قال كافور الخادم: كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنائع صنوف من الناس _ وكان الموضع كالقرية _ كان يونس النقّاش يغشى سيّدنا الإمام الهادي (عليه السلام) ويخدمه، فجاءه يوماً يرعد، فقال: يا سيّدي، أوصيك بأهلي خيراً، قال (عليه السلام): وما الخبر؟ قال: عزمت على الرحيل، قال (عليه السلام) _ وهو متبسّم _: ولم يا يونس؟ قال: موسى بن بغا وجّه إليّ بفصّ ليس له قيمة، أقبلت أن أنقّشه فكسرته باثنين وموعده غداً، وهو موسى بن بغا إمّا ألف سوط أو القتل، قال (عليه السلام): امض إلى منزلك إلى غد فما يكون إلّا خيراً.
فلمّا كان من الغد وافى بكرة يرعد، فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفصّ، قال (عليه السلام): امض إليه، فما ترى إلّا خيراً، قال: وما أقول يا سيّدي؟ فتبسّم وقال (عليه السلام): امض إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلّا خيراً، فمضى وعاد يضحك. قال: قال لي: يا سيّدي، الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله فصّين حتّى نغنيك؟ فقال سيّدنا الإمام الهادي (عليه السلام): اللّهمّ، لك الحمد، إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقّاً، فأيش قلت له؟ قال: قلت له: أمهلني حتّى أتأمّل أمره كيف أعمله؟ فقال (عليه السلام): أصبت.
قال كافور الخادم: قال لي الهادي (عليه السلام): اترك لي السطل الفلاني في الموضع الفلاني لأتطهّر منه للصلاة، وأنفذني في حاجة، وقال: إذا عدت فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهبّت للصلاة، واستلقى (عليه السلام) لينام، وأنسيت ما قال لي _ وكانت ليلة باردة _
فحسست به وقد قام إلى الصلاة، وذكرت أنّني لم أترك السطل، فبعدت عن الموضع خوفاً من لومه، وتألّمت له حيث يشقى بطلب الإناء.
فناداني نداء مغضب، فقلت: إنّا لله، أيش عذري أن أقول نسيت مثل هذا، ولم أجد بدّاً من إجابته؟ فجئت مرعوباً فقال: يا ويلك، أ ما عرفت رسمي أنّني لا أتطهّر إلّا بماء بارد، فسخنت لي ماء فتركته في السطل؟ فقلت: والله، يا سيّدي، ما تركت السطل ولا الماء، قال (عليه السلام): الحمد لله، والله، لا تركنا رخصة ولا رددنا منحة، الحمد الله الذي جعلنا من أهل طاعته، ووفّقنا للعون على عبادته، إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ الله يغضب على من لا يقبل رخصه.
قال المنصوري عن عمّ أبيه: قصدت الإمام الهادي (عليه السلام) يوماً فقلت: يا سيّدي، إنّ هذا الرجل قد أطرحني، وقطع رزقي وملّلني، وما أتّهم في ذلك إلّا علمه بملازمتي لك، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته، فقال (عليه السلام): تكفى إن شاء الله.
فلمّا كان في الليل طرقني رسل المتوكّل، رسول يتلو رسولاً، فجئت والفتح على الباب قائم، فقال: يا رجل، ما تأوي في منزلك بالليل؟ كدّني هذا الرجل ممّا يطلبك، فدخلت وإذا المتوكّل جالس على فراشه، فقال: يا أبا موسى، نشغل عنك وتنسينا نفسك أيّ شيء لك عندي؟ فقلت: الصلة الفلانية والرزق الفلاني، وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها فقلت للفتح: وافى عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) إلى ههنا؟ فقال: لا، فقلت: كتب رقعة؟ فقال: لا. فولّيت منصرفاً، فتبعني، فقال لي: لست أشكّ أنّك سألته دعاء لك، فالتمس لي منه دعاء.
