الذي عليه الديون الكثيرة، وفرغ من أكلها، قال للغريم: إنّ هذه الحلاوة قد حملتها معك، فأعطني رغيفاً أجرة حملها، فقال له الغريم: إنّما حملتها على سبيل المنّة عليك، ولتصل هذه الحلاوة إليك، وما كنت محتاجاً أنا إليها، ولي ديون كثيرة عليك ما طالبتك بها، فكيف اقتضى عقلك أن تطلب رغيفاً أجرة حمل حلاوة ما كلّفتك وزن ثمن لها؟ فهل يسترضي أحد من ذوي العقول السليمة ما فعله الذي عليه الديون من طلب تلك الأجرة الذميمة؟
فكذا حال العبد مع الله جلّ جلاله، فإنّ القوّة التي عمل بها الطاعات من مولاه، والعقل والنقل الذي عمل به العبادات من ربّه مالك دنياه وأخراه، والعمل الذي كلّفه إيّاه إنّما يحصل نفعه للعبد على اليقين، والله جلّ جلاله مستغنٍ عن عبادة العالمين، ولله جلّ جلاله على عباده من النعم بإنشائه وإبقائه وإرفاده وإسعاده ما لا يحصيها الإنسان، ولو بالغ في اجتهاده فلا يقتضي العقل والنقل أن يعبد لأجل طلب الثواب، بل يعبد الله جلّ جلاله لأنّه أهل للعبادة، وله المنّة عليك، كيف رفعك عن مقام التراب والدوابّ وجعلك أهلاً للخطاب والجواب، ووعدك بدوام نعيم دار الثواب.
واعلم أنّ من مكاسب إحدى هذه الليالي المشار إليها، لمن عبد الله جلّ جلاله على ما ذكرناه من النيّة التي نبّهنا عليها، ما روّيناه بإسنادنا إلى ابن فضّال، بإسناده إلى عبد الله بن سنان، قال: سألته عن النصف من شعبان، فقال (عليه السلام): ما عندي فيه شيء، ولكن إذا كان ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسّم فيه الأرزاق، وكتب فيها الآجال، وخرج فيها صكاك الحاجّ، واطّلع الله تعالى عزّ وجلّ إلى عباده، فيغفر لمن يشاء إلّا شارب مسكر، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين ﴿فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ﴾، ثمّ ينتهى ذلك ويقضى، قلت: إلى من؟ قال (عليه السلام): إلى صاحبكم ولولا ذلك لم يعلم.
قال الصادق (عليه السلام): الليلة التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم، ينزل فيها ما يكون في السنة إلى مثلها من خير أو شرّ، ورزق أو أمر، أو موت أو حياة، ويكتب فيها وفد مكّة، فمن كان في تلك السنة مكتوباً، لم يستطع أن يحبس وإن كان فقيراً مريضاً، ومن لم يكن فيها مكتوباً، لم يستطع أن يحجّ وإن كان غنيّاً صحيحاً.
قال السيّد ابن طاوس (رحمه الله): فهل يحسن من مصدّق بالإسلام، وبما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته(عليهم السلام) أنّ ليلة واحدة من ثلاث ليال أن يكون فيها تدبير السنة كلّها، وإطلاق العطايا، ودفع البلايا، وتدبير الأمور؟ وهي أشرف ليلة في السنة عند القادر على نفع كلّ سرور، ودفع كلّ محذور، فلا يكون نشيطاً لها، ولا مهتمّاً بها، فهل تجد العقل قاضياً أنّ سلطاناً يختار ليلته من سنة للإطلاق والعتاق والمواهب ونجاح المطالب، ويأذن إذناً عامّاً في الطلب منه لكلّ حاضر وغائب، فيتخلّف أحد من ذلك المجلس العامّ، وعن تلك الليلة المختصّة بذلك الأنعام التي ما يعود مثلها إلى بعد عام، مع أنّ الذين دعاهم إلى سؤاله محتاجون مضطرّون إلى ما بذله لهم من نواله وإقباله وإفضاله؟ ماذا تقول لو أنّك بعد الفراغ من هذه المائة ركعة أو مائة وعشرين، سمعت أن قد حضر ببابك رسول من بعض ملوك الآدميين، قد عرض عليك مائة دينار، أو شيئاً ممّا تحتاج إليها من المسارّ، ودفع الأخطار، فكيف كان نشاطك وسرورك بالرسول وبالإقبال والقبول؟ ويزول النوم والكسل بالكلية الذي كنت تجده في معاملة مولاك مالك الجلالة المعظّمة الإلهية، الذي قد بذل لك السعادة الدنيوية والأخروية، لقد افتضح ابن آدم المسكين بتهوينه بمالك الأوّلين والآخرين.
