Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
كـَلَّآۖ إِذَا دُكَّتِ ٱلۡأَرۡضُ دَكّٗا دَكّٗا ٢١ وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا ٢٢ وَجِاْيٓءَ يَوۡمَئِذِۭ بِجَهَنَّمَۚ يَوۡمَئِذٖ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ ٢٣ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦ يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠
  • تلاوة الآيات ٢١ إلى ٣٠

تفاهة مظاهر الدنيا

إن قوله تعالى ﴿كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ تجعل الإنسان لا يعبأ بما تراه عينه في الدنيا من مظاهر العظمة (الدنيوية) : كالعمارات الشاهقة ، أو مظاهر العظمة (الطبيعية) : كالجبال الراسية ، وذلك لما يراه بعين قلبه ما ستؤول إليه هذه الشواهق إلى قاع صفصف ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً * لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾[١] .
ومن الواضح أنه عندما تسوّى شواهق الأرض وتأتي المرحلة الاُخرى من ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ فإنه تتجلى هيبة الحضور الإلهي في ذلك الموقف المذهل ، وهنيئا لمَن كانت له علاقة الأنس مع صاحب هذه العظمة في دار الدنيا ، قبل أن يرى ما ستؤول إليه الشاهقات .

[١] . سورة طه : الآية ١٠٥-١٠٧ .

الردع بكلمة “كلّا”

إن كلمة ﴿كَلاَّ﴾ المتكررة في هذه السورة مرتين ـ  رغم أنها غير متعلقة بشيء ظاهرا ـ إلا أن لها معنى عميقا يتمثّل في الردع عن معنى سابق ، وذلك تهيئةً لمعنى لاحق :
ففي الأولى ﴿كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتيمَ﴾ وهي ردع عمّا هم عليه من الاعتقاد الباطل من أن (الإنعام) علامة الإكرام و(تضييق الرزق) علامة الإهانة ، ليكون هذا مقدمة للدعوة إلى اعتقاد بديل من أن (إكرام اليتيم) هي علامة الإكرام ، و(تضييق رزق المسكين وعدم الحضّ عليه) هي علامة الإهانة .
وفي الثانية ﴿كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ تهيئة للاعتقاد بأن ما يوجب الإكرام والإهانة الحقيقية للعبد ، هو ما يظهر يوم القيامة من أثر سعيه في الدنيا ، عندما يدكّ الله تعالى الأرض دكا ، ويقف الإنسان أمام ربه موقف العبد الذليل .

شبهة التجسيم

إن القرآن الكريم يريد ممّن يتلو آياته أن يكون من ذوي اللب وهذا يستلزم التفكر والتدبّر ، فقد وردت فيه آيات تدل ـ  بظاهرها ـ على جسمانية الخالق كقوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[٢] و﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[٣] و﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمام﴾[٤] إضافة إلى ما جاء في هذه السورة كقوله تعالى ﴿وَ جاءَ رَبُّكَ﴾ .
ولكن عندما يفتح العبد أقفال قلبه ، ويدرك حقيقة استحالة التجسّم ، حيث إنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[٥] وهو الذي قال عن نفسه ﴿لَن تَرَانِي﴾[٦] فإنه لا مناص من تقدير مضاف في البين من قبيل : الأمر ، أو القهر ، أو جلائل الآيات ، أو غيره .

[٢] . سورة طه : الآية ٥ .
[٣] . سورة الفتح : الآية ١٠ .
[٤] . سورة البقرة : الآية ٢١٠ .
[٥] . سورة الشورى : الآية ١١ .
[٦] . سورة الأعراف : الآية ١٤٣ .

حقيقة المجيء بجهنم

إن (مجيئ جهنم) يوم القيامة يمكن تفسيره :
بالمعنى المجازي ، أي برزت لأهلها ، كما في قوله تعالى ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى﴾[٧] فكأنها جاءتهم بعد أن كانت غائبة عنهم .
بالمعنى الحقيقي ، أي تحركت جهنم من مكانها وأقبلت إليهم ، فكأن هذا الأمر أوقع في التهويل ، وكأن جهنم متعجّلة لابتلاعهم قائلة ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾[٨] ويؤيد هذا المعنى ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سُئل عن مجيء جهنم ، فقال : «إذا جمع الأولين والآخرين ، أتى بجهنم تقاد»[٩] .
وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تغيّر وجهه إلى درجة عُرف ذلك في وجهه ، حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله ، وذلك حينما نزلت هذه الآية لشدة ما فيها  . . ومن المتوقع أن يتذكر الإنسان سعيه في الدنيا ، ولكن من دون أن يكون لهذه الذكرى ما ينفع ، حيث فات وقت العمل!

[٧] . سورة النازعات : الآية ٣٦ .
[٨] . سورة ق : الآية ٣٠ .
[٩] . بحار الأنوار : ج ٧ ص ١٢٥ .

