Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا ٣١ حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا ٣٢ وَكَوَاعِبَ أَتۡرَابٗا ٣٣ وَكَأۡسٗا دِهَاقٗا ٣٤ لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا كِذَّٰبٗا ٣٥ جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا ٣٦ رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلرَّحۡمَٰنِۖ لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٣٧ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا ٣٨
  • تلاوة الآيات ٣١ إلى ٣٨

تنويع الترغيب والترهيب

إن طريقة القرآن الكريم قائمة على التنويع بين الترغيب والترهيب ، فبعد ذِكر أنواع العذاب الأليم تنتقل الآية لذكر أنواع النعيم المقيم ، وهذا درس عملي للدعاة ـ دائما ـ في أنه لا بُد من الجمع بين الطريقتين لإثارة الحوافز الباطنية ، فغلبة الترهيب قد توجب اليأس ، كما أن غلبة الترغيب قد توجب التقاعس والأمن من مكر الله تعالى .

الجنّة المصغّرة

كما أن الحدائق تُمثل النعيم المادي في الجنة ، فكذلك السمو عن اللغو والكذب فيها يمثل النعيم المعنوي فيها.. وعليه ، فإن الحياة الدنيوية الخالية من اللغو والكذب ، واجدة لنوع من أنواع نعيم أهل الجنة ، وهذا لا يكون إلا في حياة الصالحين والصالحات في اُسرة إيمانية .

مراقبة المولى

إن طبيعة التنعم في الدنيا توجب الاسترسال في الحديث بين أهلها المترفين بما يجرّهم إلى اللغو ، ولكن أهل الجنة ـ  وهم في أعلى درجات النعيم ـ ملتزمون بمراقبة المولى المانعة لهم من الاسترسال في اللغو فهم ﴿لا يَسْمَعُونَ فيها لَغْواً﴾ ومن تكذيب بعضهم بعضا ﴿وَلا كِذَّاباً﴾ إذ لا تنازع بينهم ، حيث يقول تعالى ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾[١] .
ومن المعلوم أن كل صور اللغو والتكذيب مرتفعة في الجنة ، لمجيء اللغو نكرة في سياق النفي المفيد للعموم .

[١] . سورة الأعراف : الآية ٤٣ .

التعويض في الجنة

إن اختيار عدم التكذيب كنعيم من نِعم الجنة ﴿وَلا كِذَّاباً﴾ قد يكون من باب التعويض للمؤمنين الذين ابتلوا في دار الدنيا بتكذيب الكافرين ، ومن المعلوم أن هذا الأذى إنما أصابهم في سبيل الله تعالى ، فكأنّ الآية تشير إلى أن هذا الأذى البليغ مرتفع عنهم في جنة الخلد ، بعدما تعرضوا له في دار الدنيا ، فهذا التعويض كنوع من الثواب المطابق للعمل ، حيث تقتضيه حكمة المُثيب .

العطاء والحساب

إن الجزاء يوم القيامة جامع بين كونه بحساب أولا ، وكونه بعطاء ثانيا ، ولهذا جمعتهما الآية بقوله ﴿عَطاءً حِساباً﴾ فليس الأمر خارج دائرة الحساب الدقيق الذي هو سِمة الوجود ، وليس خارج دائرة العطاء التفضلي الذي هو سِمة الجود ، وإلا فأين سنوات الطاعة المحدودة وأين الجزاء الخالد؟!

موازين الحساب

إن حسابية الجزاء المستندة إلى الرب القدير ، تستلزم من العبد الدأب في طاعته ، للتلازم بين زيادة الطاعة وزيادة الأجر ، إلى ما لا حد له ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد﴾[٢] .
وعليه ، فلا ينبغي التواني والركون إلى مستوى من الطاعة اتكالا على كرم المولى ؛ لأن كرمه أيضا إنما هو بحساب ومتناسب طردا مع عمل العبد .

[٢] . سورة ق : الآية ٣٥ .

التقابل بين جزاءالفريقين

إننا لو تأملنا في جزاء المؤمنين والكافرين لرأينا تقابلا بين طرفي نقيض ، وهو يعكس مآل كل طائفة في ذلك اليوم :
فما يشربه المؤمنون كان ﴿شَرَابًا طَهُورًا﴾[٣] وللكافرين كان ﴿حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ .
وعاقبة المؤمنين كانت ﴿مَفَازًا﴾ بينما مآب الكافرين كان ﴿مِرْصَادًا﴾
وجزاء المؤمنين كان ﴿عَطَاء﴾ دالا على الفضل والتكرم ، وجزاء الكافرين كان ﴿وِفَاقًا﴾ مطابقا لجريرتهم في حياتهم الدنيا .

[٣] . سورة الإنسان : الآية ٢١ .

النبي في مقابل الوجود

إن الله تعالى نسب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نفسه في مقام الجزاء قائلا ﴿جَزاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ ثم عطف على ذلك السماوات والأرض قائلا ﴿رَبِّ السَّماواتِ والْأَرْضِ﴾ وكأن الوجود كله في كفة وحبيبه المصطفى ‘ في كفة اُخرى ، فکأنّ هذا البيان يشعر بأن الكون مخلوق لأجله ‘ والملحقين به من آله الكرام (عليهم السلام) .

يوم السكوت

إن الاصطفاف عادة سِمة المنضبطين في الأمور ، فالملائكة الذين لا يسبقونه بالقول منتظمون في أمورهم ، حيث يقومون يوم القيامة على نحو الاصطفاف ولا يتكلمون إلا عن إذن ﴿صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ﴾ والأصل في جميع الخلائق يوم الحشر هو السكوت ، بينما الكلام يحتاج إلى مَن يَأذن به .

أدب الحضور

إن محضر الربوبية هو محضر الأدب والالتفات ، فمن لا يقول الصواب لا يؤذن له بالكلام ، لأنه ساقط من عين مولاه!  . . وهذا المعنى وإن كان ظرف تحققه هو الآخرة ـ  كما في الآية ـ ولكن المؤمن ملتفت لهذه القاعدة في الحياة الدنيا ، فإذا تكلم بغير الصواب سقط من عين مولاه ، وهو أصعب ما يكون على العبد المراقب لربه .

الشفاعة الحقة

إن هذه الآية دالة على أن الشفاعة يوم القيامة إنما تتحقق بإذن الله تعالى ، فهو نوع من الخطاب الصواب الذي يؤذن لصدوره من الشفيع ، فالأمر يعود إلى الحكمة الإلهية القاضية بأن لا يتحقق في جانب القدس إلا ما كان حقا وصوابا  . . فقد روي أنّه حينما سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية ، قال : «نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صواباً»[٤] .

[٤] . الكافي : ج ١ص٤٣٥ .

الاستئذان للكلام

إن غاية فخر العبد أن يؤذن له بالكلام مع مولاه في الدنيا والآخرة ، وهذا متاح لكل من صار أهلا لذلك ، والطريق إلى ذلك :
أن يكون على صواب ﴿وَقالَ صَواباً﴾ ومن المعلوم أن من يريد أن يكون على صواب لا بُد له من معرفة الصواب ، ومن هنا نطلب الهداية منه ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾[٥] .
أن يهيئ نفسه للدخول في دائرة الجذب الإلهي ، ليكون مأذونا له في الخطاب ﴿مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ﴾ ولا يخفى ما في اختيار كلمة (الرحمن) من لطف ، فكأنها تشير إلى أن من موجبات هذه العناية ، امتلاك العبد لهذه الصفة أيضا .

[٥] . سورة الفاتحة : الآية ٦ .