فلمّا دخلت إليه، فقال (عليه السلام) لي: يا أبا موسى، هذا وجه الرضا، فقلت: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه ولا سألته، فقال (عليه السلام): إنّ الله تعالی علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلّا إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلّا عليه، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.
قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت. قال (عليه السلام): إنّه يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به، إذا أخلصت في طاعة الله، واعترفت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحقّنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك، قلت: يا سيّدي، فتعلّمني دعاء أختصّ به من الأدعية، قال (عليه السلام): هذا الدعاء كثيراً أدعو الله به، وقد سألت الله أن لا يخيّب من دعا به في مشهدي بعدي وهو: « يا عدّتي عند العدد، ويا رجائي والمعتمد، ويا كهفي والسند، ويا واحد، يا أحد، يا قل هو الله أحد، وأسألك اللّهمّ بحقّ من خلقته من خلقك، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً، أن تصلّي عليهم وتفعل بي كيت وكيت».
قال أبو هاشم الجعفري: أصابتني ضيقة شديدة، فصرت إلى الهادي (عليه السلام) فأذن لي، فلمّا جلست قال (عليه السلام): يا أبا هاشم، أيّ نعم الله عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت ١ فلم أدر ما أقول له فابتدأ (عليه السلام) فقال: رزقك الإيمان فحرّم بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل. يا أبا هاشم، إنّما ابتدأتك بهذا لأنّي ظننت أنّك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار، فخذها.
قال عليّ بن مهزيار: أرسلت إلى الهادي (عليه السلام) غلامي _ وكان سقلابياً _ فرجع الغلام إليّ متعجباً، فقلت: ما لك؟ يا بنيّ، قال: كيف لا أتعجّب؟ ما زال يكلّمني بالسقلابية كأنّه واحد منّا، فظننت أنّه إنّما دار بينهم.
قال صالح بن سعيد: دخلت على الهادي (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتّى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك، فقال (عليه السلام): ههنا أنت؟ يا بن سعيد، ثمّ أومأ بيده فقال (عليه السلام): انظر، فنظرت، فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهنّ خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللؤلؤ المكنون، وأطيار، وظباء، وأنهار تفور، فحار بصري والتمع، وحسرت عيني، فقال: حيث كنّا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك.
لمّا قصر علم السائل وفهمه عن إدراك اللذّات الروحانية ودرجاتهم المعنوية، وتوهّم أنّ هذه الأمور ممّا يحطّ من منزلتهم، ولم يعلم أنّ تلك الأحوال ممّا يضاعف منازلهم ودرجاتهم الحقيقية، ولذّاتهم الروحانية، وأنّهم اجتووا لذّات الدنيا ونعيمها، وكان نظره مقصوراً على اللذّات الدنيّة الفانية، فلذا أراه (عليه السلام) ذلك لأنّه كان مبلغه من العلم وأمّا كيفية رؤيته لها فهي محجوبة عنّا والخوض فيها لا يهمّنا، لكن خطر لنا بقدر فهمنا وجوه:
الأوّل: أنّه تعالی أوجد في هذا الوقت لإظهار إعجازه (عليه السلام) هذه الأشياء في الهواء، ليراه فيعلم أنّ عروض تلك الأحوال لهم لتسليمهم ورضاهم بقضاء الله تعالی، وإلّا فهم قادرون على إحداث هذه الغرائب، وأنّ إمامتهم الواقعية وقدرتهم العليّة، ونفاذ حكمهم في العالم الأدنى والأعلى، وخلافتهم الكبرى، لم تنقص بما يرى فيهم من الذلّة والمغلوبية والمقهورية.
الثاني: أنّ تلك الأشكال أوجدها الله سبحانه في حسّه المشترك، إيذاناً بأنّ اللذّات الدنيوية عندهم بمثل تلك الخيالات الوهمية، كما يرى النائم في طيفه ما يلتذّ به كالتذاذه في اليقظة، ولذا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».
