Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ١٧ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ١٨ وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰبٗا ١٩ وَسُيِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا ٢٠ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادٗا ٢١ لِّلطَّٰغِينَ مَـَٔابٗا ٢٢ لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٢٣ لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدٗا وَلَا شَرَابًا ٢٤ إِلَّا حَمِيمٗا وَغَسَّاقٗا ٢٥ جَزَآءٗ وِفَاقًا ٢٦ إِنَّهُمۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ حِسَابٗا ٢٧ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا ٢٨ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا ٢٩ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٣٠
  • تلاوة الآيات ١٧ إلى ٣٠

تقطع الأواصر

إن التعبير بـ ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ يُشعر بتقطّع الروابط الاجتماعية ، ومنها الأبوة والبنوة ، وهذا يقوي من أواصر تعلّق العبد بمولاه الذي لا فصل بينه وبين عبده في كل النشآت ، بخلاف تعلّق العبد بعبدٍ مثله ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾[١] وهذا من دوافع الانقطاع الاختياري إلى المولى ، قبل الانقطاع القهري الذي يشترك فيه الجميع .
ومن المعلوم ، أن ما ذُكر لا ينافي التواصل مع الخلق تحقيقا لمرضاة الخالق ، كما هو الأمر كذلك في صلة الأرحام والمؤمنين ، إذ إن هذه الصلة من شؤون المولى الذي عطف الأرحام على تقوى الله تعالى ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾[٢] .

[١] . سورة الممتحنة : الآية ٣ .
[٢] . سورة النساء : الآية ١ .

يوم الانتقام

إن المظلوم الذي يعلم بميقاتيّة القيامة ، لايتبرّم كثيرا من تأخير الانتقام ؛ لعلمه بيوم المواجهة  . . كما أن الإحساس بضعف المظلوم عند من يهمّ بالظلم ، لا يشجّعه على الظلم ؛ لعلمه بيوم توضع فيه الموازين القسط[٣] وتفضّ فيه المنازعات ، وهذا كله من بركات الالتفات إلى فصلية وميقاتية ذلك اليوم ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ ميقاتا﴾ .

[٣] . ﴿وَ نَضَعُ الْمَوازينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَة﴾ سورة الأنبياء : الآية ٤٧ .

ثمرة الميقاتية

إننا عندما نعبّر عن موعد بأنه (ميقات) فإن هذا التعبير مُشعر بأن ثمرة كل الجهود، إنما تتجلى في ذلك الموعد الذي تتم فيه المساءلة ، والعاقل الذي له يقين بتحقق ذلك الميقات ، يُعدّ نفسه لموعد لقاء يخلو من عقاب وعتاب .

أثر العلم بالمعاد

إن المعتقد بحقيقة الميقاتيّة ، تهون عنده اللذائذ المحللة التي لا فائدة منها فضلا عن المحرمة ، وذلك عندما يعلم بموعد اللقاء مع جبار السماوات والأرض  . . ومن المعلوم أن العتاب على فضول النظر والقول ، فيه نوع من العقاب عند مَن تتبيّن له عظمة مقام الربوبية ، في تلك المواقف العظام .

الالتفات إلى الخواتيم

إن ميقاتيّة القيامة كانت مُنذ الأزل يوم خلق الله السماوات والأرض ، ولهذا كان التعبير بـ ﴿كانَ﴾ فالحكيم عند البدء كان ملتفتا للخواتيم ؛ لأنه من دون هذه الخاتمة تنتفي فلسفة الوجود والإيجاد ، ويتساوى المطيع والعاصي في الجزاء .

