Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ ١٧ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ ١٨ وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ ١٩ وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ ٢٠ فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢ إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ٢٣ فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَكۡبَرَ ٢٤ إِنَّ إِلَيۡنَآ إِيَابَهُمۡ ٢٥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا حِسَابَهُم ٢٦
  • تلاوة الآيات ١٧ إلى ٢٦

النظرة الواعية للآفاق

إن من الأساليب القرآنية هو الانتقال من المطلوب الظاهري إلى موجبه الباطني ، ففي الآيات السابقة دعوة إلى تذكّر المعاد ، والالتفات إلى حال المنعمّين والمعذّبين فيها ، ولكن هذا الوصف بمجرده لا يشكل داعويّة للعبد للعمل بما هو مطلوب منه ، فأردفها بالدعوة إلى اكتساب المعرفة الموجبة للخشية ، ومنها النظر إلى الآفاق وما يُحيط بالإنسان من مظاهر القدرة الإلهية  . . ومن الطبيعي في زمان نزول الوحي ، أن يلتفت أهل الصحراء ـ  في زمان نزول الوحي ـ إلى الإبل لأنها وسيلة معاشهم ، فإذا رفع بصره رأى السماء يرى ما فيها من زينة الكواكب ، وإذا نظر أمامه يرى الجبال الموتّدة للأرض .
وهذه الدلالات بمجموعها توجب الانتقال إلى (وجود) الصانع أولا ، ثم إلى (قدرته) ثانيا ، ثم إلى (حكمته) البالغة ثالثا ، ومجموع هذه الأمور الثلاثة قد تورث الاعتقاد بالغاشية التي افتتحت السورة بذكرها .

إثارة البواطن

إنه لمن المناسب أن يحرّك الدعاة في دعوتهم إلى الله تعالى بواطن العباد ، وذلك بإثارة التساؤل الذي يجرّهم إلى البحث عن الإجابة الموجبة أخيرا للقناعة الباطنية .
فهذه الآيات تستعمل كلمة ﴿كَيْفَ﴾ أربع مرات : بدءاً من محسوس قريب كالإبل ، ومرورا بما لا يُنال كالسماء ، وتذكيرا بمحسوس آخر بعيد كالجبال ، ثم الأرض التي يراها كل راءٍ وقد سطحت من أجل تيسير معاش الخلق ، كل ذلك من أجل الوصول أخيرا إلى معقول يتمثل بالوصول إلى مُكوكب الكواكب ، ومُوتّد الجبال ، ومُسطّح الأرض!

الحدّ من التوقعات

إن القرآن الكريم يذكر في موارد عديدة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كباقي الأنبياء (عليهم السلام) لا سلطان له على بواطن العباد ، وإلا انتفى الاختيار الموجب للثواب والعقاب ، وذلك في قوله تعالى ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ و﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾[١] و﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾[٢] و﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفا﴾[٣] و﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات﴾[٤] .
وهذا بدوره يحدّ من توقّعات الداعين إلى الله تعالى ؛ لئلا تفتر همّتهم عندما يرون صدودا من الخلق ، والحال بأن سُنّة الأنبياء كانت في التذكير دائما من دون أن يكون لهم تحكّم إلزامي على القلوب ، وإلا لما بقي منكر لدعوتهم .

[١] . سورة يونس : الآية ٩٩ .
[٢] . سورة ق : الآية ٤٥ .
[٣] . سورة الكهف : الآية ٦ .
[٤] . سورة فاطر : الآية ٨ .

الجمع بين المداراة والحزم

استفاد البعض من آية ﴿إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾ أن الإسلام دين الواقعية والرأفة معا ، إذ إن البناء الأولي على التذكير فقط ، ولكن مع وجود ﴿مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾ ومواجهته لدعوة الإيمان ، فإن الأمر ينتقل من التذكير المجرد إلى مواجهتهم بالجهاد ، واستئصال جيوب الفتنة في الأرض ، مصداقا لقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾[٥] وهذا كله خلافا لمنهج مَن يجعل الوعظ القولي آخر السقف في مجال الدعوة إلى الله تعالى ؛ طلبا للإعفاء من المواجهة المستلزمة لبذل النفس والمال .

[٥] . سورة البقرة : الآية ١٩٣ .

أوصاف العذاب الأخروي

إن كل شيء حقير في جانب عظمة الرب المتعال ، وعليه فلو وصف تعالى شيئا بالشدة والكبَر ، فإنه يُشعر بعظمة ذلك الموصوف حقّا ، وهو ما تحقق في بيان عذاب جهنم عندما يصفها بأنواع الوصف ومنه ﴿عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[٦] ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[٧] ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[٨] ﴿عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾[٩] ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾[١٠] ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[١١] ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[١٢] ﴿عَذَابَ الْخُلْدِ﴾[١٣] ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾[١٤] ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾[١٥] ﴿أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾[١٦] .
وفي هذه السورة يهدّد الله تعالى الكافرين بعذاب هو ﴿الْعَذَابَ الأَكْبَرَ﴾ فالذي يعتقد بالمبدأ والمعاد ـ  وكان مطلعا على هذه الأوصاف ـ فإنه لا بُد له من الارتداع عن باطله ، إلا أن يكون الشك في إيمانه ، أو في فهمه لصلاح نفسه!

[٦] . سورة آل عمران : الآية ٤ ، سورة الأنعام : الآية ١٢٤ ، سورة إبراهيم : الآية ٢ .
[٧] . سورة البقرة : الآية ١٠ ، ١٠٤ ، ١٧٤ .
[٨] . سورة البقرة : الآية ٩٠ ، سورة آل عمران : الآية ١٧٨ ، سورة الإنسان : الآية ١٤ .
[٩] . سورة المائدة : الآية ٣٧ ، سورة التوبة : الآية ٦٨ ، سورة هود : الآية ٣٩ .
[١٠] . سورة الحج : الآية ٤ ، سورة لقمان : الآية ٢١ ، سورة سبأ : الآية ١٢ .
[١١] . سورة البقرة : الآية ٧ ، ١١٤ ، سورة آل عمران : الآية ١٠٥ .
[١٢] . سورة آل عمران : الآية ١٨١ ، سورة الأنفال : الآية ٥٠ .
[١٣] . سورة يونس : الآية ٥٢ ، سورة السجدة : الآية ١٤ .
[١٤] . سورة هود : الآية ٥٨ ، سورة إبراهيم : الآية ١٧ .
[١٥] . سورة الزخرف : الآية ٧٤ ، سورة الملك : الآية ٦ .
[١٦] . سورة طه : الآية ٢٧ .

الرجوع إلى الله تعالى

إن آية ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ فيها جهتان :
الأولى : وهي تسلية لفؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكر الكفار في مفتتح السورة ، فإن رجوعهم إلى الله تعالى وهو في مقام الانتقام منهم ـ يهوّن ما يصدر منهم من الأذى والاستعلاء .
الثانية : وهي تخويف للمعاندين ، فإن الله تعالى أرجع مهمة المحاسبة إلى نفسه وهو الذي لا تخفي عليه خافية ، ومن اعتقد بحقيقة الأوبة إلى الله تعالى ، فإنه لا ينقدح في قلبه الميل إلى المعصية ، فضلا عن ارتكابها .