Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
كـَلَّآ إِنَّهَا تَذۡكِرَةٞ ١١ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ١٢ فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ ١٣ مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۭ ١٤ بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۭ بَرَرَةٖ ١٦ قُتِلَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَآ أَكۡفَرَهُۥ ١٧ مِنۡ أَيِّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥ ١٨ مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ ١٩ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ ٢٠ ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقۡبَرَهُۥ ٢١ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ ٢٢ كـَلَّا لَمَّا يَقۡضِ مَآ أَمَرَهُۥ ٢٣
  • تلاوة الآيات ١١ إلى ٢٣

جهات العظمة

إن الآيات المتعلقة بالقرآن الكريم في هذا المقطع ، تدل على عظمة القرآن من جهة أنها :
مجموعة في ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ وذلك في عالم الغيب ، سوى هذه الصحف التي بين أيدينا .
أنها مرتفعة القدر ﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾ بارتفاع قدر منزلها .
هي ﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾ من كل دنس ، ومن أن تنالها يد التحريف .
هي ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ كرام ؛ وهم أعوان الملك الأعظم جبرائيل (عليه السلام) منزّل الوحي ، ومن هنا كان مطاعا ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾[١] فقد جرت العادة على استحفاظ نفائس الأشياء بأيدٍ عديدة ، مبالغة في إكرامها أو حفظها .

[١] . سورة التكوير : الآية ٢١ .

حملة القرآن

إن القرآن كما تحمله أيدي الكرام البررة في عالم (الإرسال) ، فكذلك يتحمّله كرام الأمة الخاتمة في عالم (التلقّي) ، وهم المعصومون (عليهم السلام) الذين يحملون حقائق القرآن في كل عصر ، ويليهم الأمثل فالأمثل في الطهارة والكرامة ؛ لأن الصحف المكرمة المطهرة تحتاج إلى أوعية متناسبة مع ذي الوعاء في الطهارة والقدس ، ومن هنا فانه لا يستوعب حقائق القران الكريم ـ  حتى من العلماء ـ إلا مَن كان طاهرا مطهرا ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾[٢] .

[٢] . سورة الواقعة : الآية ٧٩ .

التحبب إلى العصاة

إن الرب الذي يدعو المسرفين إلى رحمته متحببا إلى العصاة من خلقه[٣] فإنه يدعو على فئة من خلقه وهم الذين كفروا بأنعمه بأشد التعبير ؛ ألا وهو الموت قتلا ﴿ قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾!  . . فالتفاوت شاسع بين قوسي الرحمة والغضب ، وذلك لأن في الكفر نوع تحدٍّ لمقام الربوبية .
ومن الممكن بعد التأمل أن نقول : إن الغضب أيضا شعبة من شعب رحمته ، إذ إن قوام العدل وتربية العباد بنفاذ (الغضب) في موضعها ، لتتبين (الرحمة) في موضعها أيضا .

[٣] . ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِم  . . .﴾ سورة الزمر : الآية ٥٣ .

الكفر الأكبر والأصغر

إن الكفر الأعظم يتمثل في تغطية المنعِم بحجاب الإنكار ﴿ما أَكْفَرَهُ﴾ والكفر الأصغر يتمثل في تغطية نِعمه ، ويطلق على مرتكبِهما عنوان (الكافر) ولكن العتاب الشديد في الآيات يتناسب مع الكفر بالربوبية .
ومع ذلك فإن هذا العتاب قد يشمل الكفر بالنعمة بدرجة من الدرجات ، وهذا العتاب لو خففّناه لكان الباقي منه ثقيلا على العبد أيضا ، ومن هنا أُلحق المبذر بالنعمة بـ ﴿إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾[٤] لأنه نوع كفران بها .

[٤] . سورة الإسراء : الآية ٢٧ .

تعجب الخالق

إن استعمال صيغة التعجب من خالق الوجود لأمر من الأمور ملفت حقا!  . . فالذي لا يرى في الوجود شيئا يُعتد به لعظم سلطانه وترامي ملكه ، فإن إظهار التعجب منه تعالى في كتابه ﴿ما أَكْفَرَهُ ﴾ يدل على فداحة الأمر ، وأي خطب أعظم من إنكار مَن يصف نفسه في موضع آخر قائلا ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[٥] .

[٥] . سورة إبراهيم : الآية ١٠ .

موت الأرواح

إن الله تعالى عندما دعا بالقتل على الكافر ـ  وهو أبلغ من اللعن في بيان الطرد من ساحة الرحمة ـ فإنه لا يُحقق دعائه في الدنيا دائما ، إذ قد يعيش مَن دعا ربه عليه بالقتل منعّما مترفا في الدنيا ، ولكن الأشد من قتل الأبدان هو موت الأرواح الذي هو بحكم القتل لها ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ﴾[٦] حيث أن جوارحهم الباطنية من سمعٍ ، وبصرٍ ، وفؤادٍ معطلة لا تعمل ، وأي حياة بعد هذا كله؟!

[٦] . سورة النحل : الآية ٢١ .