الثالث: أنّه (عليه السلام) أراه صور اللذّات الروحانية التي معهم دائماً بما يوافق فهمه، فإنّه كان في منام طويل وغفلة عظيمة عن درجات العارفين ولذّاتهم، كما يرى النائم العلم بصورة الماء الصافي أو اللبن اليقق والمال بصورة الحيّة وأمثالها وهذا قريب من السابق وهذا على مذاق الحكماء والمتألّهين.
الرابع: ما حقّقته في بعض المواضع، وملخّصه أنّ النشآت مختلفة والحواسّ في إدراكها متفاوتة، كما أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرى جبرئيل (عليه السلام) وسائر الملائكة والصحابة لم يكونوا يرونهم، وأمير المؤمنين (عليه السلام) كان يرى الأرواح في وادي السلام وحبّة وغيره لا يرونهم، فيمكن أن يكون جميع هذه الأمور في جميع الأوقات حاضرة عندهم ويرونها ويلتذّون بها، لكن لمّا كانت أجساماً لطيفةً روحانيةً ملكوتيةً لم يكن سائر الخلق يرونها، فقوّى الله بصر السائل بإعجازه (عليه السلام) حتّى رآها، فعلى هذا لا يبعد أن يكون في وادي السلام جنّات، وأنهار، ورياض، وحياض، تتمتّع بها أرواح المؤمنين بأجسادهم المثالية اللطيفة، ونحن لا نراها. وبهذا الوجه تنحلّ كثير من الشبه عن المعجزات، وأخبار البرزخ والمعاد، وهذا قريب من عالم المثال الذي أثبته الإشراقيون من الحكماء والصوفية، لكن بينهما فرقاً بيّناً.
هذه هي التي خطرت ببالي، وأرجو من الله أن يسدّدني في مقالي وفعالي. (ص١٣٥)
قال محمّد بن الحسن بن الأشتر العلوي: كنت مع أبي بباب المتوكّل _ وأنا صبيّ _ في جمع الناس ما بين طالبيّ إلى عباسيّ إلى جنديّ إلى غير ذلك، وكان إذا جاء الهادي (عليه السلام) ترجّل الناس كلّهم حتّى يدخل، فقال بعضهم لبعض: لم نترجّل لهذا الغلام؟ وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: والله، لا ترجّلنا له.
فقال لهم أبو هاشم الجعفري: والله، لترجّلنّ له صغاراً وذلّة إذا رأيتموه، فما هو إلّا أن أقبل وبصروا به فترجّل له الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: أ ليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا: والله، ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا.
روي أنّ أبا هاشم الجعفري كان منقطعاً إلى الهادي (عليه السلام) بعد أبيه الجواد (عليه السلام) وجدّه الرضا (عليه السلام) فشكا إلى الهادي (عليه السلام) ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدر من عنده إلى بغداد، ثمّ قال: يا سيّدي، ادع الله لي فربما لم أستطع ركوب الماء، فسرت إليك على الظهر ومالي مركوب سوى برذوني هذا على ضعفه، فادع الله أن يقوّيني على زيارتك، فقال (عليه السلام): قوّاك الله يا أبا هاشم، وقوّى برذونك.
قال الراوي: وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد، ويسير على ذلك البرذون فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سرّ من رأى، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون، فكان هذا من أعجب الدلائل التي شوهدت.
قال أبو هاشم الجعفري: خرجت مع الهادي (عليه السلام) إلى ظاهر سرّ من رأى يتلقّى بعض القادمين، فأبطأوا فطرح للهادي (عليه السلام) غاشية السرج فجلس عليها، ونزلت عن دابّتي وجلست بين يديه وهو يحدّثني، فشكوت إليه قصر يدي وضيق حالي، فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالساً، فناولني منه كفّاً وقال (عليه السلام): اتّسع بهذا يا أبا هاشم، واكتم ما رأيت، فخبّأته معي ورجعنا فأبصرته فإذا هو يتّقد كالنيران ذهباً أحمر، فدعوت صائغاً إلى منزلي وقلت له: اسبك لي هذه السبيكة، فسبكها وقال لي: ما رأيت ذهباً أجود من هذا، وهو كهيئة الرمل فمن أين لك هذا؟ فما رأيت أعجب منه؟ قلت: كان عندي قديماً.
وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند إلى المتوكّل يلعب بلعب الحقّ لم ير مثله، وكان المتوكّل لعّاباً فأراد أن يخجل الهادي (عليه السلام) فقال لذلك الرجل: إن أنت أخجلته أعطيتك ألف دينار زكيّة. قال: تقدّم بأن يخبز رقاق خفاف، واجعلها على المائدة، وأقعدني إلى جنبه، ففعل وأحضر الهادي (عليه السلام) _ وكانت له مسورة ١ عن يساره، كان عليها صورة أسد _ وجلس اللاعب إلى جانب المسورة فمدّ عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) يده إلى رقاقة فطيّرها ذلك الرجل، ومدّ يده إلى أخرى فطيّرها فتضاحك الناس.
فضرب عليّ بن محمّد الهادي (عليه السلام) يده على تلك الصورة التي في المسورة، وقال: خذه، فوثبت تلك الصورة من المسورة فابتلعت الرجل، وعادت في المسورة كما كانت، فتحيّر الجميع ونهض الهادي (عليه السلام) فقال له المتوكّل: سألتك إلّا جلست ورددته، فقال (عليه السلام): والله، لا ترى بعدها، أ تسلّط أعداء الله على أولياء الله؟ وخرج من عنده فلم ير الرجل بعد ذلك.
قال زرارة حاجب المتوكّل ١ : أراد المتوكّل أن يمشي الهادي (عليه السلام) يوم السلام، فقال له وزيره: إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل، قال: لا بدّ من هذا، قال: فإن لم يكن بدّ من هذا فتقدّم بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم، حتّى لا يظنّ الناس أنّك قصدته بهذا دون غيره، ففعل ومشى (عليه السلام) _ وكان الصيف _ فوافى الدهليز وقد عرق. فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت: ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك، فلا تجد عليه في قلبك، فقال (عليه السلام): إيهاً عنك ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٍ﴾.
قال زرارة: وكان عندي معلّم يتشيّع وكنت كثيراً أمازحه بالرافضي، انصرفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت: تعال يا رافضي، حتّى أحدّثك بشيء سمعته اليوم من إمامكم، قال لي: وما سمعت؟ فأخبرته بما قال، فقال: أقول لك فاقبل نصيحتي، قلت: هاتها، قال: إن كان الهادي (عليه السلام) قال بما قلت فاحترز واخزن كلّ ما تملكه، فإنّ المتوكّل يموت أو يقتل بعد ثلاثة أيّام، فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي فخرج.
فلمّا خلوت بنفسي، تفكّرت وقلت: ما يضرّني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك. فركبت إلى دار المتوكّل، فأخرجت كلّ ما كان لي فيها، وفرّقت كلّ ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلّا حصيراً أقعد عليه، فلمّا كانت الليلة الرابعة قتل المتوكّل، وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك فصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعو لي، وتواليته حقّ الولاية.
روى أبو هاشم الجعفري أنّه كان للمتوكّل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، قد جعل فيها الطيور التي تصوّت، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس، فلا يسمع ما يقال له ولا يسمع ما يقول لاختلاف أصوات تلك الطيور، فإذا وافاه الهادي (عليه السلام) سكتت الطيور، فلا يسمع منها صوت واحد إلى أن يخرج، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها وكان عنده عدّة من القوابج في الحيطان، فكان يجلس في مجلس له عالٍ، ويرسل تلك القوابج تقتتل، وهو ينظر إليها ويضحك منها، فإذا وافى الهادي (عليه السلام) ذلك المجلس لصقت القوابج بالحيطان، فلا تتحرّك من مواضعها حتّى ينصرف، فإذا انصرف عادت في القتال.