قال السيّد ابن طاوس (رحمه الله): قد مضى في كتابنا هذا وغيره أنّ ليلة النصف من شعبان يكتب الآجال ويقسّم الأرزاق، ويكتب أعمال السنة، ويحتمل أن يكون في ليلة نصف شعبان، تكون البشارة بأنّ في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان يكتب الآجال، ويقسّم الأرزاق، فتكون ليلة نصف شعبان ليلة البشارة بالوعد، وليلة تسع عشرة من شهر رمضان وقت إنجاز ذلك الوعد، أو يكون في تلك الليلة يكتب آجال قوم، ويقسّم أرزاق قوم، وفي هذه ليلة تسع عشرة يكتب آجال الجميع، وأرزاقهم، أو غير ذلك ممّا لم نذكره.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): من صلّى ركعتين في ليلة القدر، فيقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ سبع مرّات، فإذا فرغ يستغفر سبعين مرّة، فما دام لا يقوم من مقامه حتّى يغفر الله له ولأبويه، وبعث الله ملائكة يكتبون له الحسنات إلى سنة أخرى، وبعث الله ملائكة إلى الجنان يغرسون له الأشجار، ويبنون له القصور، ويجرون له الأنهار، ولا يخرج من الدنيا حتّى يرى ذلك كلّه.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): من أحيا ليلة القدر، حوّل عنه العذاب إلى السنة القابلة.
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): قال موسى: إلهي، أريد قربك، قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر، قال: إلهي، أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال: إلهي، أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق بصدقة في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد من أشجار الجنّة وثمارها، قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد النجاة من النار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر، قال: إلهي، أريد رضاك، قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر.
قال السيّد ابن طاوس (رحمه الله): واعلم أنّ الرواية وردت من عدة جهات عن الصادقين(عليهم السلام)، عن الله جلّ جلاله: أنّ يوم ليلة القدر مثل ليلته، فإيّاك، أن تهوّن بنهار تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وتتّكل على ما عملته في ليلتها، وتستكثره لمولاك، وأنت غافل عن عظيم نعمته، وحقوق ربوبيته، وكن في هذه الأيّام الثلاثة المعظّمات على أبلغ الغايات، في العبادات والدعوات، واغتنام الحياة قبل الممات.
سئل الصادق (عليه السلام): كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال (عليه السلام): العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر.
واعلم أنّ كمال الاعتكاف هو إيقاف العقول والقلوب والجوارح على مجرّد العمل الصالح، وحبسها على باب الله جلّ جلاله، ومقدّس إرادته وتقييدها بقيود مراقباته، وصيانتها عمّا يصون الصائم كمال صونه عنه، ويزيد على احتياط الصائم في صومه، زيادة معنى المراد من الاعتكاف، والتلزّم بإقباله على الله، وترك الإعراض عنه، فمتى أطلق المعتكف خاطراً لغير الله في طرق أنوار عقله وقلبه، أو استعمل جارحة في غير الطاعة لربّه، فإنّه يكون قد أفسد من حقيقة كمال الاعتكاف، بقدر ما غفل أو هوّن به من كمال الأوصاف. (ص١٥٠)
قال الرضا (عليه السلام): عمرة في شهر رمضان تعدل حجّة، واعتكاف ليلة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند قبره يعدل حجّة وعمرة، ومن زار الحسين (عليه السلام) يعتكف عند العشر الغوابر من شهر رمضان، فكأنّما اعتكف عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن اعتكف عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ذلك أفضل له من حجّة وعمرة بعد حجّة الإسلام، قال الرضا (عليه السلام): وليحرص من زار الحسين (عليه السلام) في شهر رمضان ألّا يفوته ليلة الجهنيّ عنده، وهي ليلة ثلاث وعشرين، فإنّها الليلة المرجوّة، قال (عليه السلام): وأدنى الاعتكاف ساعة بين العشاءين، فمن اعتكفها فقد أدرك حظّه _ أو قال (عليه السلام): نصيبه من ليلة القدر _.
قال الصادق (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغتسل في شهر رمضان في العشر الأواخر في كلّ ليلة.
قال حمّاد بن عثمان: دخلت على الصادق (عليه السلام) ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فقال (عليه السلام) لي: يا حماد، اغتسلت؟ قلت: نعم، جعلت فداك، فدعا بحصير، ثمّ قال (عليه السلام): إلى لزقي فصلّ، فلم يزل يصلّي وأنا أصلّي إلى لزقه حتّى فرغنا من جميع صلاتنا، ثمّ أخذ يدعو وأنا أؤمّن على دعائه إلى أن اعترض الفجر، فأذّن وأقام ودعا بعض غلمانه فقمنا خلفه، فتقدّم وصلّى بنا الغداة، فقرأ بفاتحة الكتاب، و﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ في الأولى، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾. فلمّا فرغنا من التسبيح والتحميد والتقديس والثناء على الله تعالى، والصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات الأوّلين والآخرين، خرّ ساجداً لا أسمع منه إلّا النفس ساعة طويلة …
فلمّا فرغ رفع رأسه، قلت: جعلت فداك، سمعتك وأنت تدعو: «بفرج من بفرجه فرج أصفياء الله وأوليائه» أ ولست أنت هو؟ قال (عليه السلام): لا، ذاك قائم آل محمّد(عليهم السلام)، قلت: فهل لخروجه علامة؟ قال (عليه السلام): نعم … وتوقّع أمر صاحبك ليلك ونهارك، فإنّ الله ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ﴾، لا يشغله شأنٌ عن شأن، ذلك الله ربّ العالمين، وبه تحصين أوليائه وهم له خائفون.
قال الباقر (عليه السلام): إنّ الجهني أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، إنّ لي إبلاً وغنماً وغلمة، فأحبّ أن تأمرني ليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة، وذلك في شهر رمضان، فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسارّه في أذنه.
فكان الجهني إذا كانت ليلة ثلاث وعشرين، دخل بإبله وغنمه وأهله وولده وغلمته، فكان تلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين بالمدينة، فإذا أصبح خرج بأهله وغنمه وإبله إلى مكانه.
كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يرشّ على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين _ يعني من شهر رمضان _.
قال برید بن معاویة: رأيت الصادق (عليه السلام) اغتسل في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، مرّة في أوّل الليل، ومرّة في آخره.
ومن دعاء ليلة ثلاث وعشرين: اللّهمّ امدد لي في عمري، وأوسع لي في رزقي، وأصحّ جسمي، وبلّغني أملي، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء، واكتبني من السعداء، فإنّك قلت في كتابك المنزل على نبيّك صلواتك عليه وآله: ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾.
ومن الدعاء في هذه الليلة: «اللّهــمّ إيّاك تعمّدت الليلة بحاجتي، وبك أنزلت فقري ومسألتي، تسعني الليلة رحمتك وعفوك، فأنا لرحمتك أرجى منّي لعملي، ورحمتك ومغفرتك أوسع من ذنوبي، واقض لي كلّ حاجة هي لي بقدرتك على ذلك، وتيسيره عليك، فإنّي لم أصب خيراً إلّا منك، ولم يصرف عنّي أحد سوءاً قطّ غيرك، وليس لي رجاء لديني ودنياي، ولا لآخرتي، ولا ليوم فقري يوم أدلى في حفرتي، ويفردني الناس بعملي، غيرك يا ربّ العالمين».
ومن دعاء ليلة ثلاث وعشرين: «اللّهمّ اجعلني من أوفر عبادك نصيباً من كلّ خير أنزلته في هذه الليلة، أو أنت منزله من نور تهدي به، أو رحمة تنشرها، أو رزق تقسمه، أو بلاء تدفعه، أو ضرّ تكشفه، واكتب لي ما كتبت لأوليائك الصالحين، الذين استوجبوا منك الثواب، وأمنوا برضاك عنهم منك العقاب، يا كريم، يا كريم، صلّ على محمّد وآل محمّد، وافعل بي ذلك برحمتك يا أرحم الراحمين».
قال الصادق (عليه السلام): لو قرأ رجل ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ألف مرّة، لأصبح وهو شديد اليقين بالاعتراف بما يختصّ فينا، وما ذاك إلّا لشيء عاينه في نومه.
قال الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى ﴿فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ﴾: هي ليلة القدر، يقضى فيه أمر السنة من حجّ وعمرة، أو رزق أو أمر، أو أجل أو سفر، أو نكاح أو ولد، إلى سائر ما يلاقي ابن آدم ممّا يكتب له أو عليه في بقيّة ذلك الحول من تلك الليلة إلى مثلها من عام قابل، وهي في العشر الأواخر من شهر رمضان، فمن أدركها _ أو قال شهدها _ عند قبر الحسين (عليه السلام) يصلّي عنده ركعتين أو ما تيسّر له، وسأل الله الجنّة، واستعاذ به من النار، آتاه الله ما سأل، وأعاذه ممّا استعاذ منه، وكذلك إن سأل الله تعالى أن يؤتيه من خير ما فرق، وقضى في تلك الليلة، وأن يقيه من شرّ ما كتب فيها، أو دعا الله وسأله تبارك وتعالى في أمر لا إثم فيه، رجوت أن يؤتى سؤله، ويوقى محاذيره، ويشفع في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد استوجبوا العذاب، والله إلى سائله وعبده بالخير أسرع.
