Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ ٨ وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ ٩ وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ ١٠ فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ ١١ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ ١٢ فَكُّ رَقَبَةٍ ١٣ أَوۡ إِطۡعَٰمٞ فِي يَوۡمٖ ذِي مَسۡغَبَةٖ ١٤ يَتِيمٗا ذَا مَقۡرَبَةٍ ١٥ أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ ١٦
  • تلاوة الآيات ٨ إلى ١٦

الجعل الإلهي المتنوع

إن الآيات الكريمة تُشير في أكثر من سبعين مورد للجعل في عالم المحسوس وغيره ، ومنه ما في هذه السورة من ذِكر موارد الجعل فقال تعالى ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ﴾ وعدّاه إلى موارد متعدّدة من مظاهر قدرته ، إلا أن القضية لا تنتهي عند الجعل والمجعول ـ  فذاك شأن الربوبية ـ وإنما المهم فيمَن يدرك هذا الجعل ويحوّله إلى أداة للاعتبار ، والإحساس بمنّة الجاعل وقدرته ، وهذا هو المطلوب من شأن العبودية .

آيتية البدن الانساني

لا يحتاج العبد لمعرفة عظيم منّة الله تعالى إلى السفر في الآفاق ، أو الغوص في أعماق النفس ، بل يكفي أن ينظر إلى ما في بدنه ، وعلى الخصوص إلى الآيات الباهرة التي أودعها الله تعالى في رأسه من ﴿عَيْنَيْنِ﴾ وعجائبها ، فهي بالإضافة إلى أنها أداة الإبصار ، فهي أيضا وسيلة لنقل الأحاسيس والعواطف بل التأثير الروحي كما هو معروف ﴿وَلِساناً﴾ يؤدي من الأغراض ما يُبهر من : المضغ ، والنطق ، وترطيب الطعام ، ومن ﴿شَفَتَيْنِ﴾ بهما قوام النطق ، فهي آخر مخارج الحروف بعد الحلق وفضاء الفم .
ولا يخفى أن عملية النطق باللسان والشفتين من أعقد العمليات في الوجود ، لما يصاحبها من التفكير غير المحسوس ثم التعبير عنه بالمحسوس ؛ وبمجموع العمليتين انتقلت المعارف البشرية بكل صورها . وبعبارة جامعة يمكن القول : بأن التأمل في الوجود الإنساني مادة وروحا ، محقق للسير الآفاقي والأنفسي معا .

الهداية الباطنية

إن الله تعالى كثيرا ما يؤكد على حقيقة الهداية الباطنية ، فمنها ما في قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[١] ومنها ما في هذه السورة حيث يقول تعالى ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ولا يخفى ما في كلمة ﴿النَّجْدَيْنِ﴾ من لطف ، حيث تدل على الطريق المرتفع ، فأصل الطريق يمهد السلوك لسالكه ، فكيف إذا كان مرتفعا وواضح المعالم!
والسر في التأكيد على هذه الحقيقة : هو أن لا يحتجّ أحد بعدم وجود مذكّر له عند ارتكاب ما يعرفه من القبائح بالفطرة : كالكذب والظلم وأشباهه ، إذ إن استنكار الضمير لما يرتکبه الإنسان من الخطايا من أفصح المحتجين في باطنه .

[١] . سورة الشمس : الآية ٨ .

التحكم في الحواس الظاهرية

لا تخفى المناسبة بين العينين والشفتين من ناحية ، والنجدين من ناحية اُخرى ، فإن الله تعالى كما جعل أدوات تحكّم في الباطن متمثلة بالمعرفة الوجدانية للخير والشر ؛ فإنه جعل أيضا أدوات تحكّم في الظاهر من العينين اللتين بإمكانهما غضّ البصر ، والشفتين اللتين بإمكانهما حبس اللسان من دون مشقة زائدة  . . وعليه ، فإنه لا عذر لمَن أطلق بصره ولسانه ، سواء في حرام أو فضول .

اقتحام الموانع

إن المطلوب من العبد في هذه الحياة أن يقتحم العقبات ـ  وهو الدخول في الشيء بسرعة ـ والمتحقق من خلال تجاوز هوى النفس ومشتهياتها ، فكما أن البِرّ لا يُنال إلا بالإنفاق ممّا يحبه العبد ؛ فكذلك الأمر بالنسبة إلى اقتحام موانع السير إلى الله تعالى ؛ فإنه لا يتم إلا في موارد العمل بما يشق على النفس مثل ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وهو ممّا قد يستلزم المال الكثير ، والإنفاق عند القحط ﴿إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ بفارق أن في الأول : تخليص إنسان بكامله من قيد الرق ، وفي الثاني : تخليصه من خصوص الجوع .
وقد بلغ الأمر من الأهمية إلى درجة عبّر عنه القرآن الكريم ﴿وَما أَدْراكَ﴾ الذي لا يُستعمل عادةً إلا في موارد يصعب على العباد استيعاب حقائقها ، فكان ما خفي عنهم من الجزاء ممّا لا يمكن تصوّره!

الأقرب للقرب الإلهي

إن المؤمن عندما يريد أن ينفق مالا في سبيل الله تعالى أو يُطعم طعاما في حبه ؛ فإنه ينظر إلى الأقرب لمرضاته تعالى في جزئيات ذلك العمل القربي .
وبعبارة اُخرى : هو حريص على اختيار أفضل المصاديق لذلك العنوان العام ، وفي هذه الآيات دلالة على بعض العناوين المرجحة الاُخرى ، بعد إحراز أصل الرجحان في الإنفاق ، فمنها :
اليتم ﴿يَتِيماً﴾ لما يعانيه من آلام فقْد مَن كان يرعاه .
القرب النسبي ﴿ذا مَقْرَبَةٍ﴾ .
شدة الفقر ﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ وكأنه التصق بالتراب لشدة فقره .
اختيار الأيام التي تعظم فيها الحاجة كأيام المجاعة ﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ .

فكّ الرقاب من النار

إن الآيات بظاهرها ناظرة إلى فك الرقاب وإطعام البطون في دائرة (المحسوس) ويُعدّ ذلك اقتحاما للعقبة ، مع الالتفات إلى أن الآيات لم تقيّد المُنفَق عليهم بقيد الإيمان أو الإسلام ، فكيف إذا كان الأمر في دائرة (المعقول) ، أي : مَن فك رقبة عبد مسلم آبق من النار ، أو هدى مؤمنا ضالا فأطعمه من طعام عالم المعنى ، أو تكفّل يتيما من يتامى آل محمد (عليهم السلام) ؛ فأي جزاء ينتظر مثل هذا العبد يوم القيامة؟!
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الخبر : «أن الله تعالى أوحى إلى موسى: حببني إلى خلقي وحبب خلقي إلى، قال: يا رب كيف أفعل؟ . . قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبوني، فلإن ترد آبقا عن بابي، أو ضالا عن فنائي أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها، وقيام ليلها، قال موسى(عليه السلام) : ومن هذا العبد الآبق منك؟ . . قال: العاصي المتمرد»[٢] .

[٢] . بحار الأنوار : ج ٢ ص ٤ .