كتب رجل إلى الهادي (عليه السلام): أنّ الرجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه، فكتب (عليه السلام): إن كان لك حاجة فحرّك شفتيك، فإنّ الجواب يأتيك.
قال أبو محمّد الطبري: تمنّيت أن يكون لي خاتم من عنده (عليه السلام) فجاءني نصر الخادم بدرهمين، فصغت خاتماً، فدخلت على قوم يشربون الخمر، فتعلّقوا بي حتّى شربت قدحاً أو قدحين، فكان الخاتم ضيّقاً في أصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء، فأصبحت وقد افتقدته، فتبت إلى الله.
روي أنّ المتوكّل أو الواثق أو غيرهما أمر العسكر _ وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسرّ من رأى _ أن يملأ كلّ واحد مخلاة فرسه من الطين الأحمر، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط تربة واسعة هناك، ففعلوا.
فلمّا صار مثل جبل عظيم واسمه تلّ المخالي، صعد فوقه، واستدعى الهادي (عليه السلام) واستصعده، وقال: استحضرتك لنظارة خيولي _ وقد كان أمرهم أن يلبسوا التجافيف، ويحملوا الأسلحة، وقد عرضوا بأحسن زينة، وأتمّ عدّة، وأعظم هيبة _ وكان غرضه أن يكسر قلب كلّ من يخرج عليه، وكان خوفه من الهادي (عليه السلام) أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة.
فقال له الهادي (عليه السلام): وهل أعرض عليك عسكري؟ قال: نعم. فدعا الله سبحانه فإذا بين السماء والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدجّجون، فغشي على الخليفة، فلمّا أفاق قال الهادي (عليه السلام): نحن لا نناقشكم في الدنيا، نحن مشتغلون بأمر الآخرة، فلا عليك شيء ممّا تظنّ.
روى أبو محمّد البصري عن أبي العبّاس _ خال شبل كاتب إبراهيم بن محمّد _ قال: كنّا أجرينا ذكر الهادي (عليه السلام) فقال لي: يا أبا محمّد،لم أكن في شيء من هذا الأمر، وكنت أعيب على أخي وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذمّ والشتم، إلى أن كنت في الوفد الذين أوفد المتوكّل إلى المدينة في إحضار الهادي (عليه السلام) فخرجنا إلى المدينة. فلمّا خرج وصرنا في بعض الطريق وطوينا المنزل _ وكان منزلاً صائفاً شديد الحرّ _ فسألناه أن ينزل فقال: لا، فخرجنا ولم نطعم ولم نشرب.
فلمّا اشتدّ الحرّ والجوع والعطش فبينما ونحن إذ ذلك في أرض ملساء ١ لا نرى شيئاً ولا ظلّ ولا ماء نستريح، فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه، قال (عليه السلام): وما لكم أحسبكم جياعاً وقد عطشتم؟ فقلنا: إي والله، يا سيّدنا، قد عيينا، قال (عليه السلام): عرّسوا وكلوا واشربوا، فتعجّبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً نستريح إليه، ولا نرى ماء ولا ظلاًّ، فقال: ما لكم عرّسوا؟ فابتدرت إلى القطار لأنيخ، ثمّ التفتّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين تستظلّ تحتهما عالم من الناس، وإنّي لأعرف موضعهما أنّه أرض براح قفراء، وإذا بعين تسيح على وجه الأرض أعذب ماء وأبرده.
فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا، وإنّ فينا من سلك ذلك الطريق مراراً، فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، وجعلت أحدّ النظر إليه وأتأمّله طويلاً وإذا نظرت إليه تبسّم وزوى وجهه عنّي فقلت في نفسي: والله، لأعرفنّ هذا كيف هو؟ فأتيت من وراء الشجرة، فدفنت سيفي، ووضعت عليه حجرين، وتغوّطت في ذلك الموضع، وتهيّأت للصلاة.
فقال الهادي (عليه السلام): استرحتم؟ قلنا: نعم، قال (عليه السلام): فارتحلوا على اسم الله، فارتحلنا، فلمّا أن سرنا ساعة رجعت على الأثر، فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعت والعلامة، وكأنّ الله لم يخلق ثمّ شجرة ولا ماء ولا ظلالاً ولا بللاً فتعجّبت من ذلك، ورفعت يدي إلى السماء فسألت الله الثبات على المحبّة والإيمان به والمعرفة منه، وأخذت الأثر فلحقت القوم.
فالتفت إليّ الهادي (عليه السلام) وقال: يا أبا العبّاس، فعلتها؟ قلت: نعم، يا سيّدي، لقد كنت شاكّاً وأصبحت أنا عند نفسي من أغنى الناس في الدنيا والآخرة، فقال (عليه السلام): هو كذلك، هم معدودن معلومون لا يزيد رجل ولا ينقص.
قال المتوكّل لابن السكّيت: سل الهادي (عليه السلام) مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله فقال: لم بعث الله موسى (عليه السلام) بالعصا، وبعث عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والسيف؟ فقال الهادي (عليه السلام): بعث الله موسى (عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم، وأثبت الحجّة عليهم، وبعث عيسى (عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطبّ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، فقهرهم وبهرهم، وبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم، وبهر سيفهم وأثبت الحجّة به عليهم. فقال ابن السكّيت: فما الحجّة الآن؟ قال (عليه السلام): العقل، يعرف به الكاذب على الله فيكذّب.
أتى الهادي (عليه السلام) رجل خائف وهو يرتعد ويقول: إنّ ابني أخذ بمحبّتكم والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته، قال (عليه السلام): فما تريد؟ قال: ما يريد الأبوان، فقال (عليه السلام): لا بأس عليه، اذهب، فإنّ ابنك يأتيك غداً.
فلمّا أصبح أتاه ابنه قال: يا بنيّ، ما شأنك؟ قال: لمّا حفروا القبر وشدّو لي الأيدي أتاني عشرة أنفس مطهّرة معطّرة، وسألوا عن بكائي، فذكرت لهم، فقالوا: لو جعل الطالب مطلوباً، تجرّد نفسك وتخرج وتلزم تربة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: نعم، فأخذوا الحاجب فرموه من شاهق الجبل، ولم يسمع أحد جزعه ولا رأوا الرجال، وأوردوني إليك وهم ينتظرون خروجي إليهم، وودّع أباه وذهب فجاء أبوه إلى الإمام وأخبره بحاله، فكان الغوغاء تذهب وتقول: وقع كذا وكذا والإمام (عليه السلام) يتبسّم ويقول: إنّهم لا يعلمون ما نعلم.
قال الهادي (عليه السلام): اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، وإنّما كان عند آصف منه حرف واحد، فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتّى صيّره إلى سليمان، ثمّ بسطت له الأرض في أقلّ من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله عزّ وجلّ استأثر به في علم الغيب.
كان ليحيى بن زكريّا حمل، فكتب إلى الهادي (عليه السلام): أنّ لي حملاً، فادع الله أن يرزقني ابناً، فكتب (عليه السلام) إليه: «ربّ ابنة خير من ابن»، فولدت له ابنة.
قال فتح بن يزيد الجرجاني: ضمّني والهادي (عليه السلام) الطريق منصرفي من مكّة إلى خراسان، وهو صائر إلى العراق فسمعته وهو يقول: من اتّقى الله يتّقى، ومن أطاع الله يطاع، فتلطّفت في الوصول إليه، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، وأمرني بالجلوس وأوّل ما ابتدأني به أن قال: يا فتح، من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق، وإنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الخالق الذي يعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به. جلّ عمّا يصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال كيف، وأيّن الأين فلا يقال أين، إذ هو منقطع الكيفيّة والأينيّة هو الواحد الصمد، ﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ۞ وَلَمۡ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدُۢ﴾، فجلّ جلاله.
