Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَٱلۡفَجۡرِ ١ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ ٢ وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ ٣ وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ ٤ هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ ٥ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ٦ إِرَمَ ذَاتِ ٱلۡعِمَادِ ٧ ٱلَّتِي لَمۡ يُخۡلَقۡ مِثۡلُهَا فِي ٱلۡبِلَٰدِ ٨ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخۡرَ بِٱلۡوَادِ ٩ وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ ١٠ ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ١١ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ ١٢ فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ١٣ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ ١٤
  • تلاوة الآيات ١ إلى ١٤

طبيعة الأفراد والأمم

إن هذه السورة مسوقة لبيان السنن الإلهية في الأفراد والأمم ، وشأن هذه السنن شأن سائرالسنن التكوينية التي لا تنخرم ، فذَكرت :
طبيعة الأمم الطاغية : وما آلت إليه الأقوام السالفة ، وكيف أن طغيانها دمّرها تدميرا .
طبيعة الأنفس الطاغية : التي تأكل أموال اليتامى وتحب المال حبّا جمّا ، وتجزع عند المصيبة وتبطر عند النعمة .
طبيعة الأنفس المطمئنة : وهم العباد الذين رضوا عن ربهم ورضي عنهم .

أربعون احتمالاً

قلّما وقع الاختلاف في تفسير مفردة من مفردات الأقسام القرآنية كما وقع في هذه السورة ، فأنهى بعضهم مجموع المحتملات في مفردة ﴿الْفَجْرِ﴾ و﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ إلى أكثر من أربعين احتمالا!
وبناء على ما تقدم وغيرها من الموارد المشابهة ، لزم القول بوجود مكمّل لكتاب الله تعالى ؛ له العلم بالوجه المراد من بين هذه المحتملات ، ولا يتمثل ذلك إلا من خلال الثقل الآخر ، وهو العترة الهادية التي استوعبت حقائق القرآن ؛ إذ هم الذين خوطبوا به .

المحوران الأساسيان

إن عُمدة الأقوال في مفردات ﴿الْفَجْرِ﴾ و﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ و﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ و﴿اللَّيْلِ﴾ مترددة بين احتمالين :
الأول : ارتباطها بأزمنة الحج ؛ فالمراد من ﴿الْفَجْرِ﴾ هو فجر العيد ، ومن ﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ هي العشرة الأولى من ذي الحجة ، ومن ﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ يوم التروية ويوم عرفة ، ومن ﴿اللَّيْلِ﴾ ليلة مزدلفة .
الثاني : ارتباطها بالصلاة ؛ فالمراد من ﴿الْفَجْرِ﴾ هو وقته الصادق المقترن بوقت فريضة الصبح ، ومن ﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ هي الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان ؛ حيث يتمحّض فيها العبد لعبادة ربه أسوة بالنبي الخاتم ‘ ، ومن ﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ هو ما يصليهما المتهجّد ساعة السحر ، ومن ﴿اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ هو مطلق آخر الليل بعدما سرى الليل ومضى منه ما مضى .
وبالرجوع إلى هذين القولين ، يتبيّن لنا أهمية هذين الركنين من العبادة أي الحج والصلاة .

استفهام تقريري

جرت عادة القرآن الكريم على ذِكر المُقْسَم عليه بعد القَسَم مباشرة ، ولكن الملفت في هذه السورة أمران :
الأول : إن جواب القَسَم محذوف ـ  على قول ـ وإن دلّت القرينة على مضمونه .
الثاني : إن الله تعالى بعد ذِكر هذه الأقسام ، يستفهم تقريرا ؛ وذلك بالقول : إن هذه الأقسام هل هي كافية لمَن كان له عقل ﴿هَلْ في‏ ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حِجْرٍ﴾؟!

ما هو جواب القسَم؟

إن جواب القَسَم مردّد بين أن يكون :
قوله تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ .
وبين أن يكون أمرا محذوفا يدلّ عليه (الإنذار) بوقوع العذاب والانتقام الإلهي في الدنيا والآخرة من الطغاة ، وبين أن يكون أمراً محذوفا يدل عليه (التبشير) بجزيل الثواب لأصحاب النفوس الراضية المرضية التي تُسعد باطمئنانها في الدنيا وتدخل في جنة ربها يوم القيامة ، وفي هذا ـ  كباقي موارد الإبهام في جواب القَسَم ـ دعوة للتدبّر والتأمّل في الآيات الكريمة .

