Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
كـَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ١٨ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ ١٩ كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ ٢٠ يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ٢١ إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٢٢ عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ٢٣ تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِيمِ ٢٤ يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيقٖ مَّخۡتُومٍ ٢٥ خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٞۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦ وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ ٢٧ عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ ٢٨
  • تلاوة الآيات ١٨ إلى ٢٨

حقيقة “عِلِّيِّين”

إن كتاب الأبرار في موضع مقابل لكتاب الفجار ، فهي جهة عالية عبّر عنها بـ ﴿عِلِّيِّينَ﴾ وقد جاء في الحديث النّبوي الشريف : «عليّون في السماء السابعة تحت العرش»[١]  . . ولكن العليين يشترك مع ﴿سِجِّينٍ﴾ في أنه فوق تصور المتصوّرين ؛ ولهذا عبّر عنهما بـ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أضف إلى أن المقدرات فيهما كُتبت بما لا ريب فيه ولا حيف ﴿مَّرْقُوم﴾ لأن كاتبها ـ  وهو الله تعالى أو الملائكة ـ لا تنقصه الحكمة ولا المداقة ، كما كان التعبير به أيضا عند ذكر السجين ، ولكن الله تعالى وصف كتاب الأبرار هنا بأنه مشهود لطائفة من المقرّبين ، وقد فُسِّرت بالملائكة المقرّبين[٢] ، كما فُسِّرت بخواص أهل الجنة الذين لهم الحق في مشاهدة صحائف الأبرار[٣] .

[١] . مجمع البيان : ج١٠ ص٦٩٢ .
[٢] . الميزان في تفسير القرآن : ج٢٠ ص٢٣٥ .
[٣] . الميزان في تفسير القرآن : ج٢٠ ص٢٣٥ .

من هم المقرّبون؟

إنه من الممكن أيضا إرجاع الضمير في ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ إلى رب العزة والجلال ، فالمقرّبون هم قوم رُفعت عنهم الحجب بکل صورها ، بما أهّلهم لرؤية جهة الجلال الإلهي ، ودرجة هؤلاء فوق درجة الأبرار والملائكة ، إذ هم أصحاب تلك العين التي ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون﴾ ‏والذين يتصدّى لهم ربهم بسقيهم ﴿شَرَابًا طَهُورًا﴾[٤] .

[٤] . سورة الإنسان : الآية ٢١ .

درجات الجنّة

إن أهل الجنة ليسوا على درجة واحدة من التنعّم فالأبرار في نعيم ، ولكن المقرّبين لهم نعيم من نوع آخر ، حتى أن الشراب المتمثل بخمر الجنة المعد لهم ، يختلف عن شراب الأبرار ؛ إذ إن مزاج شراب الأبرار من التسنيم ﴿وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ ولكن التسنيم بنفسه هو شراب المقرّبين ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ وليس هذا الشراب بمقدار ما يُصبّ في كؤوسهم ، وإنما هو عين تجري فيشربون منها ، وأما باقي مزاياهم الخاصة ، فلا يستوعبها إلا مَن وصل إلى مقامات النظر إلى وجهه الكريم .

نعمة سارّة

إن النعيم الحسي الذي يتمتع به أهل الجنة ، ينعكس على وجوههم على شكل نضرة وبهجة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ وهم في حال استرخاء ونظر إلى ما يجري حولهم من انواع النعيم ﴿عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ وقد يكون منها النظر إلى الجمال الإلهي  . . ومن هنا يُعلم أنه ليس لكل نعيم بهجة ، فما أكثر متع أهل الدنيا ومع ذلك ينطبق عليهم قوله تعالى ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾[٥] .
وعليه ، فإن النعيم الذي ييسره رب العالمين هو ما يورث الأنس والسعادة في النشأتين ، لا نعيم المترفين من أهل الدنيا .

[٥] . سورة طه : الآية ١٢٤ .

لذائذ الوصل الإلهي

إن الشراب الإلهي في الجنة مختوم بختام من مسك طيب الرائحة ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ بخلاف ما تُختم به آنية الدنيا من التراب وغيره ، وذلك من أجل أن يبقى نقيا من دون غش .
ومن هنا نقول من منطلق هذا النعيم الأخروي : إن الذي يريد التلذذ بلذائذ الوصل في الدنيا ؛ عليه أن لا يجعلها مشوبة بشوائبها المعروفة من الرياء ، وتصديق الوهم ، والغفلة عن التكليف ، والتباهي بالمقامات ، وغيرها .

اختلاف النعيم

إن اختلاف درجات النعيم في الجنة مدعاة لتنافس أهلها في الدرجات العليا منها ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ وهذا ممّا لا يتيسر إلا في الحياة الدنيا : إذ اليوم يوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل!
ففرق بين شراب يجري من تحت أهل الجنة ، كما هي عادة القرآن في وصف أنهار الجنة ومنها أنهار الخمر ، وبين شراب التسنيم الذي قيل عنه :
بأنه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنة .
بأنّه نهر يجري في الهواء ، فينصبّ في أواني أهل الجنّة[٦] .

[٦] . بحار الأنوار : ج ٨ ص١١٥ .

التنافس الممدوح

إن التنافس غير مذموم في أصله ، ولكنه مذموم بحسب متعلَّقه ، فالمولى بعد أن يذكر شيئا من نعيم الجنة ، يدعو الناس للتنافس في كسب موجباتها ، وممّا يعِين على هذا التنافس إنما هي الغبطة المحمودة .
ومن المعلوم أن التنافس في مضمار لا نهاية له ـ  كمضمار الآخرة ـ ليس فيه غالب ومغلوب ؛ وذلك لأن التنافس ليس على أمر محدود يوجب التنازع ، أضف إلى أن مقتضى المنافسة هو التسابق أيضا ؛ لأن كل متنافس يريد الوصول قبل صاحبه إلى هدفه ، وهذا بدوره يوجب سرعة السير في طريق التنافس .