الفوجية والفردية

لا منافاة بين التعبير بـ ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ وبين التعبير بـ ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾[٤] فمن الممكن القول :
إنها تعابير لمواقيت مختلفة في عرصات القيامة ، فيتحقق الخروج على نحو الفوجيّة ، وأما الحساب فهو على نحو الفرديّة .
إن ظاهر الخروج وإن كان على نحو الجماعة ـ  المفهومة من الفوجيّة ـ إلا أن باطن الخروج يكون على نحو الفردية ؛ لأن كل فرد مشغول بنفسه ذاهل عن غيره ، حتى أن المرضعة تذهل عن وليدها .
وليُعلم أن ذلك كله ـ  أي الفوجية والفردية ـ محكومان بحشر أهلِهما تحت لواء واحد ، بحسب ما كانوا عليه في دار الدنيا ، وهو ما يُفهم من قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾[٥] .

[٤] . سورة مريم : الآية ٩٥ .
[٥] . سورة الإسراء : الآية ٧١ .

التغيير في الذوات

إن طبيعة السماء قائمة على أنها مغلقة محكمة الجوانب لا فتق فيها ، وطبيعة الجبال قائمة على أنها ثابتة لكونها أوتادا للأرض ، ولكن عند القيامة تتغير جوهر الأشياء : فالباب المغلق يُفتح ﴿وَفُتِحَتِ السَّماءُ﴾ والثابت يسير ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ﴾ وكذلك الأمر في موازين الأعمال فإنها تنقلب أيضا : فما كان يبدو أنه الحق يصير باطلا وكذا العكس ، ومن هنا سميت ﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَة﴾[٦] .

[٦] . سورة الواقعة : الآية ٣ .

سرابية الدنيا

إن كل صور المتاع في الحياة الدنيا بمثابة السراب العابر ، فظاهره المغري ليس وراءه حقيقة ثابتة ، ولكن هذا المعنى المجازي في الدنيا سوف يتجلّى يوم القيامة على شكل حقيقة واضحة : فالجبال التي هي أشد الجمادات ظهوراً وأعلى المخلوقات على وجه الأرض شموخا ، تتحول إلى ما يقول عنه القرآن الكريم ﴿فَكانَتْ سَراباً﴾ كناية عن الزوال حقيقة ، لا بحسب ما يتراءى بالنظر .

التربص بالطغاة

إن التعبير بالمرصاد في قوله تعالى ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً﴾ يوحي بأن هناك مَن يترصد بالسائر ، وإن لم يشعر الطرف الآخر به ، كما هي عادة المتربصين .
وعليه ، فإن مَن يعيش في هذه الدنيا وهو يعلم بوجود جهنم وكأنها متربصة به ، أو أنها محل لمَن يتربص به  ـ  على الوجهين في تفسير المرصاد ـ فإنه سيعيش خوفا يردعه عن الحرام .

العبور على جهنم

إن جهنم بمثابة الطريق الذي لا بُد من اجتيازه كالمرور على الطريق الذي فيه رَصَد من أهله ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾[٧]  . . لكن الكلام فيمن يجتازها بسلام وهم المؤمنون ، أو مَن يسقط بأيدي مَن ترصدوا له وهم الطاغون .

[٧] . سورة مريم : الآية ٧١ .

علامات أهل النار

إن من صفات أهل النار هو الطغيان ، وهو الخروج عن حد الاعتدال، وعليه ، فإن كل طغيان مخرج للعبد عن حد الاعتدال في كل شيء ـ  وإن كان قليلا ـ سيكون مقدمة لتراكم الخطايا إلى درجة تحوّل أحدهم إلى طاغوت ، فيكون مظهرا للفساد والإفساد .

المرجع الطبيعي للكفار

إن جهنم مآب للطاغين ﴿لِلطَّاغينَ مَآباً﴾ وكأنها هي المرجع الطبيعي لهم ، إذ كانوا على أنس بها ـ  وإن لم يشعروا بذلك ـ في دار الدنيا ، لأنهم آبوا ورجعوا إليها في الآخرة ، فطبيعتهم الطاغية لا تنسجم إلا مع المكوث في دار الأوبة هذه .
ومن هنا أيضا يُحل إشكال خلودهم في النار ، لأن طبيعتهم الثابتة مستلزمة لمثل هذا العذاب الثابت ، فالجزاء في القيامة مطابق لفعل العبد ﴿جَزاءً وِفاقاً﴾ فلا معنى لتوهم أن العذاب مبالغ فيه بعدما علمنا السنخية الأبدية بين النار وأهلها ؛ فالمُجازي هو العدل المطلق وأحكم الحكماء!