مناسبة العقل لكلمة “الحجر”

إن هناك علاقة بين المعنى اللغوي لمادة الاشتقاق في (حِجر) وبين العقل المفسَّر به ﴿لِذي حِجْرٍ﴾ ففي كل موارد الحجر من : الحُجرة ، والمحجور عليه ، وحجر الأم ؛ نرى عنصرا مشتركا يجمع كل هذه الموارد ويتمثل بالحفظ والمنع ؛ فالمحجور عليه ممنوع من التصرّف ، والحُجرة والحِجر يمنعان دخول الأغيار ويحفظان مَن كان فيه .
وهكذا ، فإن العقل إذا تمّ في الإنسان فإنه يحفظه من الزيغ والأهواء ، ويمنعه من الحركة على خلاف الفطرة ، المطابقة للأحكام العقلية المغروسة في باطنه .

القدرة البشرية

إن هذه السورة المباركة تعرض صورا من القوة البشرية ، المتمثلة تارة :
بالتقدم العمراني وإتقان بناء المدن : الذي تمثّل في بناء مدينة (إرم) التي قيل عنها أنها عديمة النظير ، ذات قصور عالية وعمد ممددة ، كما يُفهم من قوله تعالى ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ﴾ .
بالتقدم الصناعي : الذي تمثّل في قطع الصخور لاستخدامها في البناء ، والأمر لا يخلو من إتقان وخاصة في العصور الخالية من أدوات النحت والقطع الحديثة ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ .
بالبطش العسكري : الذي تمثّل في قوة فرعون وجبروته في التعامل مع أعدائه ، حتى أن زوجته آسية لم تسلم منه حينما وتّدها كعادته في تعذيب خصومه وهو ما أشار إليه تعالى ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ﴾ .
ويُجمع الكل عند هؤلاء الجبابرة عنوان : الطغيان ، وتعدّي الحدود ، وإشاعة الفساد في الأرض .

إمهال المعاندين

إن الله تعالى يُمهل بعض مَن يخالفه مخالفة شخصية لا تعود إلى إفساد النوع البشري ، بل يسارع في العفو عنه عند الإنابة إليه ؛ ولكنه شديد الأخذ لمَن صار سببا في شيوع الفساد البشري ، كما عُبّر عنه في آية اُخرى بقوله تعالى ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾[١] لهذا فإن من موجبات الانتقام الشديد المذكور في هذه السورة هو ما قام به هؤلاء الطغاة حيث ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ فلم تبق لهم باقية على وجه الأرض .
ولا يخفى ما في الآية من تطيّيب لخاطر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يواجه طغاة زمانه ، وذلك بإضافته إلى نفسه بوصف الرب حيث عبّرت بـ ﴿رَبَّكَ﴾ للدلالة على أن المنتقم من القرون السالفة هو المنتقم من الأمم الحاضرة ـ  بمقتضى ربوبيته القاهرة ـ وهو ما حلّ بهم عندما أرسل عليهم طيرا أبابيل وغيرها من صور الانتقام .

[١] . سورة البقرة : الآية ٢٠٥ .

العقوبة من جنس المعصية

إن العقوبات الإلهية متجانسة دائما مع طبيعة المخالفة ، فالذين أكثروا الفساد في الأرض ممّن ذكرتهم الآية وهم قوم عاد وثمود وفرعون ؛ كان جزاؤهم ممّا يناسب هذا الطغيان المتجاوز لحدوده ، والمتصف :
بالتوالي : الذي يشعره قوله تعالى ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ﴾ فالماء المصبوب هو المتوالي في جريانه ، وهو مشعر بالقوة والاندفاع أيضا ، وقد استخدم هذا التعبير القرآني في وصف المطر أيضا ؛ بقوله ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا﴾[٢] .
بالشدة المستفادة من ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ فإن السوط أداة من أدوات التعذيب المعهودة .
بالمباغتة ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ فإن العذاب المفاجئ أشد إيلاما لمَن نزل عليه ؛ وذلك لعدم إعداد نفسه لتقبّل العذاب أو دفعه عن نفسه .

[٢] . سورة عبس : الآية ٢٥ .

المرصاد الإلهي

إن التعبير ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ يوحي بأمرين :
إن الراصد يريد الانتقام من المرصود في الوقت المناسب ؛ ليكون أوقع في الانتقام .
إن المرصود لا يلتفت إلى كمين راصده ، وإلا ما عاد كمينا!  . .
ومن المعلوم في المقام ، إن العبد لو التفت إلى مراقبة ربه له ، وأورثته المراقبة تلک الخشية والخوف منه ، لما تعرّض لهذا اللون من الانتقام المفاجئ ، الذي يتجلى في نار جهنم حيث قال تعالى ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ .