Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰ ١ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ٢ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٣ إِنَّ سَعۡيَكُمۡ لَشَتَّىٰ ٤ فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ٥ وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ ٦ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡيُسۡرَىٰ ٧ وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ ٨ وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ ٩ فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ ١٠ وَمَا يُغۡنِي عَنۡهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ ١١
  • تلاوة الآيات ١ إلى ١١

سرّ التأكيد على الليل

إن ذِكر (الليل) تكرر في ثلاث سور متتالية وهي : سورة الشمس وسورة الليل وسورة الضحى بتعابير متشابهة ، فذكرت ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾[١] ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾[٢] وقد جاءت بقيد الغشيان في سورتين ، وحينئذ اختُلف في متعلق الغشيان بين مَن يقول :
إنه يغشى النهار ، مؤيدا بقوله تعالى ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾[٣] .
إنه يغشى الشمس ، لقوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها﴾[٤] .
إنه يغشى كل شيء يواريه الظلام ، لقوله تعالى ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ﴾[٥] .
ولعل السر في التأكيد على الليل ـ  داخلا في سياق القَسَم بهذه الوجوه المتكررة ـ هي الإشارة إلى عظمة الصنع ، إذ إن تعاقب الليل والنهار هو ثمرة تقليب أجرام عظيمة كالأرض والقمر ، أمام جِرم عظيم كالشمس .
والمقصود هنا هو الإلفات إلى اليد المقلّبة لهذه الأجرام ، وهو ما دعا إليه تعالى بقوله ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورا﴾[٦] وأثر هذا التعاقب هو تبدل طبيعة الزمان : حركة في النهار وسكونا في الليل ، ذلك السكون الذي هيّأ راحة للبشر تارة ، وفرصة للخلوة مع الله تعالى ، كما هو حاصل ساعة الأسحار إذ ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[٧] .

[١] . سورة الشمس : الآية ٤ .
[٢] . سورة الضحى : الآية ٢ .
[٣] . سورة الرعد : الآية ٣ ، سورة الأعراف : الآية ٥٤ .
[٤] . سورة الشمس : الآية ٤ .
[٥] . سورة الفلق : الآية ٣ .
[٦] . سورة الفرقان : الآية ٦٢ .
[٧] . سورة الذاريات : الآية ١٨ .

أنواع غشيان الظلام

احتار البعض في وجه الإتيان بالفعل المضارع المُسند إلى الليل في هذه الآية ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى﴾ وفي آية اُخرى ﴿وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها﴾[٨] والدال على الاستمرار ، والحال أن الفعل المُسند إلى النهار جاء بصيغة الماضي في كِلا الموردين أيضا ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾[٩] فقيل :
إن ذلك قد يكون إشارة إلى زمان البعثة ؛ حيث ظلمة الجاهلية مستمرة في حلكتها ، ولا يخفى ما فيه من التأويل .
إن الفعل الماضي بعد (إذا) الشرطية يفيد معنى المضارع ، وقيل : إن أصله (تتجلى) .
إن الأصل في الوجود هي حالة الليل ـ  وهو انعدام ما يحقق النهار من النور ـ فكأنها هي الحالة السارية المستمرة ويؤيده قوله تعالى ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾[١٠] وكأن الليل هو الأقوى ، وهو الذي يطلب النهار باحثا عنه بحثا حثيثا .
والدرس المستفاد من هذه الآية وأمثالها : أن القرآن يتعمد الإبهام في بعض الموارد ـ  رغم أنه كتاب مُيسَّر للذِكر ـ تحريكا للأفهام البشرية إلى درجة أوجب حيرة كبار العلماء المفسرين!

[٨] . سورة الشمس : الآية ٤ .
[٩] . سورة الشمس : الآية ٣ .
[١٠] . سورة الأعراف : الآية ٥٤ .

من الخلق إلى الخالق

بعد أن أقَسَم الله تعالى في هذه السورة بالليل والنهار ، أقَسَم بذات الباري ﴿وَمَا خَلَق﴾ بناء على أن المراد بالموصول ذاته المقدسة ، أو أن المراد به هي قوته الخالقة ، وكما هو الأمر کذلک في سورة الشمس والتي وردت فيها (ما) الموصولة للإشارة إلى الحقيقة نفسها ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾[١١]  . . فكان العطف بالقَسَم بالخالق ، على القَسَم بالمخلوق في أكثر من مورد ، للدلالة على أن التأمل في الخلق ، طريق موصل إلى خالقه .
ومن هنا تحقق الوعد الإلهي بإراءة آياته من خلال الآفاق والأنفس كما في قوله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾[١٢] وهو ما يعبر عنه في اصطلاح المنطق بالبرهان (الإنّي) .
ومن الواضح في أقسام هذه السورة ، أنه تمت فيها الإشارة إلى الآية الآفاقية المتمثلة بالليل والنهار ، والأنفسية المتمثلة بالنفس .

