Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا ١ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا ٢ وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا ٣ وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا ٤ وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا ٥ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا ٦ وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠
  • تلاوة الآيات ١ إلى ١٠

الحكمة من تكرر القسَم

إن الارتباط واقع قطعا بين الأقسام القرآنية وما يُقسَم عليه ، ولكن لا بُد للمتدبّر في القرآن من اكتشاف ذلك وهذه حكمة من حِكم الإتيان بالقَسَم ، وإلا فهو تعالى أجلُّ من أن يحتاج إلى قَسَم لدفع شبهة في البين ، كما هي حاجة البشر في المحاكم مثلا!
وعليه ، فإنه من الممكن القول : بأن المناسبة بين هذه الأقسام المتمثلة بـ (عجائب الصنعة) وبين (التزكية البشرية) هو أن الله تعالى سخّر للعبد كل ما في الوجود ليصل إلى هذا الكمال أعني التزكية ، ومع انتفاء هذه الثمرة فإن وجود العبد يكون نشازا في هذا الوجود ؛ لأن كل المخلوقات الصامتة حققت الغرض من وجودها ، إلا هذا الموجود الناطق!  . . ويؤيد هذا المعنى ما روي في الحديث القدسي : «يابن آدم، خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي»[١] .

[١] . بحار الأنوار : ج ٢٢ ص٣٥٥ .

أنواع القسم القرآني

إن الأقسام مختلفة في السور القرآنية كمّا وكيفا ، فمن جهة الكيف فإنها مختلفة بحسب تعلقها بمتعلَّق : كالظواهر السماوية ﴿وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ﴾[٢] والأرضية ﴿ وَالْأَرْضِ وَما طَحاها﴾ والأنفسية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ والأخروية ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾[٣]  . . ومن جهة الكم فهي تتراوح بين الواحدة ﴿وَالْعَصْرِ﴾[٤] والإثنين ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾[٥] والثلاث ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى﴾ والأربع ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾[٦] والخمس ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾[٧]  . . ولكن الأقسام في هذه السورة بلغت أحد عشر قسما ، وكل ذلك وارد على مُقْسَم عليه واحد ألا وهي النفس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ ممّا يُعلم أن أساس كل كمال في الدنيا والآخرة ، هو هذا الذي يستحق مثل هذه الأقسام المتكررة .
والملفت هنا أنه لا نجد في مجموع القرآن مثل هذا التمهيد ، لأي فرع من فروع الدين  . . وعليه ، فإن المطلوب من العبد ذلك الأمر الذي هو وراء العبادة الظاهرية ؛ ألا وهو تخليص النفس من الملكات والصفات الرذيلة المتعلقة بعالم الجوانح ، والتي يظهر غالبا أثرها على الجوارح قهرا .

[٢] . سورة الطارق : الآية ١ .
[٣] . سورة البروج : الآية ٢ .
[٤] . سورة العصر : الآية ١ .
[٥] . سورة الضحى : الآية ١-٢ .
[٦] . سورة التين : الآية ١-٣ .
[٧] . سورة الفجر : الآية ١-٤ .

مرجع الضمير في “جَلَّاهَا”

أرجع بعض المفسرين الضمير في ﴿جَلاَّها﴾ إلى الأرض ، ولا إبهام على هذا التفسير ، ولكن البعض أرجعه إلى الشمس بمعنى أن النهار ـ  والذي هو مُسبَّب من الشمس ـ قد جلّى الشمس ، وفيه من الإبهام ما لا يخفى ، فنقول حلّا لذلك : إن الشمس لبعدها عن تناول الأيدي ، لا تكون جلية للإنسان كجلاء ما على الأرض ، والحال بأن النهار الذي يعيش فيه الإنسان ويتنعّم ببركاته أمرٌ لا يخفى عليه ، وذلک لقربه من حواسه ، كما أن الأمر كذلك في المرآة ـ  وهي الفرع ـ فإنها مُظهرة ومجلّية للصورة وهي الأصل .
ومن هنا يصح أن يكون العبد الداعي إلى الله تعالى بمثابة النهار الذي يجلي الشمس الساطعة ، فيكون دليلا إلى الله تعالى ، وهكذا الحال في إحياء ذكر النبي وآله (عليهم السلام) فقد وردت الرحمة لمَن أحيا أمرهم ، والحال أن محيِي أمْرَهم في رتبة أقل ممّن يُحيَى أمْرُهم .

