Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ ١٦ وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ ١٧ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ ١٨ لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ ١٩ فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ ٢٠ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَ ٢١ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ ٢٢ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ ٢٣ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٢٤ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ ٢٥
  • تلاوة الآيات ١٦ إلى ٢٥

الاستنئناس بالطبيعة

إن القَسَم بالشيء وإن كان جمادا كالشفق ، والليل ، والقمر ؛ يعود إلى القَسَم بربها ، وذلك فيما لو تحققت النظرة إلى آيتيتها لعظمة الرب ؛ فلا داعي للجمود على مقولة أنه لا يصح القَسَم بغير الله تعالى ، فكل ما في الوجود منتسب إليه ، فالنظر إليه يعود في الحقيقة إلى النظر إلى مُوجده ، وهذا يفسّر أنس المؤمن أُنسا واعيا بالطبيعة ، كأنس المحب بهدايا محبوبه .

القسم بما هو مأنوس

إن طبيعة البشر قائمة على عدم الالتفات التفصيلي إلى ما حوله من آثار قدرة الله تعالى ورحمته ، ومن هنا جاءت الآيات الكثيرة التي تقسِم بما حولنا من الأمور التي ألفناها من دون التفات إلى حكمتها ، فمَن منا يلتفت إلى نعمة جامعية الليل للمتفرقات ولمّها للمنتشرات ، لعودة كل متحرك إلى سكنه ووكره ، مستعيدا أنفاسه لصباح جديد ، وهو ما يُستفاد من قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ﴾ .

اتساق القمر

إن الآية لم تقسِم بأصل القمر وإنما باتساقه ﴿إِذَا اتَّسَقَ﴾ أي بلوغه تمام الإضاءة ليلة البدر ، فكأن القمر إنما يصبح قابلا لأن يُقسَم عليه إذا بلغ كماله وهو تمام نوريته ، ومن المعلوم أن كمال كل شيء بحسبه .
وعليه نقول : بأن تمامية القمر ظرفا زمانيا للقَسَم به ، يحاكي تمامية خلقة آدم × حيث لم يأمر الله تعالى الملائكة بالسجود له ، إلا عندما نفخ فيه من روحه .

تبدل الحالات الإنسانية

إن هذه الآيات جاءت لتؤكد على هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية اللاحقة وهي ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ والتي اختُلف في معناها بوجوه عديدة ؛ من الإشارة إلى : حالات الإنسان في مجموع الدنيا ، أو حالاته في مجموع الدنيا والبرزخ والقيامة ، أو حالاته في مجموع عرصات القيامة .
والجامع بين كل الأقوال : هي سرعة التبدّل وكثرته في حياة الإنسان ، بما يدّل على أن هناك يدا خفية وراء كل ذلك وهي التي تقلّب هذه الأحوال ، فلا بُد من الالتجاء إليها لتحويل الحال إلى أحسن الحال!  . . أضف إلى أنها داعية للمرء لأن يكون حريصا على إيصال نفسه من خلال كل هذه التقلبات إلى كماله المنشود ، فلا يركن لما هو فيه فإن : «المغبون مَن تساوى يوماه»[١]!

[١] . معاني الأخبار : ص٣٤٢ .

الانتقال إلى اليسر

إن تبدّل الأحوال من العسر إلى اليسر ـ وهو من لوازم طبقية حياة الإنسان المستفادة من الآية ـ يبعث في قلب صاحبه الأمل ، فإن عدم ثبات المراحل هي في حد نفسها نعمة من هذه الجهة ، بل لو افترضنا أن العمر كله استغرق بالعسر ؛ لما كان ذلك مدعاة للتبرّم ، ما دام العبد ينتظر مرحلة البرزخ والقيامة ، والتي فيها كمال التعويض عن كل ضيق في هذه الدنيا .

السجود الانقيادي

إن للسجود مظهرا ماديا يتمثل في وضع المواضع السبعة على الأرض ، ومظهرا معنويا يتمثل في إظهار الانقياد له ، وقد يكون الأنسب لآية ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ هو المظهر الثاني ، إذ ليس المطلوب هو السجود عند كل آية من آيات الكتاب الكريم ، فالآيات الموجبة للسجود في القرآن الكريم محدودة ، بل المراد هو الانقياد لمضامينها في كل ما فيه أمر ونهي .
ومن هنا نقول عن الذي يسجد ببدنه دون انقياد قلبي : إنه لم يصل إلى حقيقة السجود الذي أُمرنا به .

