Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ ١٥ إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى ١٦ ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ١٧ فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ ١٩ فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ٢٠ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ٢١ ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ٢٣ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٤ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ ٢٥ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰٓ ٢٦
  • تلاوة الآيات ١٥ إلى ٢٦

الإمداد الغيبي

إن من كان موردا للعناية الإلهية ـ  التي بها صار منادىً لمولاه ـ هو الأقدر على مواجهة طغاة الفراعنة ، فالأمر يحتاج إلى قوة في التأثير على باطن المقبلين تارة ، وعلى ظاهر المعرضين أي قوة عددهم وعدتهم تارة اُخرى ؛ وكلاهما لا يتسنى إلا بمدد من عالم الغيب   . . وقد أمدّ الله تعالى موسى (عليه السلام) بالقوّتين على ما بينه من قصصه في القرآن الكريم .

طهارة المصلى

إن الحديث مع جانب القدس الإلهي لا يكون إلا في أجواء القدس والطهارة ، ولهذا اختار الله تعالى الوادي المقدس للحديث مع كليمه المقدس (عليه السلام) وأمر خليله (عليه السلام) أن يطهّر بيته للطائفين ﴿طَهِّرَا﴾[١] ومنع المشركين أن يعمروا مساجد الله تعالى ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا﴾[٢] وأمرنا بأخذ الزينة عند كل مسجد ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[٣] .
ومن هنا أمكن أن يقال : إن مَن يريد أن يكون بيته محلا لمناجاة المولى ، فلا بُد أن يكون طاهرا (ظاهراً) من الخبث ، وطاهرا (باطناً) من حدث المعاصي والذنوب .

[١] . ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَ الْعاكِفينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ سورة البقرة : الآية ١٢٥ .
[٢] . ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ﴾ سورة التوبة : الآية ١٧ .
[٣] . ﴿يا بَني‏ آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ سورة الأعراف : الآية ٣١ .

رأس المشاكل

إن مَن يريد القضاء على الفساد الاجتماعي ، لا بُد وأن يعالجه بالقضاء على مناشئه ، وعلى رأس تلك المناشيء هو سلوك حكام الجور ؛ فالناس على دين ملوكهم[٤] ﴿إِنَّ الْمُلُوك إِذَا دَخَلُوا قَرْيَة أَفْسَدُوهَا﴾[٥] .
ومن هنا ، فإن الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) بمقارعة شخص فرعون في أول خطوة من خطواته الإصلاحية ﴿اذْهَبْ إلى ‏فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى﴾ .

[٤] . علل الشرائع : ج١ ص ١٤ .
[٥] . سورة النمل : الآية ٣٤ .

القيام بالواجب

إن طغيان المخاطب لا يمنع أبدا من القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك :
لإمكان تحقق التأثير عليه ولو بعد حين ، كانقلاب كبار العصاة عما كانوا عليه كسحرة فرعون .
أو من أجل إتمام الحجة عليه ، فتكون العقوبة أشد ، والانتقام أوجه!

المكر والقدرة

إن في الآيات الدالة على هلاك فرعون ، إشعارا بالقدرة الإلهية القابضة على مُلك الجبابرة ، وهذا بدوره يُعد سلوة للمؤمنين عندما يُبتلون بطواغيت عصورهم ، ممّن هم أقل سطوة من الفراعنة!   . . وفيها أيضا إثارة للرعب في قلوب الظالمين عندما يعلمون دقة مكر الله تعالى ،فيما لو أراد المكر بقوم كافرين .

لين القول في الدعوة

إن القرآن يعلّمنا الرفق والموعظة الحسنة في دعوة العباد إلى الله تعالى :
فهذا فرعون وهو من أقسى خلَق الله تعالى ، مدعو إلى التزكية بنحو التلطف في السؤال ﴿فَقُلْ هَل ْلَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى﴾ .
وبالقول اللين ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا﴾[٦] مع مَن كان يدّعي الربوبية العليا ، ومَن كان يذبح الرضع من الأبناء .
وهذا موسى (عليه السلام) نسب الرب إلى فرعون قائلا ﴿إِلى ‏رَبِّكَ﴾ إثارة لفطرته رغم أنه لم يعترف بإله موسى (عليه السلام) .

[٦] . سورة طه : الآية ٤٤ .

التغيير الداخلي

إن المطلوب من العبد إحداث تغيير في نفسه بمجاهدة من عنده ، وإلا فإن الله تعالى قادر على إحداث هذا التغيير من دون مجاهدة من عبده  إختياراً ، كما يحدث كل تغيير في عالم الوجود تکويناً   . . ولهذا نرى موسى (عليه السلام) يطلب من فرعون أن يتزكى بنفسه ﴿هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى﴾ ولم يقل : لأزكيك مثلا!