الاختلاف في “ما” الموصولة

إن ممّا لفت نظر المفسرين إطلاق (ما) على الباري جلّ ذِكره دون (مَن) وذلك للإشارة إلى تلك القوة العجيبة والمبهمة ـ  بنظرنا القاصر ـ والتي بها قامت السماء والأرض والنفس ، حسب ما هو مذكور في الآية كأمثلة للبسائط : أي الشمس والأرض ، والمُركّبات : أي النفس التي جاءت نكرة دون الأولين إشارة لعظمتها .
ومن هنا لزم الانتقال من مَظهر العظمة إلى موجد العظمة ، وهذه مشكلة الباحثين في عالم الطبيعة في أنهم ينبهرون بالمصنوع ، دون الانتقال إلى الصانع فلا ينفعهم في تقريبهم إليه ، ولا نرى تلك الخشية الموعودة لعباده العلماء  . . ولا يخفى أخيرا ما في عطف الذات الإلهية على مخلوقاته ـ  في سياق القَسَم ـ من دلالة على عظمة هذا الصنع الذي عُطف ذِكره على ذكر خالقه! .

التدبر في القوانين الإلهية

إنه من الممكن أيضا تفسير (ما) في الآية السابقة بالقوانين الإلهية الحاكمة في هذا الوجود والمسؤولة عن بناء السماوات ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا﴾ وتسوية الأرض ﴿وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾  . . ومن هذه القوانين : الجاذبة الكونية الحافظة لكل ما في هذه المجرات من أجرام سماوية ؛ ممّا يُفهم منه أن خلق ما في الوجود كعناصر ثابتة يمكن أن نجعلها في كفة ، والقوانين المدبرة لها في كفة اُخرى .
ومن المعلوم أن الذي يعقل هذا القوانين هو الإنسان ، وإلا فإن الحيوان يرى ما يراه الإنسان على حد سواء ، بل أفضل منه ـ  كما هو معلوم في أفضلية حواسها على حواس بني آدم ـ ولكن من دون الانتقال من المعلول إلى العلة!

معاني النفس

كما أن النفس تطلق على الروح ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[٨] فإنها تطلق أيضا على ما يشمل الجسد أيضا كقوله تعالى ﴿إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾[٩] ومن الممكن أن تشمل التسوية في قوله تعالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ للروح والبدن ، فإن الله تعالى أعمل قدرته الخلاقة فيهما معا ، حيث مدح نفسه قائلا ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[١٠] بعد خلق البدن ونفث الروح فيه ، وهو المُشار إليه في قوله تعالى ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾[١١] .

[٨] . سورة الزمر : الآية ٤٢ .
[٩] . سورة القصص : الآية ٣٣ .
[١٠] . سورة غافر : الآية ٦٤ .
[١١] . سورة المؤمنون : الآية ١٤ .

النبي الباطني

إن الآية التي تُسند الإلهام إلى الله تعالى بقوله ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ من موجبات إتمام الحجة على العبد يوم القيامة ، فلا يتذرّع بعدم وجود مذكّرٍ خارجي ؛ وذلك لأن الذي ألهمه رب العالمين ، بمثابة الرسول الباطني الذي لا يفارق أحدا .

نداء الفطرة الإلهية

إنّ من الملفت هنا أن الله تعالى جعل الموضوع في الإلهام هو مطلق النفس الإنسانية من دون وصفها بالإيمان ، كما جعل الموضوع في آية ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[١٢] هو مطلق الإنسان أيضا ، كما جعل الموضوع في الفطرة هو الناس ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[١٣] ممّا يُفهم من مجموع ذلك أن التزام جادة الفطرة والاستقامة ، لا يحتاج إلى أمر خارج عن الذات الإنسانية .
ولكن يضاف إلى ذلك القول : بأن وظيفة الأنبياء تتمثل في التذكير بنداء الفطرة ، ومنع طمسها بالمعاندة ، ومن ثم الدلالة على جزئيات الطاعة التي لا تُدرك بالعقل ، ومع هذا كله تبقى مسؤولية التزكية بعهدة العبد نفسه ، ومن هنا نسبها المولى إلى العبد نفسه قائلا ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ .

[١٢] . سورة القيامة : الآية ١٤-١٥ .
[١٣] . سورة الروم : الآية ٣٠ .