موقفان متضادان

إن هناك فرقا جوهريا بين موقف أهل الإيمان قبال آيات الله تعالى ، وبين أهل الكفر والنفاق ، وذلك أن المؤمنين :
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[٢] والحال أن من يقابلهم ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ .
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾[٣] ومن يواجههم ﴿وَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾[٤] .

[٢] . سورة مريم : الآية ٥٨ .
[٣] . سورة الأنفال : الآية ٢ .
[٤] . سورة التوبة : الآية ١٢٥ .

عناد أهل الكفر

إن القرآن الكريم يؤكد في آيات كثيرة على أن إصرار الكافرين على كفرهم ـ  ولو في بعض حالاتهم ـ ليس ليقينهم بما هم فيه أو لقصور في بيان الوحي ؛ وإنما هو : لعنادهم ، أو اتباعهم لنهج آبائهم ، أو تغليبا لمصالحهم ؛ ومن هنا ورد التعبير بـ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ فالتكذيب جهد العاجز ، لا دليل المستبصر بيقينه .
وقد انتقلت الآيات من لحن الخطاب إلى لحن الغيبة ﴿فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ اعراضا عنهم ، وکأنّهم لا يستحقون الخطاب والمواجهة .

الاطلاع على البواطن

إن الله تعالى يُشير كثيرا في كتابه إلى حقيقة اطلاع الله تعالى على بواطن العباد ، فهو الذي يعلم ﴿مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾[٥] وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[٦] وهو الذي يعلم ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[٧] ويذكر في هذه الآية أنه ﴿أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ وفي كل ذلك دعوة لمراجعة الإنسان لخلجانات نفسه ، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى جوارحه ، فالقلب هو الوعاء الذي يصدر منه ما يفيض منه ، مصداقا لما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : «إنّ هذه القلوب أوعية ؛ فخيرها أوعاها»[٨]!
ومن المعلوم أن الوعاء المطلوب في عالم القلوب ، هو ما كان جامعا لكثرة الاستيعاب أولا ، وحسن ما يستوعبه ثانيا .

[٥] . سورة ق : الآية ١٦ .
[٦] . سورة طه : الآية ٧ .
[٧] . سورة غافر : الآية ١٩ .
[٨] . نهج البلاغة : ٤٩٥ .

خصوصيات البشارة

إن الله تعالى كما يُبشّر الكفار بالعذاب ـ  وفيه ما لا يخفى من التهكم والتوبيخ ؛ إذ البشارة إنما هي في مورد الأخبار السارة ـ كذلك فإنه يبشر المؤمنين : بالأجر الكريم ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[٩] والأجر العظيم ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[١٠] والأجر الكبير ﴿أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[١١] وأنه أجر ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾[١٢] فهو غير منقطع ، وليس فيه شائبة المنّة وهو ذكر ما يثقل على المأجور ، وهاتان الآفتان ـ  في أجور أهل الدنيا ـ ممّا يكثر وقوعه ، أي الانقطاع والمنّ .

[٩] . سورة الحديد : الآية ١١ .
[١٠] . سورة الإنسان : الآية ٧٤ .
[١١] . سورة هود : الآية ١١ .
[١٢] . سورة فصلت : الآية ٨ .

الفلاح الكامل

إن القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل ثنائي الإيمان والعمل الصالح ، حال كونه جمعا محلى بألف ولام التعريف ، وهو الذي يفيد العموم بأعلى صوره ، إذ إن من المعلوم أن الفلاح الكامل يتحقق بإتباع جميع الأوامر ، والإتيان بجميع الصالحات مقترنا بالإيمان ، إلى درجة يجعل القرآن الكريم الخشوع في الصلاة ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون﴾[١٣] وهو نفل غير فرض من مقومات هذا الفلاح ، ومن الواضح أن درجة هذا الفلاح تتناسب طردا مع درجة الإيمان والعمل الصالح .

[١٣] . سورة المؤمنون : الآية ٢ .