قال الجواد (عليه السلام): من زار الحسين (عليه السلام) ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وهي الليلة التي يرجى أن تكون ليلة القدر،﴿فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ﴾، صافحه روح أربعة وعشرين ألف ملك ونبيّ، كلّهم يستأذن الله في زيارة الحسين (عليه السلام) في تلك الليلة.
قال السيّد ابن طاوس (رحمه الله): كنت في ليلة جليلة من شهر رمضان بعد تصنيف هذا الكتاب زماناً، وإنّي أدعو في السحر لمن يجب أو يحسن تقديم الدعاء له، ولي ولمن يليق بالتوفيق أن أدعو له، فورد على خاطري أنّ الجاحدين لله جلّ جلاله ولنعمته، والمستخفّين بحرمته، والمبدّلين لحكمه في عباده وخليقته، ينبغي أن يبدأ بالدعاء لهم بالهداية من ضلالتهم، فإنّ جنايتهم على الربوبية، والحكمة الإلهية، والجلالة النبوية، أشدّ من جناية العارفين بالله وبالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقتضي تعظيم الله، وتعظيم جلاله، وتعظيم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحقوق هدايته بمقاله وفعاله، أن يقدّم الدعاء بهداية من هو أعظم ضرراً، وأشدّ خطراً حيث تعذّر أن يزال ذلك بالجهاد، ومنعهم من الإلحاد والفساد. فدعوت لكلّ ضالّ عن الله بالهداية إليه، ولكلّ ضالّ عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجوع إليه، ولكلّ ضالّ عن الحقّ بالاعتراف به والاعتماد عليه.
ثمّ دعوت لأهل التوفيق والتحقيق بالثبوت على توفيقهم، والزيادة في تحقيقهم، ودعوت لنفسي ومن يعنيني أمره بحسب ما رجوته من الترتيب الذي يكون أقرب إلى من أتضرّع إليه وإلى مراد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قدّمت مهمّات الحاجات بحسب ما رجوته أقرب إلى الإجابة، أ فلا ترى ما تضمّنه مقدّس القرآن من شفاعة إبراهيم (عليه السلام) في أهل الكفران؟ فقال الله جلّ جلاله: ﴿يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۞ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾، فمدحه جلّ جلاله على حلمه وشفاعته ومجادلته في قوم لوط، الذين قد بلغ كفرهم إلى تعجيل نقمته، أ ما رأيت ما تضمّنته أخبار صاحب الرسالة، وهو قدوة أهل الجلالة، كيف كان كلّما آذاه قومه الكفار، وبالغوا فيما يفعلون، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهمّ اغفر لقومي فانّهم لا يعلمون»، أ ما رأيت الحديث عن عيسى (عليه السلام): كن كالشمس، تطلع على البرّ والفاجر، وقول نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم): اصنع الخير إلى أهله وإلى غير أهله، فإن لم يكن أهله فكن أنت أهله، وقد تضمّن ترجيح مقام المحسنين إلى المسيئين، قوله جلّ جلاله: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ﴾، ويكفي أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث رحمة للعالمين.
قال الباقر (عليه السلام): من أحيا ليلة القدر غفرت له ذنوبه، ولو كانت ذنوبه عدد نجوم السماء، ومثاقيل الجبال، ومكائيل البحار.
قال الباقر (عليه السلام): من أحيا ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، وصلّى فيه مائة ركعة، وسّع الله عليه معيشته في الدنيا، وكفاه أمر من يعاديه، وأعاذه من الغرق والهدم والسرق، ومن شرّ السباع، ودفع عنه هول منكر ونكير، وخرج من قبره نور يتلألأ لأهل الجمع، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، وجواز على الصراط، وأمان من العذاب، ويدخل الجنّة بغير حساب، ويجعل فيها من رفقاء ﴿النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفيقاً﴾.
دعاء اليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان: سبحان الذي ﴿وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ۞ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحِمْدِهِ وَالْمَلَئكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ﴾، و﴿يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، وينزل الماء من السماء بكلماته، وينبت النبات بقدرته، ويسقط الورق بأمره، سبحان الله بارئ النسم، سبحان الله المصوّر، سبحان الله خالق الأزواج كلّها، سبحان الله جاعل الظلمات والنور، سبحان الله فالق الحبّ والنوى، سبحان الله خالق كلّ شيء، سبحان الله خالق ما يرى وما لا يرى، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله ربّ العالمين _ ثلاثاً _.