الإلهام الإلهي المسدد

إن الإلهام هنا يتمثل في إفاضته تعالى ما يُعين الإنسان على التصوّر والتصديق في عالم الحُسن والقبح (الحكمة النظرية) وهي أدنى درجات التسديد الإلهامي للنفس الإنسانية .
ولكن ، يمكن القول بأنه ما المانع ـ  بعد انفتاح باب الرحمة بسبب التزكية المميزة ـ أن ينفتح باب إفاضته تعالى فيما يُعين العبد على تلمّس مصالحه ومفاسده الشخصية (الحكمة العملية) ليكون سيره في جزئيات أموره على صراط مستقيم ، إضافة إلى أصل سيره في الحياة ، وهو ما نطلبه في كل ركعة من صلاة نافلة أو فريضة ، وذلك خلال قراءة سورة الفاتحة .

ارتباط “الفجور” بالقبائح

فُسِّر (الفجور) لغةً بأنه شق لستر الديانة ، كما أن (الفجر) شق لستر ظلام الليل ، وفُسّرت (التقوى) بأنها وضع النفس في وقاية ممّا يُخاف منه ، وعليه فإن مَن ألهمه الله تعالى هذين الأمرين بمقتضى قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ فقد أوجد المقتضي من ستر الوقاية ، وأزال المانع ممّا يشق ذلك الستر ، وهذا هو أساس الكمال خلافا :
لمَن شق الستر بارتكاب الفجور ، أوَ هل يضمن الرتق بعد مثل هذا الفتق؟!
لمَن رفع الحصانة عن نفسه بترك التقوى ، أوَ هل يضمن عدم استيلاء الشياطين على مملكته؟!

السرّ في تقديم الفجور

لعل السر في تقديم الفجور على التقوى في عالم الإلهام ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ هو أن التخلي من الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل ، أضف إلى أن فجورية الفجور تمجّه الفطرة السليمة من دون تأمّل ، ومن هنا كان وزر فاعل الفجور أعظم من تارك التقوى ، إذ إنه خالف ما هو المغروس في الفطرة والوجدان!
وهذا هو الذي حصل لعاقر الناقة إذ إنه تحدّى القدسية الربوبية المتمثلة بالناقة المرسلة فهتكها ، ولم يكن الأمر مجرد مخالفة عملية لغلبة ميل أو هوى ، ومن هنا كان العذاب النازل عليه وعلى قومه أيضا ، عذابا نادرا مميزا في الشدة والشمول!

الخطأ في المصاديق

إنّ كل مَن في الوجود يسعى نحو الفلاح بنظره ، ولكن المشكلة في التطبيق عند تعيين المصاديق ، فالبعض يراه في :
متاع الدنيا ، كقوم قارون ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[١٤] .
العلم الذي يحقق الذات ، كقوله تعالى عن الذين سخّروا علمهم للظفر بمتع الدنيا ﴿فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾[١٥] .
تكاثر المال والأولاد ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾[١٦] .
السلطان والاستعلاء على الغير ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾[١٧] .
ولكن القرآن الكريم يختم هذا النزاع بحصر الفلاح بـ ﴿مَن تزكّى﴾ لا بـ ﴿مَن اسْتَعْلَى﴾!

[١٤] . سورة القصص : الآية ٧٩ .
[١٥] . سورة غافر : الآية ٨٣ .
[١٦] . سورة الكهف : الآية ٤٣ .
[١٧] . سورة طه : الآية ٦٤ .

ترتّب الفلاح على التزكية

عندما يذكر القرآن الكريم الفلاح المترتب على فعل الخير ، فإنه يذكره بصيغة الترجّي ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[١٨] ولكن الفلاح المترتب على التزكية فقد ذكره بنحو التحقيق ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ .
ومن ذلك يُعلم الفرق بين العمل الجوانحي والجوارحي ، فنسبة الأول إلى الثاني كنسبة الجذور إلى الأغصان ؛ أي إنه إذا وجد الجذر السليم نبتت الشجرة اليانعة ، ويؤيده الحديث النبوي : «نية المؤمن خير من عمله»[١٩]!

[١٨] . سورة الحج : الآية ٧٧ .
[١٩] . بحار الأنوار : ج ٧٤ ص ١٧٨ .

المعنى العام للتزكية

إن القرآن الكريم عندما يطلق القول ، فإنه يريد معنىً شاملا ، ما لم تقم القرينة على خلافه ، فمثلا : إطلاق الإيمان والعمل الصالح في الآيات الكثيرة ، يقتضي الإيمان والعمل الصالح بشموله وتمامه ، وهكذا نقول في هذه الآية الكريمة ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ فإنها تقتضي أيضا التزكية الشاملة سواء في بُعد : العقائد ، أو المشاعر ، أو الأفعال ؛ وهي أبعاد الوجود الثلاثة .
ومما يؤيد ذلك أن الفلاح المذكور هنا ذُكر أيضا في قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ثم يُفصّل بعدها صفات المؤمنين بما يشمل ترك اللغو الذي قد يراه البعض أمرا تكاملياً غير لازم ، ممّا يدل على سعة دائرة الالتزام لمَن يريد الفلاح .

