Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ ١٠ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِيرُ ١١ إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ١٢ إِنَّهُۥ هُوَ يُبۡدِئُ وَيُعِيدُ ١٣ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ ١٤ ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِيدُ ١٥ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ ١٦ هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلۡجُنُودِ ١٧ فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ ١٨ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكۡذِيبٖ ١٩ وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ ٢٠ بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٞ مَّجِيدٞ ٢١ فِي لَوۡحٖ مَّحۡفُوظِۭ ٢٢
  • تلاوة الآيات ١٠ إلى ٢٢

بطش الظالمين

بعد ذِكر الآيات الأولى ـ  من هذه السورة ـ لصورة من صور المواجهات القاسية ، بين المؤمنين وقتَلتِهم الذين بالغوا في القسوة وذلك بالقتل حرقا ، فإن الله تعالى في هذه الآيات يذكّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورتين أخريين من صور المواجهة مع المؤمنين تتمثل في بطش فرعون وثمود ، وذلك من خلال مظهرهم العسكري ﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ فاختار القران الكريم من بين مظاهر قدرتهم ، خصوص الجانب العسكري الذي يتجلى من خلال بطش جنودهم بالعباد ، ولكن الله تعالى أهلكهم بما لا يخطر بالبال ؛ متمثلا بالماء لقوم فرعون والهواء لقوم ثمود .
ومع ذلك فإن كفار قريش لم يعتبروا بذلك بل هم ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ فكأنّ الكذب كان ظرفا لهم ومحيطا بهم إحاطة الإناء لما فيه ، وهذا إشعار باليأس من إيمانهم كما كان الواقع مؤيدا لذلك .

الانتقام الإلهي بأشدّ الأشكال

إن الأقسام القرآنية هي للتأكيد على ما سيأتي بعدها من المُقْسَم عليه ، إلا أن القرآن الكريم يُبهم في بعض الموارد جواب القَسَم ؛ ليبحث المتأمّل بنفسه عن الجواب ، زيادة في سوقه إلى عالم التدبر والتأمل في كتاب الله تعالى .
ومنه ما جرى في هذه السورة : إذ إن جواب القَسَم غير صريح ولكن يدل عليه قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيق﴾ فكأن المُقْسَم عليه هو تحقق الانتقام الإلهي يوم القيامة بأشد صوره وبما يناسب الفعل تناسبا طرديا ، ومنه عذاب الحريق لأصحاب الأخدود ﴿وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيق﴾ أي بنار أوقدوا مثلها في الحياة الدنيا .

فتح باب التوبة

إن ذكر التوبة بما يشعر بالإغراء بها في قوله تعالى ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ وذلك ضمن آية واحدة ذَكر الله تعالى قبلها تعذيب الكفار للمؤمنين ﴿فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ ثم ذَكر بعدها صورة من صور التعذيب الإلهي لهم ﴿فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيق﴾ کل ذلک يعكس مدى الرحمة الإلهية بالعباد ، بعد أن فتح باب التوبة للعتاة من خلقه ، وكأنّ الآية تريد ردع كفار قريش عن غيّهم وتعدهم بالتوبة لو رفعوا اليد عن تعذيب النبي ‘ وأصحابه .
وحينئذ نقول : فكيف ييأس من رحمته تعالى ، من كانت له ذنوب لا ترقي إلى رتبة تعذيب المؤمنين وقتلهم؟!

العقوبات غير النار

إن ذِكر عذاب الحريق في قبال عذاب جهنم ؛ يدل على أن عذاب جهنم لا ينحصر في النار بل هناك :
المشروب الذي ﴿يَتَجَرَّعُهُ ولا يَكادُ يُسيغُهُ ويَأْتيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكان﴾[١] .
المطعوم المتمثل بـ ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الْأَثِيم﴾[٢] .
التعذيب النفسي حيث يقال لهم ﴿اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون﴾[٣] .
وغيرها من صور العذاب غير الإحراق ما يكفي لإفزاع العصاة ؛ فكيف إذا أضيف إلى مجموع ذلك عذاب الحريق الذي لا ينتهي بتفّحم أبدانهم ، بل تتبدل جلودهم كما في قوله تعالى ﴿كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ﴾[٤] وقد يكون المراد في قوله تعالى ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ بعد ذِكر البطش الشديد ، هي الإشارة إلى هذه الحالة من تبدّل الجلود ، فيبتدئ خلق جلد جديد ثم يعيده ، استمراراً للعذاب إلى أن يشاء الله تعالى .

[١] . سورة إبراهيم : الآية ١٧ .
[٢] . سورة الدخان : الآية ٤٣- ٤٤ .
[٣] . سورة المؤمنون : الآية ١٠٨ .
[٤] . سورة الإنسان : الآية ٥٦ .

بين الخوف والرجاء

تتجلى الحكمة الإلهية في القرآن بمرادفة النعيم للجحيم ، فالإنسان لا بُد أن يكون دائما بين الخوف والرجاء ، ومن هنا جاءت آية النعيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ بعد آية العذاب مباشرة للموازنة بين الترهيب والترغيب ، وهذه هي السياسة العامة التي يتبعها القران الكريم في تربية العباد ، وحقّ لنا أن نتأسى بها في سوقهم إلى الله تعالى .