أمنيات يوم المحشر

هناك مجموعة من التمنّيات لأهل المحشر عندما يرون العذاب الإلهي ، منها تمنّي :
عدم اتخاذ الخليل الذي صدّه عن سبيل ربه في دار الدنيا ﴿يا وَيْلَتى‏ لَيْتَني‏ لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً﴾[١٠] .
عدم تلقيّه كتاب العمل لما فيه من المخازي ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَني‏ لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾[١١] .
أن لو كان ترابا فلم يعرف حسابا ولا كتابا ﴿إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَريباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَني‏ كُنْتُ تُراباً﴾[١٢] .
ومنها ما في هذه السورة ، حيث يتمنى تقديم شيء لحياته ﴿لَيْتَني‏ قَدَّمْتُ لِحَياتي﴾ .
ومن الملفت أن المتمنّي في هذه الآية يقول ﴿قَدَّمْتُ لِحَياتي﴾ ولم يقل : (لآخرتي) وكأنّ ما مضى لم يكن حياة أصلا وهو ما تبيّنه آية اُخرى ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون﴾[١٣] .

[١٠] . سورة الفرقان : الآية ٢٨ .
[١١] . سورة الحاقة : الآية ٢٥ .
[١٢] . سورة النبأ : الآية ٤٠ .
[١٣] . سورة العنكبوت : الآية ٦٤ .

التهديد عند الضرورة

إن عادة الكريم الحليم قائمة على عدم التهديد والوعيد إلا في مقام الضرورة ، فكيف بفعلية الوعيد؟!  . . وكيف إذا كان الوعيد في أوجه من التهديد؟!
وبعدها نقول : إن جرأة بني آدم على ربه بلغت مبلغا جعلته تعالى ـ  وهو الذي سبقت رحمته غضبه ـ يهدده بأعلى درجات التهديد ؛ حيث يقول تعالى ﴿فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ﴾ فجعل نفسه في مقام القهارية العظمى ، سواء أسندنا ﴿يُعَذِّبُ﴾ و﴿يُوثِقُ﴾ إلى ذاته المقدسة بقراءة المعلوم ، أو إلى العبد المعذَّب والموثوق بقراءة المجهول  . . ومن المعلوم أن التأمل في هذا الوصف من العذاب والوثاق ، يهوّن على المؤمنين ما نزل بهم من تعذيب الكفار لهم ؛ لأن ما ينتظر الظالمين من العذاب لا يخطر بالبال!

موجبات النفس المطمئنة

إن (النفس المطمئنة) تشرّفت بالخطاب هنا بقوله تعالى ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ وإن لم يكن صاحبها ممّن يُوحى إليه!
وليُعلم أن الطريق إلى اطمئنان النفس مبيّن في القرآن الكريم ، وهو متمثل في (الذِكر) حيث يقول تعالى ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[١٤] وهو يتحقق بأمرين :
الصلاة : حيث قال تعالى ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾[١٥] .
القرآن : حيث عبّر عنه مُنزله قائلا ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾[١٦] .
فبمجموع القرآن الصاعد وهي (الصلاة) والنازل وهو (القرآن) يمكن الوصول إلى هذه الرتبة  . . وهذا هو الذي جعل الإمام السجاد (عليه السلام) يقول : «لو مات مَن بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي»[١٧] .

[١٤] . سورة الرعد : الآية ٢٨ .
[١٥] . سورة طه : الآية ١٤ .
[١٦] . سورة الحجر : الآية ٩ .
[١٧] . الكافي : ج ٢ ص ٦٠٢ .

الجنة الخاصة

إن استخدام تعبير الجنة مضافة إلى الباري تعالى ﴿وَادْخُلي‏ جَنَّتي﴾ لم يرد إلا في هذه السورة المباركة ؛ وذلك لإفهام مزيد الشرافة لهذه الجنة التي أُعدّت لجمع من العباد قد أضافهم إلى نفسه ، وكذلك الأمر في قوله تعالى ﴿فَادْخُلي‏ في‏ عِبادي﴾ حيث جعل المولى الدخول في زمرة العباد المخصوصين بالعناية جزاء للنفس المطمئنة ، وما ذلك إلا لأنهم خلّصوا أقدس بقعة من وجودهم ممن سواه ـ  ألا وهو القلب ـ فأفاض عليهم من الاطمئنان ما جعلهم راضين عنه ، ومرضيين لديه .
ومن الملفت في المقام : إن الله تعالى ذَكر ـ  في مقام الجزاء ـ دخولهم أولا في زمرة العباد ، وعلى رأسهم كما روي عن الصادق (عليه السلام) : «محمدا وأهل بيته»[١٨] ثم دخولهم الجنة ، فإن شرف الجنة بأهلها ، كما أن شرف كل مكان بالمكين!

[١٨] . الكافي : ج ٣ ص١٢٧ .

الخوف من المقام أو العقاب

إن دخول الجنة عموما أو الجنة الخاصة بأولياء الله تعالى ، يتوقف على الخوف من مقام الرب كما في قوله تعالى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ وهذا الخوف ملازم أو ملزوم لمخالفة الهوى الذي يُسند إلى صاحبه ، إذ لا إجبار في البين .
وينبغي التفريق هنا بين الخوف من المقام والخوف من العقاب ، فالأليق بخاصة العباد هو الأول لا الثاني ، لعدم ارتكابهم ما يوجب لهم العقاب .