الاختلاف بين سورتي الفلق والناس
إن الله تعالى قرَن بين سورتين لدعوة العباد إلى الالتجاء إليه ، فإن الإنسان لا يخلو ممّا يخيفه طوال مسيرته في الحياة ، وقد تميّزت سورة الفلق بذكر الآفات المحسوسة من : الليل ، والحاسد ، والساحر . . وأما هذه السورة فقد تميّزت بذكر الآفات غير المحسوسة من : الوسوسة في الصدور ـ سواء كانت من الإنس أو الجن ـ ولا يتم التحصين من مجموع الشرور إلا بالتخلص من آفات الجوارح والجوانح معا .
الاستعاذة القلبية لا اللفظية
إن البعض يكتفي بالاستعاذة اللفظية قبل قراءة القرآن عملا بقوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[١] لأن تكالب الشياطين تشتد عند عمل الخير ، ولكن هذا العمل اللفظي لا يغنيه عن الاستعاذة الحقيقية ؛ فإن المأمور به في ﴿قُلْ أَعُوذُ﴾ ليس مجرد التلفظ بل لا بُد من الإحساس (القلبي) بالالتجاء أولا ، ثم العمل (الخارجي) بما تستلزمه الاستعاذة كترك التعرّب بعد الهجرة عند الاستعاذة من فساد الدين مثلاً ، بل (عدم العمل) بما هو خلاف الاستعاذة ، وذلك كمن يستعيذ بالله تعالى من السباع الضارية وأمامه قلعة حصينة لا يدخل فيها!
صفات المستعاذ به
إن المُستعاذ في هذه السورة مذكور من جهات مختلفة ، فمن جهة كانت الاستعاذة :
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وهذا سبب مستقل لأن يكون الله تعالى ملجأ لكل مستعيذ ؛ فهو الرب المدبّر الذي بيده تصريف شؤون العباد .
وتارة بـ ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ وهذا سبب مستقل آخر ؛ فهو الملك النافذ سلطانه على العباد ، والقاهر لهم بما يريد وعلى ما يريد وكيف يريد .
واُخرى بـ ﴿إِلهِ النَّاسِ﴾ وهذا سبب مستقل آخر ؛ فهو المعبود الذي يُرجع إليه في كل الأمور ، والمصمود إليه في قضاء جميع الحوائج .
ومن مجموع ما ذُكر ، فإنه يتعيّن على العبد أن يستعيذ بمن جمع بين جميع هذه الأسباب .
قدرة المستعاذ به
إن الجمع بين خصائص الربوبية والألوهية والملكية، مما نطق به القرآن الكريم.
في آيات كثيرة ، فمما يشير إلى جهة الربوبية والألوهية قوله تعالى ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾[٢] ومما يشير إلى جهة المُلكية قوله تعالى ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وإلى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾[٣] وهناك ما يشير إلى الجهات الثلاث في آية واحدة ، وهو قوله تعالى ﴿ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾[٤] حيث تمت الإشارة إلى جهة الربوبية ، والملكية ، والألوهية .
وحينئذ نقول : إن مَن يعتقد باستجماع مَن يستعيذ به لهذه الجهات الثلاث ، كيف يبقى عنده خوف عند مواجهة شرور هذه الحياة؟!
الشرور الخارجية والداخلية
إن الآيات الثلاث الأولى فيها تدرّج عند الإشارة إلى المُستعاذ به وهو الله تعالى ، وذلك بذِكر الرب ، ثم الملك ، ثم الإله ، ويمكن أن نفهم أن ما فيها من المعاني هو الذي يوجب مثل هذا الترتب :
فمقام الربوبية أقرب إلى معايشة العبد ، وذلك لما يراه من آثار التدبير الربوبي في أدقّ جزئيات حياته .
ثم يليه إحساسه بالمُلكية المستوعبة لكل الوجود ، ومن المعلوم أن الالتفات لهذا المقام يختصّ بمن يعيش حقيقة أنه لا كافي له سواه ، مصداقا لقوله تعالى ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾[٥] .
ثم يليه الإحساس بمقام القرب المعنوي ، المتمثّل بعلاقة العبودية الخالصة بينه وبين الإله الذي لا معبود سواه .