من موجبات الهلع

إن البعض في النار لا يحُكم عليه بالخلود ، كالفسقة من غير الكافرين بل ﴿لابِثينَ فيها أَحْقاباً﴾ ولكن اللبث في النار أحقابا من الزمن أيضا من موجبات إيجاد الهلع في النفس ، وذلک عندما يتصور صاحبها المكث في النار فترة قد تكون طويلة غير معينة ، كما تفيده كلمة (الأحقاب) وهو جزاء لم يكن ليتوقعه العبد في دار الدنيا .

العذاب المطبق

إن جهنم مظهر للعذاب المطبق ، إذ ليس فيها شراب ولا ما في حكم الشراب ، أو ظل يُستظل به ليريحهم ولو قليلا ، فمن يطلب شيئا من الاستبراد فإن جزاءه مستفاد من قوله تعالى ﴿لا يَذُوقُونَ فيها بَرْداً وَلا شَراباً﴾ بل إنه ليس هناك ما يروّح عن أهل جهنم ولو على نحو التذوق أوالإستبراد العابر ؛ لمجيء البرد والشراب نكرة في سياق النفي .
والأعظم من ذلك أنهم يُسقون ـ  بدلا منها ـ ذلك الحميم ، والذي يصب عليهم أيضاً ﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَميمِ﴾[٨] .

[٨] . سورة الواقعة : الآية ٥٤ .

التكذيب العملي

إن التكذيب بالبعث من موجبات الطغيان ، و ذلک أنه يلازم إنکار الجزاء الموجب لكبح جماح العبد ، وفي حكم التكذيب ما ذكرته الآية من أنهم ﴿لا يَرْجُونَ حِساباً﴾ ، فالذي لا يتوقع الجزاء فهو كالمنكر له في مقام العمل ، وإن كان معتقدا في مقام النظر .

موجب الاستقامة

إن من موجبات استقامة العبد في الحياة هي المراقبة المتصلة ، وهذه المراقبة لها رافدان :
الأول : هو تذكر يوم الجزاء ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ .
والثاني : هو اليقين بإحصاء الله تعالى لكل صغيرة وكبيرة ، وذلك في كتاب يُحصي ذلك كله ﴿كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً﴾ .
وبكلمة واحدة نقول : إن منشأ المراقبة هو تذّكر المبدأ والمعاد ، تذّكرا متغلغلا في شغاف النفس .

قوة التقريع

إن العتاب إذا صدر من صاحب الحق مباشرة ، كان أدعى للتألم الباطني عند المواجهة في المحاكمة ، وخاصة اذا اجتمعت القدرة مع الحق ، فالآية فيها التفات من الغَيبة إلى الخطاب ﴿فَذُوقُواْ﴾ وبذلك يكون أبلغ في التقريع والتوبيخ ؛ لأنه صادر من خالق جهنم ومسجّرها .

النفور المتضاعف

إن الطغاة في دار الدنيا كانوا يزدادون نفورا من دعاتهم عند تكرر الدعوة ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا﴾[٩] فصار الجزاء في جهنم مطابقا لحالتهم هذه ، فهم بعد الاستغاثة لا يزدادون إلا عذابا ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا﴾ فكما أنه لا أثر لدعوة الأنبياء لهم إلا زيادة النفور ، فكذلك لا أثر لدعائهم في النار إلا زيادة العذاب!
وقد ورد أن هذه الآية من أشدّ الآيات التي تصف حالة أهل النار ، فقد روي عن النّبي ‘ أنه قال : «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار»[١٠] .

[٩] . سورة الإسراء : الآية ٤١ .
[١٠] . تفسير الکشاف : ج٤ ص٦٩٠ .