الكلمة المحورية

إن عبارة التزكية متكررة في دعوات الأنبياء (عليهم السلام) فهي إن كانت :
بمعنى النمو ؛ دلت على التكامل الإنساني ونموّه المتصل الذي يكون من خلال اتّباع رسالة الأنبياء .
بمعنى الطهارة والتنزه ؛ دلت على أن التخلص من شوائب النفس البشرية أيضا يكون من خلال ذلك .

طلب التزكية

لا بُد في مواجهة البعيدين عن طريق الهدى ، من ذِكر ما يحببهم إلى الطريق وينسجم مع فطرتهم ؛ بدلا من طلب التعبد بما يثقل عليهم!   . . ومن هنا لم يدعُ موسى (عليه السلام) فرعون للتعبد بأحكام شريعته ، وإنما طلب منه التزكية التي لا يختلف عليها أحد ممن له فطرة غير ممسوخة ، وهي مطلوبة حتى لمن لم يتديّن بدين أصلاً .

الشدة واللين

إن رسالة الأنبياء متمثلة في هداية مَن يمكن هدايته تارة ، وبمواجهة مَن يستنكف عن قبول الهداية تارة اُخرى ، وهذا ما كان متجليا في حياة إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وهو معنى عدم انفكاك الدين عن سياسة العباد .
وآيات القرآن الكريم مليئة بالشواهد الدالة على هذين الأمرين ، أعني إرسال الرسل لهداية الخلق كافة ﴿وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً ونَذير﴾[٧] ومقاتلة مَن يقف بوجه الهدى الإلهي كافة أيضا ﴿قاتِلُوا الْمُشْرِكينَ كَافَّة كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّة﴾[٨] .

[٧] . سورة سبأ : الآية ٢٨ .
[٨] . سورة التوبة : الآية ٣٦ .

خشية الداعي

إن هناك ارتباطاً ـ  في منطق القرآن الكريم ـ بين الهداية ﴿أَهْدِيَك﴾ والتزكية ﴿تَزَكَّى﴾ والخشية ﴿فَتَخْشى﴾ إذ ليس الإيمان منحصرا بالعبادات الجوارحية التي قد لا تلازم هذه الأمور .
ومن هنا أيضا يُعلم أن مَن يريد هداية الخلق ، لا بُد وأن يكون واصلا إلى هذه المقامات و واجدا لها ، وإلا فإن فاقد الخشية والتزكية لا يؤثر في غيره!

علو الهمة للجميع

إن الله تعالى طلب من موسى (عليه السلام) أن يرفع من سقف الطلب لفرعون الذي ادّعى الربوبية ، فجعل المطلوب منه بعض الأمور التي قد لا يرى البعض أنه مكلف بها ، من قبيل التزكية والخشية   . . فلِمَ نرى البعض يُعفي نفسه من هذه المقامات ، وهو على درجة مقبولة من الإيمان؟!  . .

حصيلة العلم والخشية

إنه من الممكن القول بأن مراحل التأثر بمواعظ الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) تتمثل بالتعلم أولا ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[٩] ثم الخشية ثانيا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[١٠] وثمرتهما الخوف من الله تعالى والانزجار عن نواهيه ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم﴾[١١] إذ إن التفاعل الباطني مترتّب على وجود أرضية الخشية ، ولهذا جعلت الآية العِبرة مترتبة على الخشية ﴿لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾[١٢] .

[٩] . سورة البقرة : الآية ١٢٩ .
[١٠] . سورة فاطر : الآية ٢٨ .
[١١] . سورة فاطر : الآية ١٨ .
[١٢] . سورة النازعات : الآية ٢٦ .

مراحل التهذيب

إن التزكية تتم على مرحلتين :
فمنها (التزكية الإجمالية) المتمثلة في التخلص من الذنوب ، ثم تلقي الهداية الإجمالية .
ثم (التزكية التفصيلية) الملازمة للخشية ، ومن بعدها يصبح العبد مؤهلا للهداية الخاصة التفصيلية .
وقد ذكرت الآية التزكية أولا ، ثم الهداية ، ثم الخشية ﴿تَزَكَّى﴾ و﴿أَهْدِيَكَ﴾ و﴿فَتَخْشَى﴾ .

تقدم الباطن على الظاهر

إن العمل على البعد الأنفسي مقدم على العمل الآفاقي الخارجي ، فموسى (عليه السلام) :
عمل على الفتح العاطفي والفكري في عالم الأنفس ، مستعينا بلين القول ، والدعوة إلى التزكية والخشية على نحو العرض والاقتراح ، لا على نحو الزجر والأمر .
أراه الآيات الكبرى في عالم الآفاق من العصا واليد البيضاء وغيرها ، إتماما للحجة أو تأكيدا لها .
ومن المعلوم أن باب المعجزة لا ينفتح إلا نادرا ، بخلاف باب التأثير الباطني ؛ فهو مفتوح دائما لمَن أراد أن يعمل عليه ، مستعينا بسنن الأنبياء .

