قال الصادق عليه السلام: لمّا توفّي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا محمّد، اخرج من مكّة، فليس لك بها ناصر؛ وثارت قريش بالنبيّ صلى الله عليه وآله، فخرج هارباً حتّى جاء إلى جبل بمكّة يقال له الحجون، فصار إليه.
من معجزاته صلى الله عليه وآله أنّ قريشاً كلّهم اجتمعوا وأخرجوا بني هاشم إلى شعب أبي طالب، ومكثوا فيه ثلاث سنين إلّا شهراً، ثمّ أنفق أبو طالب وخديجة جميع مالهما، ولا يقدرون على الطعام إلّا من موسم إلى موسم، فلقوا من الجوع والعرى ما الله أعلم به، وإنّ الله قد بعث على صحيفتهم الأرضة، فأكلت كلّ ما فيها إلّا اسم الله.
فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي طالب، فما راع قريشاً إلّا وبني هاشم عنق واحد قد خرجوا من الشعب، فقالوا: الجوع أخرجهم؛ فجاءوا حتّى أتوا الحجر وجلسوا فيه، وكان لا يقعد فيه صبيان قريش، فقالوا: يا أبا طالب، قد آن لك أن تصالح قومك، قال: قد جئتكم مخبراً، ابعثوا إلى صحيفتكم، لعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها؛ فبعثوا إليها وهي عند أمّ أبي جهل، وكانت قبل في الكعبة، فخافوا عليها السرّاق، فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها، فقال أبو طالب: هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا: لا، قال: إنّ ابن أخي حدّثني _ ولم يكذبني قطّ _ أنّ الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة، فأكلت كلّ قطيعة وإثم، وتركت كلّ اسم هو لله، فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم، فقتلتموه.
فصاح الناس: أنصفتنا يا أبا طالب، ففتحت ثمّ أخرجت فإذا هي مشربة كما قال، فكـبّر المسلمون وامتقعت ١ وجوه المشركين، فقال أبو طالب: أتبيّن لكم أيّنا أولى بالسحر والكهانة؟ فأسلم يومئذٍ عالم من الناس، ثمّ رجع أبو طالب إلى شعبه، ثمّ عيّرهم هشام بن عمرو العامري بما صنعوا ببني هاشم.
روى الزهري في قوله تعالی ﴿وَلَقَد مَكَّنَّاهُم﴾ لمّا توفّي أبو طالب لم يجد النبيّ صلى الله عليه وآله ناصراً، ونثروا على رأسه التراب، قال صلى الله عليه وآله: ما نال منّي قريش شيئاً حتّى مات أبو طالب. وكان يستتر من الرمي بالحجر الذي عند باب البيت من يسار من يدخل، وهو ذراع وشبر في ذراع إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمران، وقالوا: لو كان محمّد نبيّاً لشغلته النبوّة عن النساء، ولأمكنه جميع الآيات، ولأمكنه منع الموت عن أقاربه.
ولمّا مات أبو طالب وخديجة فنزل: ﴿وَلَقَد أَرسَلنَا رُسُلاً مِن قَبلِكَ﴾.
وفي سنة عشر من نبوّته صلى الله عليه وآله توفّي أبو طالب. قال ابن عبّاس: عارض رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة أبي طالب، فقال: وصلتك رحم، وجزاك الله خيراً يا عمّ، وفي هذه السنة توفّيت خديجة بعد أبي طالب بأيّام. ولمّا مرضت مرضها الذي توفّيت فيه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال لها: بالكره منّي ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً، أ ما علمت أنّ الله قد زوّجني معك في الجنّة: مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون؟ قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله: نعم، قالت: بالرفاء ١ والبنين.
وتوفّيت خديجة وهي بنت خمس وستّين، ودفنت بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله قبرها ولم يكن يومئذٍ سنّة الجنازة والصلاة عليها.
لمّا توفّي أبو طالب وخديجة وكان بينهما شهر وخمسة أيّام اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وآله مصيبتان، فلزم بيته وأقلّ الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع.