الإعانة على التزكية

إن عملية التزكية هي عملية اختيارية يقوم بها العبد من تلقاء نفسه ، وإلا فلو كان الأمر جبرا لانتفت حكمة الثواب ، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال :«إنك قد جُعلت طبيب نفسك ، وبُيّن لك الداء ، وعرفت آية الصحة ، ودللت على الدواء ؛ فانظر كيف قيامك على نفسك»[٢٠]!  . . ولكن مع ذلك فإنه ينبغي للعبد أن يدعو دعاء حثيثاً ، ليعينه الله تعالى على نفسه لنفسه ، وعلى عدوه لنفسه ، فقد روي أنه كان رسول الله ‘ إذا قرأ هذه الآية ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾ وقف ثم قال : «اللهم!  . . آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها»[٢١] .
ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء﴾[٢٢] ولا منافاة بين تزكية العبد لنفسه وتزكية الله تعالى له ، كعدم المنافاة في تحقيق فعل بين عمل المُعين والمُعان!

[٢٠] . جامع أحاديث الشيعة : ج ١٣ ص٢٤٦ .
[٢١] . بحار الأنوار : ج٩٢ ص٢٢٠ .
[٢٢] . سورة النور : الآية ٢١ .

التزكية والنماء الداخلي

إن التعبير عن إصلاح النفس بالتزكية ، فيه نوع حثّ وتحضيض لمَن سار في درب المجاهدة ، فإن ثمرة هذا الجهد هي التنمية والتكامل ، لا التنقية من الشوائب فحسب ، كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في ربط العلم بالزيادة : «العلم يزكو علی الإنفاق»[٢٣]!
وبعبارة اُخرى : فإن المزكّي لنفسه إنما هو يُضفي على نفسه كمالاً يرتضيه ، لا أنه يحرمها لذة يشتهيها ، فما أوجب للبعض ترك هذا السبيل هو الخوف من الحرمان ، والحال أنه لو تحقق حرمان في البين لكان ذلك في سبيل التكامل ، وهو أمر يستحق معه ترك بعض المتع العاجلة من أجل الكمال الدائم . . والملفت هنا أن أهل الدنيا طالما تحملوا حرمان شيء لحيازة ما هو أفضل ، فلم لا نعتبر بهم في هذا الأمر أي ترک اللذيذ طلباً للألذّ؟!

[٢٣] . بحار الأنوار : ج ١ ص١٨٨ .

إتلاف القابليات الباطنية

إن هناك بونا شاسعا بين بذرة نامية يرى زارعها نموها يوما فيوما إلى أن تؤتي ثمارها ، وبين بذرة مدفونة أخفاها صاحبها في التراب إلى أن تلفت قبل خروجها من الأرض .
وهذه هي حالة مَن سلك غير سبيل التزكية والتي عُبر عنها في قوله تعالى ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ فهو أخفى أمانة النفس في قبر الشهوات والأهواء ، كما أخفى الجاهليون أمانة البنات في التراب كما قال عنهم تعالى ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾[٢٤] فصار التعبير بالدس في كليهما واحدا ، وكأن مَن وأد نفسه وبنته في مستوى متقارب في جوهر الإجرام ، وإن لم يكن الأمر جليا بالنظرة الأولى .
والملفت هنا تكرار كلمة (قد) في مورد الفلاح والخيبة ، للاعتناء بالحقيقتين ـ  على حدٍ سواء ـ في توجّه القَسَم إليهما .

[٢٤] . سورة النحل : الآية ٥٩ .

ظهور الخيبة

إن الذي حقّق في نفسه مفهوم (الدس) بدلا من التزكية ؛ قد يحقّق إنماء على غير ما يقتضيه الطبع السليم ؛ ومن هنا يُصاب بالخيبة والإحباط!  . . فقوله تعالى ﴿خَابَ﴾ يُظهر هذه الخيبة من العبد عندما يرى أثر هذا الدس والإخفاء يوم القيامة ، وقد يكون من هذه الطائفة مَنْ وصفهم القرآن الكريم بقوله ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[٢٥] .
وكم الفرق بين مَنْ يُفاجأ بالخيبة يوم القيامة ، و بين مَنْ يستشعر الفلاح في الدنيا قبل الآخرة!

[٢٥] . سورة الكهف : الآية ١٠٤ .