[١١] . سورة الشمس : الآية ٧ .
[١٢] . سورة فصلت : الآية ٥٣ .

الجمع بين الزوجين

عندما وصل القَسَم إلى الخالق ـ  بعد القَسَم بظاهرتي الليل والنهار ـ فإنه تعالى جعل الذكر والأنثى متعلقا لبديع خلقته ، وهذا الجعل سواء كان بمعنى : خلقة مطلق الأزواج في الوجود ، أو خصوص الزوجين من البشر ، أو خصوص الزوجين المعهودين وهما آدم وحواء ؛ فإن فيه إشارة إلى خلقة أصل الزوجين وهي من أعقد ظواهر الوجود من جهة :
التدبير الإلهي في الجمع بينهما بتخلل الغريزة تارة ، والأسباب التكوينية الاُخرى بما يذهل الألباب .
مراحل الخلق المذهلة ، إذ لا تناسب أبدا بين مادة الخلقة الأولى كالنطفة ، وبين ما يخرج أخيرا خلقا سويا!
وهكذا الذي قلناه يجري في كل أزواج الوجود ، من باقي أصناف الحيوان أو النبات .

ضياع جهد البعض

إن عمل بني آدم على وجه الأرض موصوف بأنه (سعي) وهو الذي يطلق على المشي السريع ، ولا يخفى ما في هذه الكلمة من إشعار ببذل الجهد الجهيد سواء في طريق الخير أم الشر ، ومن هنا تعددت الآيات التي تطلق تعبير السعي على عمل الإنسان في هذه الدنيا ، والموصوف أيضا بالتعدد والاختلاف في طبيعتها ، لقوله تعالى ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾  .
وهذه الآية هي مصب الأقسام الثلاثة في هذه السورة ، ويُشير إلى هذه الحقيقة أيضا قوله تعالى ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لّا يَسْتَوُونَ﴾[١٣] والتأمل في هاتين الحقيقتين أعني السعي البشري وتشتته ، يفيد أنه لا بُد للعاقل ـ  لعلمه أنه باذل جهداً شاء ذلك أم أبى ـ أن يجعل هذا الجهد في سياق رضا خالقه مصداقا لـ﴿أَعْطى‏ واتَّقى﴾ لا في سبيل سخطه ، مصداقا لـ﴿بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ وإلا صدق في حقه ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾[١٤] .
ومن المعلوم أن طرق الخير متعددة بعدد نفوس الخلق ، وكل ميسَّر لما خُلق له ، أوَ ليس مقتضى الحكمة بعد ذلك أن يجعل العاقل سعيه في أقرب الطرق الموصلة إليه ، وهو معنى (الصراط المستقيم) الذي يمثّل أقرب خط بين نقطتين؟!

[١٣] . سورة السجدة : الآية ١٨ .
[١٤] . سورة الغاشية : الآية ٣ .

القبول من المعطي المتقي

إن الإعطاء قد ذُكر في هذه الآية لمَن أعطى مطلقا ، ولكنها ملحوقة بالتقوى ، وعليه فإنه من الممكن تفسير الإعطاء أيضا بغير الإعطاء المالي ، كإعطاء النفس حقها في طاعة الله تعالى ، وهو تعبير وارد في العرف أيضا حيث يقال : فلان أعطى طاعته لفلان ، وإن حصرها البعض بالإعطاء المالي بقرينة ذكر المال والبخل به لاحقا .
ومن الملفت : إن الآية قرنت العطاء بالتقوى ، فإن الإعطاء المثمر هو ما كان في إطار التقوى ، ويؤيده قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[١٥] .

[١٥] . سورة المائدة : الآية ٢٧ .

الجمع بين الإيمان والإنفاق

إن هذه السورة تؤكد على حقيقة لا بُد من تحققها في عالم العمل ألا وهو الإعطاء المالي ﴿أَعْطى‏ وَاتَّقى﴾ أو الأعم ، كما تؤكد على حقيقة اُخرى لا بُد من تحققها في عالم الاعتقاد ، ألا وهو التصديق باليوم الآخِر المستفاد من قوله تعالى ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى﴾ المُفسَّرة بالعِدة الحسنى المنطبقة على يوم القيامة ، كما عُبِّر عنها أيضا في آية ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى﴾[١٦] و﴿وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى﴾[١٧] و﴿فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى﴾[١٨] .
ومن المعلوم أن هذا الاعتقاد ، مع الجري على مقتضاه من الإنفاق المالي وغيره ، لمن موجبات السعي المحمود ، في عالمٍ كان السعي فيه شتى!