الإيمان مغاير للإسلام

إن إطلاق الصالحات في آيات كثيرة ؛ مدعاة لعدم الوقوف على سنخ واحد من العمل الصالح كما يفعل البعض ، كما أن العمل الصالح لا يشفع لصاحبه إذا لم يكن مقترنا بالإيمان أيضأ  . . أضف إلى أن إطلاق الإيمان يقتضي الإيمان في كل الأمور التي يطلب فيها أن يكون المؤمن مؤمنا ، فلا يقبل إيمانُ من يؤمن ببعض ويكفر ببعض .
ومن المعلوم أن الإيمان معنى يغاير الإسلام كما هو واضح في آية ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[٥] فإذا لم يكن الإيمان المتجزئ مجزيا ، فكيف بالإسلام المتجزئ؟! .

[٥] . سورة الحجرات : الآية ١٤ .

البطش الإلهي

إن التعبير بالبطش ـ  وهو التعبير المناسب لمقابلة عمل الجبارين ـ هو الأخذ بحزم وصولة ، وهو ممّا يعطي رباطة الجأش لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن معه بمعنى أن صاحب البطش بالكافرين هو صاحب المودة لأوليائه المؤمنين ﴿الْوَدُودُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ﴾ لا يقف أمام إرادته شيء  . . ومن الممكن القول بارتباط هذا التعبير بما ورد في السورة من مضامين اُخرى : فهو صاحب البطش الشديد بأعدائه ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وصاحب الود والمغفرة لأوليائه ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ وصاحب المجد والغلبة في ذاته ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وصاحب العرش المشعر بحاكميته في الوجود ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ .
وهذه المضامين بمجموعها تؤكد على حقيقة أن الله تعالى ماض في حكمه : إرضاء للمؤمنين من ناحية ، وإرغاما للكافرين وإظهارا لعظمة ذاته من ناحية اُخرى  . . فكم الآيات محكمة في سبكها ، رائعة في الوعد والوعيد!

التقابل الملفت

إن على المتأمل رؤية المقابلة بين فعل الله تعالى ، وبين ما يصدر من أعدائه :
فهم الذين شهدوا قتل المؤمنين ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود﴾ والله تعالى ﴿عَلى ‏كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيد﴾ .
وهم الذين أوقدوا نارا ذات وقود لتعذيب الصالحين ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ والله تعالى هو صاحب ﴿عَذابُ الْحَرِيق﴾ .
وهم الذين انتقموا من المؤمنين في دار فانية ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾ والله تعالى سينتقم منهم ببطشه الشديد في دار الخلود ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد﴾ .
وهم الذين سجّل الله تعالى ذمّهم في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة ، ولكنه في المقابل يمدح عاقبة أوليائه بوعده لهم في أنه سيدخلهم جنات الخلود ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير﴾ .

النصرة الإلهية

إن الله تعالى ذكر أسماء جلاله وجماله وصفاته وذلک ، في سياق ذكر هذه الواقعة ، ولا يخفى ما في ذلك من المناسبة مع ما تصدّرت به السورة ، من ذِكر الذين تحدوا سلطان رب العالمين بتعذيب أوليائه فهو :
﴿الْعَزِيز﴾ الذي لا يغالبه شيء في هذا الوجود .
﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ عند الانتقام من قتلة المؤمنين ، بل لكل ما تقتضيه حكمته البالغة .
﴿الْحَمِيد﴾ الذي هو أهل لكل حمد ، والمستلزم لتكريم أوليائه بدلا من إيذائهم .
﴿الْمُلْك﴾ فما كان ينبغي أن ينازعه أحد في سلطانه ، ومنه قتل أوليائه .
﴿شَهِيدٌ﴾ فلا يغيب عنه ذرة في الأرض ولا في السماء ؛ فكيف يغيب عنه ما صدر من الجبارين في حق المؤمنين .
﴿الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ لعامة عباده ، ولخصوص الذين أوذوا في سبيله ، ومنهم أصحاب الأخدود .

الإحاطة الإلهية التامة

تكرر في القرآن الكريم معنى إحاطة الله تعالى بالأشياء والأشخاص والأفعال ، ومنه ما في هذه السورة ﴿وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ وما في سورة اُخرى ﴿أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ﴾[٦]  . . ومن المعلوم أن العبد لو استحضر هذه الحقيقة في كل تقلباته ، لوصل إلى مرحلة العصمة النازلة أو العدالة العالية ، فلا يصدر منه العصيان وهو مستشعر لهذا الحضور الإلهي .
فكما أنه لا يعقل أن يكشف المرء عن سوأته وهو يعلم بوجود ناظر محترم عنده ، فكذلك العبد المراقب لربه ، فإن المعصية لديه بمثابة كشف السوءة الباطنية عنده ؛ والتي حصلت ـ ولو بمعنی ترک الأولی ـ لأبينا آدم × ﴿فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنة﴾[٧] .

[٦] . سورة فصلت : الآية ٥٣ .
[٧] . سورة طه : الآية ١٢١ .