التذكير بالمنشأ

إن القرآن الكريم كثيرا ما يذكّر الإنسان بأصله بتعابير مختلفة ﴿مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾[٧] و﴿مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾[٨] كما أن في هذه الآيات أيضا تذكير للكافر بأصله ، ليذكّره أولاً (بحقارة) منشئه ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ فهو من ماء دنسٍ ذي رائحة كريهة ، ولبيان (عظمة) خلقه ثانيا ، إذ إنه تعالى يخرج من ظلمات الأرحام في شهور ثلاثة ما يبهر الألباب بجماله ودقة صنعه ، ومن هنا استحق الدعاء عليه بالقتل عند إنكاره لمبدئه .
وملخص القول : إن مَن كان هذا أصله ، فإنه لا يليق به أن يتفوّه بما يوجب الكفر .

[٧] . سورة القيامة : الآية ٣٧ .
[٨] . سورة السجدة : الآية ٨ .

الكمال التكويني والتشريعي

إن التعبير بـ ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ يُشعر بأن هناك يدا مُقدّرة ، أرادت التدخل في هذه الفترة القصيرة لتصنع الأعاجيب ، وبعدها يترك الخالق أمر العبد إلى نفسه ، ليصنع ما يشاء!  . . فلو أن العبد طلب من مولاه أن يرعاه بلسان المقال ـ  بعد خروجه من عالم الأرحام ـ ما كان يطلبه في ذلك العالم بلسان الحال ، أفلا يصل إلى كماله (التشريعي) كما وصل إلى كماله (التكويني) ، حيث اليد المقدّرة في الحالتين واحدة؟!

استحواذ الشيطان

إن الله تعالى خلق الخلق ، وكلٌّ مُيسّر لما خُلق له ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ وهذا المعنى يراه العبد متجليا في أول الطريق ـ  وإن كان عاصيا ـ إلا أنه ومع تكرار المعاصي وخاصة الكبائر منها ، يصل إلى مرحلة لا يرى السبيل مُيسّرا بل ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾[٩] فيرى في نفسه ميلا قهريا إلى الباطل ، والشياطين المستولية عليه تسوقه إلى موجبات العسر سوقا ، وهذا معنى ولاية الشيطان على بعض من اتبع غير سبيل الهدى .

[٩] . سورة الليل : الآية ١٠ .

كسر الغرور الباطني

إن الالتفات إلى أول مراحل الدنيا ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ وإلى آخر مراحلها ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ لمن موجبات كسر الغرور الباطني ، وخاصة عند مَن يرى في نفسه مقتضيا لذلك ، كمَن ذكرته الآية في أول السورة ، أي الذي يتصدى لمَن استغنى ويتلهى عمّن يخشى .
فذكر الإماتة والإقبار في سياق العتاب على مَن دعا عليه القرآن بالقتل ، يُشعر بنوع من أنواع التحقير أيضا لمَن يعيش غرور الكفر ، فقد ذكّرته تارة بأنه من نطفة قذرة ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِين﴾[١٠] ، ففي هذه السورة تذكره بأنه سيؤول أخيرا إلى جيفة نتنة[١١] لا بُد أن تُقبر دفعا للأذى ، فلِمَ الغرور قِبال كبرياء رب العالمين؟!

[١٠] . سورة المرسلات : الآية٢٠ .
[١١] . نهج البلاغة : الحكمة ٤٥١ .

سير النزول والصعود

إن الإماتة التي مآلها الإقبار ، هي هذه الإماتة الظاهرية للأبدان التي تتحلل في التراب ، ولولا خاصية الأرض في تحليل الموتى ، لكانت الجثث ممّا يوجب التقذر والتنفر من أصحابها!  . . ولكن هذا السير النزولي للأبدان ـ  عموما ـ يقابله سير صعودي لبعض الأرواح ، فإن من الأرواح ما هو مآلها إلى ﴿مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾[١٢] .

[١٢] . سورة القمر : الآية ٥٥ .

الحكمة من البعث

إن الحكمة الإلهية تقتضي إحياء الموتى لينال المستحق جزاءه من الثواب والعقاب ، ولكن كل ذلك في دائرة المشيئة الإلهية ، ولهذا عبّرت الآية بأنه ﴿إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ﴾ فهو المالك للرقاب : بدء وختما ، تكليفا وجزاء .

الطبيعة الإنسانية

إن الآيات العديدة تصف طبيعة الإنسان بأنها : ميالة للهلع والجزع[١٣] ، وأنه ظلوم وجهول[١٤] ، وأنه في خسر[١٥] ، وهذه الآية تُبين أن الإنسان الذي هو في قبضة مولاه وفي كل تقلباته ، لا يلتفت إلى كل ما ذكرته الآية من الخلق والإقبار ، فهل قضى ما أمره به ربّه؟  . . والجواب ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ﴾ .

[١٣] . ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً *إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾ سورة المعارج : الآية ١٩-٢٠ .
[١٤] . ﴿إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ سورة الأحزاب : الآية ٧٢ .
[١٥] . ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفي‏ خُسْرٍ﴾ سورة العصر : الآية ٢ .