وعليه ، فإن التدرّج فيها تدرج في مقامات الارتباط بالمبدأ وهو الذي يناسب التحصّن به من الشرور الأنفسية ، وأما في سورة الفلق فالتحصّن كان ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[٦] فحسب ، وهو المناسب للشرور الآفاقية التي هي اقل خطرا من سابقتها .
السر في تكرار “النّاس”
إن هذه السورة أمرت بالتحصّن بالله تعالى من خلال تجلياته الثلاثة ، أعني الربوبية والملكية والألوهية من دون عطف بأداة العطف ، مع تكرار كلمة ﴿النَّاسِ﴾ مع كل ذكر له تعالى ممّا يُفهم من المجموع : إن كل آية تفيد سببا من أسباب الاستعاذة به .
ومن الملاحظ أن البشر فيما بينهم يجعلون هذه الجهات أيضا من أسباب التجاء بعضهم إلى بعض ؛ فمَن وقع عليه ظلم يلجأ أولا إلى من يتولى شؤونه كالأب مثلا ، ثم إلى من بيده القوة والمنع كالحاكم مثلا ، وإذا يئس منهما توجّه إلى من هو وراء البشر من معبود يعبده!
الاستعاذة المتواصلة
إن شدة تأثير الوساوس البشرية والشيطانية على النفس الإنسانية تُفهم من خلال الأمر بالاستعاذات الثلاث على شر واحد ، خلافا لسورة الفلق التي فيها استعاذة واحدة على شرور أربعة ، وقد يكون السبب في ذلك :
أن الوسوسة كيد خفي لا يشعر به الإنسان ؛ فإنه من عالم الإلقاء في النفوس ﴿فِي صُدُورِ﴾ .
أنها تأتي من مصدرين مختلفين ﴿مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ﴾ .
أن الموسوس مستمر في وسوسته بمقتضى الفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُ﴾ .
أنه لا ييأس من المحاولة مرة بعد اُخرى فهو ﴿الْخَنَّاسِ﴾ .
ومن هنا لزمت الاستعاذة العظمى ، بربٍ عظيم لهذا الشر العظيم!
سلب إرادة الإنسان
إن تنقية البواطن من التأثير الشيطاني لمن سبل تنقية الجوارح ، فإن الإنسان في معرض التأثر بالإلقاءات التي تشتد إلى درجة تُسلب معها الإرادة ـ ما دام هناك موسوس في الصدور ـ فإن ما يدفع الإنسان باطنا ، قد يصل إلى مستوى ما يدفعه خارجا كاليد الدافعة .
ومن المعلوم : إنه كما أطلق الله تعالى يد موسوس الشر في النفوس ؛ فإنه يحفظ لنفسه الحق ـ بطريق أولى ـ لأن يُلهم أولياءه ما فيه الخير ، وهو الواقع كثيرا كما يذكره القرآن الكريم في موارد ، منها قوله تعالى ﴿إِذْ أَوْحَيْنا إلى أُمِّكَ ما يُوحى﴾[٧] ومنها ما وقع لأهل الكهف حيث قال تعالى ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهُمْ هُدى﴾[٨] .
وجه كون الأفعال مضارعة
إن تصوّر هيمنة الشيطان على القلب ، وأنه يحوم حوله ، وأنه يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق ، وأنه كلما ذُكر الله تعالى خنس كما تذكره هذه السورة ؛ كل هذه التصوّرات يجعل العبد حريصا على الذكر الدائم ، فإن دفع الوسوسة المستمرة بالفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُ﴾ لا يكون إلا بالاستعاذة المستمرة ﴿أَعُوذُ﴾ .
ومن هنا علينا أن نعلم أن الأصل في بني آدم هو أن يكون في معرض التقام الشياطين لقلبه ، ولا يخرج من ذلك إلا إذا تحقق له ما يوجب انصراف الشيطان عنه ، وخير ما يصوّر لنا هذه الحالة ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال : «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسي التقم قلبه ؛ فذلك الوسواس الخناس»[٩] .
الأنس الشيطاني
إذا جعلنا وصف ﴿الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ﴾ مشتركا بين ﴿الْجِنَّةِ والنَّاسِ﴾ ـ كما هو ظاهر الآية ـ فإنها تدل على قوة بعض البشر في التأثير الباطني على بني جنسه ؛ لأن تأثير الشياطين الخفية التي تعمل على القلوب أساسا لهو أمر متوقع ؛ ولكن سلطة البشر على الغير تنحصر بما لا يتعدى جوارحه عادة ، ومن هنا فإن نفوذ البعض إلى مملكة الجوانح يحتاج إلى قدرة شيطانية خاصة ؛ ومن هنا لزم الحذر منهم كالحذر من الشياطين! . . وليُعلم أن صفة ﴿الْخَنَّاسِ﴾ منطبقة عليهم أيضا ؛ فلا يرفعون أيديهم عن الغريم من أول مقاومة ، شأنهم في ذلك شأن الأبالسة في إصرارهم على الإيقاع بالضحية في الرذيلة .
مراحل الختم على القلب
إن اقتران التعبير بـ ﴿الْوَسْواسِ﴾ مع ﴿الْخَنَّاسِ﴾ يُفهم منه : إن هناك حالة من الكرّ والفرّ بين النفس وشياطين الجن والإنس ، ومن هنا جاء التعبير بما يُفهم منه الاختفاء بعد الظهور (الخنس) ولكن مع استمرار هذه المعركة وغلبة ﴿الْوَسْواسِ﴾ أخيرا ، فإن الأمر يتعدّى من الخنس إلى مرحلة الطبع على القلوب ﴿أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم﴾[١٠] والختم عليها ﴿خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة﴾[١١] وهي المرحلة التي عبّر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : «فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه»[١٢] .
الالتجاء إلى مقلب القلوب
ما دامت الوسوسة مرتبطة بعالم القلوب ، وليس لكل إنسان سيطرة على ما هو غائب عن عالم الحواس ، فإنه تتأكد الحاجة والاضطرار للالتجاء إلى من بيده مفاتيح القلوب ، إذ «إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن»[١٣] وهو الذي ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[١٤] وهو الذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[١٥] وقد جاءت هذه السورة في سياق دفع الإنسان إلى هذه الجهة ، والتي بيدها لا بيد غيرها جعْل المُستعيذ في درعه الحصينه .
وساوس الخواص
إن هناك فرقا بين الوسوسة المتوجهة إلى صدور عامة الناس ﴿صُدُورِ النَّاسِ﴾ والتي منها تنشأ الخواطر الباطلة ، ثم الميل إلى الحرام ، ثم استجابة الجوارح لها ، وبين الوسوسة التي تعرض على الخواص وهم الأنبياء (عليهم السلام) كما حصل لأبينا آدم (عليه السلام) ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾[١٦] وما يحصل للمتقين من عباده ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[١٧] فإنها وسوسة عابرة غير مستقرة في القلب ، ولا يُخشى على أصحابها منها من جهة الوقوع في الحرام .
تبادل الخبرات بين الشيطان والإنس
إن عطف الناس على الشياطين يدل على السنخية فيما بينهما ؛ فكما نجد رسولا باطنيا يتمثل بالعقل يعضد الرسول الخارجي ، فإن هناك ممثلا خارجيا من الناس للشيطان الباطني ، ممّا جعل القرآن الكريم يقرنهم في آية واحدة ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾[١٨] .
والملفت هنا : أن هناك قسماً من البشر يتعلم في سنوات قصيرة ما تعلمته الشياطين في سنوات طويلة ، بل يصل الأمر إلى درجة يتبادلون الإيحاء فيما بينهم لصد طريق الأنبياء (عليهم السلام) لقوله تعالى ﴿وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الْإِنْسِ والْجِنِّ يُوحي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا﴾[١٩] .
تحصين مركز الوجود الإنساني
إن المحصلة النهائية لهذه السورة الخاتمة للقران الكريم هي دعوة العبد لتحصين مركز القرار في وجوده ، ألا وهو القلب المعبَّر عنه بالصدر هنا ، لئلا يقع في أيدي الأعداء المتربصين وهم الموسوسون من شياطين الجن والإنس ، ومن المعلوم انه من دون تحصين هذه القلعة ـ التي فيها أمير البدن ـ فإن العبادات البدنية لا تجدي نفعا في دفع من يحوم حول هذا الحصن .
وخير ما يجسد لنا هذه الصورة من الحرب الدائرة بين النفس وأعدائها ، ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال «القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله»[٢٠] وهذه الجملة على قصرها تلخص نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى تنقية القلوب وتهذيبها .