بل كيف يوصف بكنهه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قرنه الجليل باسمه، وشركه في عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته، إذ يقول: ﴿وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِ﴾، وقال _ يحكي قول من ترك طاعته، وهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها _: ﴿يَٰالَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠﴾؟
أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: ﴿أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم﴾، وقال: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلى أَهلِها﴾، وقال: ﴿فَاسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾؟
يا فتح، كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله، والرسول، والخليل، وولد البتول، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا، فنبيّنا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيّنا أكرم الأوصياء، واسمهما أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأحلاها، لو لم يجالسنا إلّا كفو لم يجالسنا أحد، ولو لم يزوّجنا إلّا كفو لم يزوّجنا أحد.
أشدّ الناس تواضعاً أعظمهم حلماً وأنداهم كفّاً وأمنعهم كنفاً ورث عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردد إليهما الأمر وسلّم إليهم، أماتك الله مماتهم وأحياك حياتهم إذا شئت رحمك الله.
قال فتح: فخرجت فلمّا كان الغد تلطّفت في الوصول إليه، فسلّمت عليه فردّ السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أ تأذن في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي؟ قال (عليه السلام): سل، وإن شرحتها فلي وإن أمسكتها فلي، فصحّح نظرك، وتثبّت في مسألتك، واصغ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعنّيت، واعتن بما تعتني به، فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، منهيّان عن الغشّ، وأمّا الذي اختلج في صدرك، فإن شاء العالم أنبأك، إنّ الله لم ﴿يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَداً ۞ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ﴾، فكلّ ما كان عند الرسول كان عند العالم، وكلّ ما اطّلع عليه الرسول فقد اطّلع أوصياءه عليه، كيلا تخلو أرضه من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته، وجواز عدالته.
يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك، وشكّك في بعض ما أنبأتك، حتّى أراد إزالتك عن طريق الله، وصراطه المستقيم، فقلت: متى أيقنت أنّهم كذا فهم أرباب. معاذ الله، إنّهم مخلوقون مربوبون، مطيعون لله داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت له: جعلت فداك، فرّجت عنّي، وكشفت ما لبس الملعون عليّ بشرحك، فقد كان أوقع في خلدي أنّكم أرباب، فسجد الهادي (عليه السلام) وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً خاضعاً فلم يزل كذلك حتّى ذهب ليلي.
ثمّ قال (عليه السلام): يا فتح، كدت أن تهلك وتهلك، وما ضرّ عيسى (عليه السلام) إذا هلك من هلك، انصرف إذا شئت رحمك الله، فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عنّي من اللبس بأنّهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه. فلمّا كان في المنزل الآخر، دخلت عليه وهو متّكئ، وبين يديه حنطة مقلوّة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفة، والإمام غير ذي آفة.
فقال (عليه السلام): اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق، وكلّ جسم مغذوّ بهذا إلّا الخالق الرازق، لأنّه جسّم الأجسام، وهو لم يجسّم، ولم يجزّأ بتناهٍ، ولم يتزايد، ولم يتناقص، مبرّأ من ذاته ما ركّب في ذات من جسّمه، الواحد الأحد الصمد الذي ﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ ۞ وَلَمۡ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدُۢ﴾، منشئ الأشياء، مجسّم الأجسام، وهو السميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم، تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً. لو كان كما يوصف لم يعرف الربّ من المربوب، ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، لكنّه فرّق بينه وبين من جسّمه، وشيّأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئاً.
قال أبو الحسين سعيد بن سهل البصري _ وكان يلقّب بالملّاح _:
كان يقول بالوقف جعفر بن القاسم الهاشمي البصري، وكنت معه بسرّ من رأى، إذ رآه الهادي (عليه السلام) في بعض الطرق، فقال (عليه السلام) له: إلى كم هذه النومة؟ أ ما آن لك أن تنتبه منها؟ فقال لي جعفر: سمعت ما قال لي الهادي (عليه السلام)؟ قد _ والله _ قدح في قلبي شيئاً.