لمّا توفّي أبو طالب تناولت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليالٍ بقين من شوّال سنة عشر من النبوّة، فأقام بها عشرة أيّام، وقيل: شهراً، فآذوه ورموه بالحجارة، فانصرف إلى مكّة، فلمّا نزل نخلة صرف الله إليه النفر من الجنّ، وروي أنّه لمّا انصرف من الطائف عمد إلى ظلّ حبلة ١ من عنب، فجلس فيه وقال: «اللّهمّ، إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لكن لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك».
ولمّا دخل مكّة كان يقف بالموسم على القبائل، فيقول: يا بني فلان، إنّي رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وكان خلفه أبو لهب فيقول: لا تطيعوه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله، فأبوا، وأتى كلباً في منازلهم، فلم يقبلوا منه، وأتى بني حنيفة في منازلهم فردّوا عليه أقبح ردّ.
إنّ أبا طالب توفّي في آخر السنة العاشرة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله، ثمّ توفّيت خديجة _ رضي الله عنها _ بعد أبي طالب بثلاثة أيّام، فسمّى رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك العام «عام الحزن»، فقال صلى الله عليه وآله: ما زالت قريش قاعدة عنّي حتّى مات أبو طالب.
كان النبيّ صلى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقي رهطاً من الخزرج، فقال: أ لا تجلسون أحدّثكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا إليه، فدعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون _ والله _ إنّه النبيّ الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا يسبقنّكم إليه أحد، فأجابوه وقالوا له: إنّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ مثل ما بينهم، وعسى أن يجمع الله بينهم بك، فستقدم عليهم وتدعوهم إلى أمرك وكانوا ستّة نفر.
قال: فلمّا قدموا المدينة فأخبروا قومهم بالخبر، فما دار حول إلّا وفيها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا النبيّ صلى الله عليه وآله، فبايعوه على بيعة النساء ألّا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا إلى آخرها، ثمّ انصرفوا، وبعث معهم مصعب بن عمير يصلّي بهم، وكان بينهم بالمدينة يسمّى المقرئ، فلم يبق دار في المدينة إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون إلّا دار أميّة وحطيمة ووائل وهم من الأوس، ثمّ عاد مصعب إلى مكّة.
وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم مع حجّاج قومهم، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان في أيّام التشريق بالليل، فقال صلى الله عليه وآله: أبايعكم على الإسلام، فقال له بعضهم: نريد أن تعرّفنا _ يا رسول الله _ ما لله علينا، وما لك علينا، وما لنا على الله؟ فقال صلى الله عليه وآله: أمّا ما لله عليكم فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأمّا ما لي عليكم فتنصرونني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عضّ السيف وإن يقتل خياركم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك ما لنا على الله؟ قال صلى الله عليه وآله: أمّا في الدنيا فالظهور على من عاداكم، وفي الآخرة رضوانه والجنّة.
فأخذ البراء بن معرور بيده، ثمّ قال: والذي بعثك بالحقّ، لنمنعك بما نمنع به أزرنا ١ ، فبايعنا يا رسول الله، فنحن _ والله _ أهل الحروب، وأهل الحلفة، ورثناها كباراً عن كبار. فقال أبو الهيثم: إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنّا إن قطعناها أو قطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وآله، ثمّ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، ثمّ قال صلى الله عليه وآله: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً، فاختاروا، ثمّ قال صلى الله عليه وآله: أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم، وعلى أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك.
فصرخ الشيطان في العقبة: يا أهل الجباجب ٢ ، هل لكم في محمّد والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم. ثمّ نفر الناس من منى، وفشا الخبر فخرجوا في الطلب فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأمّا المنذر فأعجز القوم، وأمّا سعد فأخذوه وربطوه بنسع ٣ رحله، وأدخلوه مكّة يضربونه، فبلغ خبره إلى جبير بن مطعم والحارث بن حرب بن أميّة فأتياه وخلّصاه، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله لم يؤمر إلّا بالدعاء والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فطالت قريش على المسلمين، فلمّا كثر عتوّهم أمر بالهجرة.
(٢) «الجُباجِب»: جمع «جُبجُب»، وهو المستوى من الأرض ليس بحزن. وهى هاهنا أسماء منازل بمنى، سمّيت به. النهاية في غريب الحديث والأثر، ج١، ص٢٣٤.
(٣) «النِسع»: سَير يُضفر على هيئة أعنّة النعال، تشدّ به الرحال. لسان العرب، ج٨، ص٣٥٢.