[١٦] . سورة النساء : الآية ٩٥ ، سورة الحديد : الآية ١٠ .
[١٧] . سورة فصلت : الآية ٥٠ .
[١٨] . سورة الكهف : الآية ٨٨ .

قانونية التوفيق الإلهي

لا يخفى جريان قوانين عالم الأسباب في النشأتين ، وهذا لا ينافي أن يكون التوفيق الإلهي أيضا من ضمن هذه الأسباب ، والذي يتوقف على وجود أرضية مهيئة من العبد نفسه  . . وهذا التوفيق هو ما وعد به الحق المتعال عندما قال ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ فالتيسير هي التهيئة والإعداد ، وأما اليُسرى فمفسَّرة :
بالخصلة التي فيها يُسر من غير عُسر ؛ بمعنى التوفيق للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير .
بجعله مستعدا للحياة السعيدة عند ربه في الجنة ، بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها ؛ وهذا هو الأنسب إذا فسرنا الحسنى بالجنة .

التيسير الإلهي لأهله

إن حقيقة التيسير لليسر يلمسها كل مَن سلك طريق القرب من رب العالمين : فيرى الخير محببا إلى نفسه لقوله تعالى ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ﴾[١٩] عازما على فعله من دون تردد لقوله تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[٢٠] نافيا عنه كل خوف وحزن ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[٢١] إلى درجة نزول الملائكة المسددة ، كما وقع في معركة بدر ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾[٢٢]  .
وفي المقابل فإن أمور الخير مُعسَّرة على المكذب بالحسنى : فيرى ثقلا عند القيام إلى الصلاة ﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ﴾[٢٣] بل كسلا فيه ﴿وَإِذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾[٢٤]‏ ونفورا من الجهاد ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ﴾[٢٥] .
وعليه ، فلا ينبغي للمؤمن أن يعوّل على سعيه فحسب ، فالتيسير والتسديد الإلهي هي كلمة الفصل في هذا المجال وإن لم يلحظه العبد ، وخاصة مع الالتفات إلى أن الله تعالى جعل متعلق التيسير ذات العبد لا فعله ، فكانت الذات برمتها ميسّرة لكل خير ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ إلى درجة يصفها الإمام الباقر × قائلا : «لا يريد شيئا من الخير إلا يسّره الله له»[٢٦] .

[١٩] . سورة الحجرات : الآية ٧ .
[٢٠] . سورة إبراهيم : الآية ٢٧ .
[٢١] . سورة يونس : الآية ٦٢ .
[٢٢] . سورة آل عمران : الآية ١٢٥ .
[٢٣] . سورة البقرة : الآية ٤٥ .
[٢٤] . سورة النساء : الآية ١٤٢ .
[٢٥] . سورة التوبة : الآية ٣٨ .
[٢٦] . مجمع البيان : ج ١٠ ص٣٧٦ .

موجبات التيسير

إن هناك مناسبة واضحة بين ﴿مَنْ أَعْطى‏ وَاتَّقى﴾ وبين ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ إذا جعلنا التيسير بمعنى فتح طريق الخير للعبد ، وذلك لأن مَن يُيسِّر الأمر لعباد الله تعالى بالإنفاق عليهم ، فإن الجائزة المعجلة ستكون من جنس عمله في الدنيا ألا وهو التيسير الإلهي له أيضا من باب (ارحم تُرحم) .
ومن هنا تعددت الروايات الدالة على آثار الصدقة من : دفع ميتة السوء ، وإطالة العمر ، وتوسعة الأرزاق ، والمباركة في المال والولد ، إضافة إلى الجزاء الأخروي المعلوم .

من سمات الكافرين

إن من السِمات البارزة لأهل الباطل بعد التكذيب الاعتقادي هي : حب الدنيا ، وطلب الغنى فيها ، ثم البخل بجمع المال وادخاره .
وعليه ، فمَن كانت فيه هذه الخصلة ، فهو مشترك مع الكفار في سمة من أهم سماتهم وإن إدعی الإيمان ، فطبيعة الاعتقاد بالله واليوم الآخِر تقتضي الزهد في الدنيا ، وحب الإنفاق فيها طلبا للتيسير لليسرى .
ومن الملفت : أن الله تعالى يصف صاحب المال بوصف التردّي في طريق الهلاك ، أو في أطباق جهنم ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ وفي ذلك كمال التحقير فكانّ مثلَه كمَثل دابة تردّت من أعلى الجبل ، بل هو أضل منه كما في آية اُخرى!