فلمّا كان بعد أيّام حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة فدعانا فيها، ودعا الهادي (عليه السلام) معنا، فدخلنا فلمّا رأوه أنصتوا إجلالاً له، وجعل شابّ في المجلس لا يوقّره، وجعل يلغط ويضحك، فأقبل عليه وقال له: يا هذا، تضحك ملء فيك وتذهل عن ذكر الله، وأنت بعد ثلاثة من أهل القبور؟ فقلنا هذا دليل حتّى ننظر ما يكون. فأمسك الفتى وكفّ عمّا هو عليه، وطعمنا وخرجنا، فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى، ومات في اليوم الثالث من أوّل النهار، ودفن في آخره.
قال سعید بن سهل: اجتمعنا أيضاً في وليمة لبعض أهل سرّ من رأى والهادي (عليه السلام) معنا، فجعل رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة، فأقبل على جعفر ١ ، فقال: أما، إنّه لا يأكل من هذا الطعام، وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه، فقدّمت المائدة، قال جعفر: ليس بعد هذا خبر قد بطل قوله، فوالله، لقد غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام، فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي، وقال له: الحق أمّك، فقد وقعت من فوق البيت، وهي بالموت، قال جعفر: فقلت: والله، لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه.
كان عليّ بن جعفر وكيلاً للهادي (عليه السلام) وكان رجلاً من أهل همينيا _ قرية من قرى سواد بغداد _ فسعي به إلى المتوكّل فحبسه، فطال حبسه واحتال من قبل عبد الرحمن بن خاقان ١ بمال ضمنه عنه ثلاثة ألف دينار، وكلّمه عبيد الله، فعرض حاله على المتوكّل، فقال: يا عبيد الله، لو شككت فيك لقلت: إنّك رافضي، هذا وكيل فلان، وأنا على قتله.
فتأدّى الخبر إلى عليّ بن جعفر، فكتب إلى الهادي (عليه السلام): يا سيّدي، الله الله فيّ، فقد _ والله _ خفت أن أرتاب، فوقّع (عليه السلام) في رقعته: «أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أرى، فسأقصد الله فيك» وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكّل محموماً، فازدادت عليه حتّى صرخ عليه يوم الاثنين، فأمر بتخلية كلّ محبوس عرض عليه اسمه حتّى ذكر هو عليّ بن جعفر، وقال لعبيد الله: لم لم تعرض عليّ أمره؟ فقال: لا أعود إلى ذكره أبداً، قال: خلّ سبيله الساعة، وسله أن يجعلني في حلّ. فخلّى سبيله، وصار إلى مكّة بأمر الهادي (عليه السلام) مجاوراّ بها، وبرأ المتوكّل من علّته.
قال هاشم بن زيد: رأيت الهادي (عليه السلام) صاحب العسكر وقد أتي بأكمه فأبرأه، ورأيته تهيّئ من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه فيطير. فقلت له: لا فرق بينك وبين عيسى (عليه السلام) فقال (عليه السلام): أنا منه وهو منّي.
كان الهادي (عليه السلام) حاجّاً، ولمّا كان في انصرافه إلى المدينة، وجد رجلاً خراسانياً واقفاً على حمار له ميّت يبكي ويقول: على ماذا أحمل رحلي؟ فاجتاز به، فقيل له: هذا الرجل الخراساني ممّن يتولّاكم أهل البيت، فدنا من الحمار الميّت فقال (عليه السلام): لم تكن بقرة بني إسرائيل بأكرم على الله تعالی منّي، وقد ضرب ببعضها الميّت فعاش، ثمّ وكزه برجله اليمنى وقال (عليه السلام): قم بإذن الله، فتحرّك الحمار ثمّ قام ووضع الخراساني رحله عليه، وأتى به المدينة، وكلّما مرّ (عليه السلام) أشاروا عليه بأصبعهم، وقالوا: هذا الذي أحيا حمار الخراساني.