مسؤولية الخواص

إن وظيفة مَن أقبل الله تعالى عليه ـ  وخصّه بالألطاف الخاصة ـ تتمثل في استثمار ذلك لهداية الخلق ومقارعة الطواغيت ؛ بدلا من الاستئناس بالحظوظ الأنفسية كما ذهب إليه أهل الرهبانية   . . فأول عمل للأنبياء (عليهم السلام) بعد البعثة ، هو إرشاد الضالين ومواجهة المغضوب عليهم ، وهو ما نراه جليا أيضا في حياة النبي الخاتم ‘ .

القوة المناسبة للخصم

إن الله تعالى يمدّ أنبياءه بما يوجب قوة جانبهم متناسبا مع قوة خصومهم ، ومن هنا أمدّ موسى (عليه السلام) بآيات عديدة ، منها ما في هذه السورة ﴿فَأَرَاهُ الآية الْكُبْرَى﴾ وذلك لقوة خصمه الذي ادّعى الربوبية ، بل الربوبية العليا بقوله ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ إضافة إلى بلوغ حضارته الأوج في العمران وغيره بشهادة أهرامات مصر ، وفي هذا قوة لقلوب كل الدعاة إلى الله تعالى وفي كل العصور!  . . إذ إن قوة ما يأتيهم من المدد متناسبة مع قوة الأعداء ، فلا خوف عليهم من هذه الناحية ولا هم يحزنون .

عناد المنحرفين

إن المنحرفين عن طريق الهدى لا يتورعون عن أي باطل ـ  ولو كان واضح البطلان عندهم ـ ومن هنا تشبّث فرعون بتكذيب أصدق الناس في زمانه وهو موسى (عليه السلام) ﴿فَكَذَّبَ﴾ رغم الآيات البينات ، والتي منها إبطال السحر الذي اعترف به السحرة أنفسهم[١٣] .

[١٣] . سورة الأعراف : الآية ١١٩-١٢٠ .

سعي الكافرين

إن أهل الباطل جادون في باطلهم بل هم مجتهدون فيه ، فهذا فرعون ﴿أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ إذ لا يخلو السعي من جِد واجتهاد ، فالمؤمنون أولى بالسعي في طلب حقهم  . . ومن هنا حق لأمير المؤمنين (عليه السلام) أن يشكو قومه قائلا : «فيا عجبا!  . . والله يميت القلب ، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ؛ فقبحا لكم وترحا»[١٤]!
والقران الكريم يشير في آية اُخرى إلى أن ما يصيب المؤمنين من الأذى في سبيله يصيب الكفار أيضا ، بفارق البون الشاسع بما لا يقاس في عاقبة الفريقين ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾[١٥] .

[١٤] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٧ .
[١٥] . سورة النساء : الآية ١٠٤ .

استجماع أدوات الكفر

إن الطغاة يستغلّون في كل العصور أدوات الإعلام الجماعي ، وقد كانت لفرعون القدرة على جمع الناس وإعلامهم بما يريد ، كما يفيده قوله تعالى ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ وقوله ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾[١٦] ومن هنا يُعرف أيضا أن مقارعة مَن هكذا صفته ، إنما تكون بأدوات مشابهة ؛ أي قوة الإعلام لجمع الأنصار والأعوان في طريق الهدى .

[١٦] . سورة الشعراء : الآية ٥٣ .

تنوع العقوبات الإلهية

إن لله تعالى نوعين من العقوبة : فهناك عقوبة مؤخرة ليوم تشخص فيه الأبصار[١٧] ، وهناك عقوبة اُخرى معجّلة!  . . فالبعض يريه الله تعالى الخزي في الدنيا قبل الآخرة وهذا ما جرى لآل فرعون ؛ فأما عذاب الدنيا ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾[١٨] وفي الآخرة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[١٩] ويجمعهما قوله تعالى ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾ .
ومن الممكن القول : إن مَن ينازع الله تعالى في سلطانه يُعجّل في عقوبته ، خلافا للعاصي الذي لا يرى في نفسه حالة تحدّ لربه ، بل يرى في باطنه ذلة لما اقترفه .

[١٧] . ﴿إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصارُ﴾ سورة إبراهيم : الآية ٤٢ .
[١٨] . سورة الأعراف : الآية ٣٦ .
[١٩] . سورة غافر : الآية ٤٦ .

العقل المنقاد

إن القران الكريم لم يسرد قصص الأنبياء (عليهم السلام) من أجل التسلية على نحو استماع الحكايات ، أوصبّها في قوالب فنية مجردة ، وإنما هي للاعتبار واستلهام الدروس ، وذلك لا يكون إلا لمَن له أرضية الخشية من ربه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمـَن يَخْشَى﴾ فالعقل المستفيد إنما هو مقترن مع القلب المستلهِم الخاشع ، لما يراه من الأحداث والأشخاص والأشياء .