Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ ١ أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ ٢ وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ ٣ تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ ٤ فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ ٥

في حكم المحسوس

إن التعبير بـ ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ بدلا من (ألم تعلم) للدلالة على وضوح الأمر إلى درجة وكأنّه يُرى بالحواس الظاهرة ، ومن المعلوم أن واقعة الفيل زامنت ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنها ـ  لتحقق وقوعها ـ صح أن يُستفهم عنه وكأنه عاصرها ورآها بعينه!
وهذا التعبير يناسب غرابة هذا الحدث ، وسنخ عقوبة أصحابه بما لم يمرّ نظيره في التاريخ ، فلزم مثل هذا الاستفهام التقريري وهو ما ورد في القرآن الكريم تارة بالنسبة للمحسوسات الواضحة عند البشر ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء﴾[١] وتارة للأمور الخافية عنهم كقوله تعالى ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْض﴾[٢]  . . والمطلوب عموما هو أن يصل العبد إلى درجة انكشاف الحقائق الغيبية له ، كانكشاف الحقائق الشهودية لديه .

[١] . سورة الحج : الآية ٦٣ .
[٢] . سورة الحج : الآية ١٨ .

التأمّل في قصص الماضين

إن الله تعالى في قوله ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ﴾ يطلب من المخاطب أن يتأمّل في كيفية الفعل لا في أصل صدوره ؛ فإن النظرة البلهاء لما جرى من إهلاك أصحاب الفيل لا تستتبع في حد نفسها تأثرا واعتبارا ، حيث إن الناظر غير الناطق يشترك مع الناطق في أصل رؤية الأفعال ، ولكن المطلوب من ذوي الألباب هو التحليل والتجزيء ، وتسرية الحكمة فيما جرى إلى ما سيأتي ، وهو الهدف الأساس من نقل قصص الغابرين كما في قوله تعالى ﴿قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبين﴾[٣] فجاء الأمر بالسير أولا ، ثم النظر ثانيا ، ثم الاعتبار بكيفية العواقب ثالثا .

[٣] . سورة الأنعام : الآية ١١ .

تثبيت الفؤاد

ورد التعبير بالرب مسندا إلى المخاطبين من الأنبياء وغيرهم في القرآن الكريم في أكثر من مئتي مورد ، مع إنه تعالى منسوب إلى الوجود برمّته وهو الأوفق بمقام الربوبية ، فإن النسبة إلى الكل أوجه من النسبة إلى الجزء ، ولا يُعدل عن ذلك إلا لوجه وجيه ، ومنها ما في مثل هذه السورة ، فإن المقام فيها ذِكر لعظمة الرب المنتقم من أعدائه بما لا يخطر على بال أحد ، فكانت نسبة الرب بهذه الصفة القاهرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من موجبات تثبيّت فؤاده ومن معه من المؤمنين .
ولا يخفى ما فيه من الدلال أيضاً ؛ لأن توجيه الخطاب من بين كل الموجودات إلى نفسه الشريفة ، فيه من اللطف والعزة ما يزيل عنه كل هموم الدعوة إلى الله تعالى .

مسانخة البشر للفيل

إن كلمة الصاحب تُطلق عادة في موارد التجانس في الخلقة ؛ كالإنسان مع بني جنسه : سواء اتفق معه في ملّته ﴿فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى‏ فَعَقَر﴾[٤] أو كان مجانبا له في ذلك ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهُوَ يُحاوِرُه﴾[٥] ولكن إطلاق الصحبة على غير العاقل في علاقته بالإنسان ﴿بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾ لا تصحّ إلا للدلالة على معنى بليغ وهو المراد في هذه السورة : حيث إن راكب الفيل لطغيانه ، صار كمثل ذلك الحيوان في بطشه ، بفارق أن الأول أراد هدم البيت عن قصد وعمد ، والثاني أراد ذلك بمقتضى خلقته التي خلقها الله تعالى عليه وذلّلها لعباده ، وإن قيل : إنها أبت هدم البيت .

[٤] . سورة القمر : الآية ٢٩ .
[٥] . سورة الكهف : الآية ٣٧ .

الاعتماد الزائف

إن التعبير بـ ﴿بِأَصْحابِ الْفِيلِ﴾ يُشعر بأن معتمد هؤلاء الطغاة على أسبابهم المادية ، ومنها اصطحابهم للفيلة الجامعة بين القوة والهيبة ؛ فكان ركونهم إليها مصححا لإطلاق أنهم أصحابها .
والحال بأن معتمد المؤمنين في سرّائهم وضرّائهم على العزيز المقتدر ، وهو مفاد قوله تعالى ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذينَ آمَنُوا وأَنَّ الْكافِرينَ لا مَوْلى‏ لَهُم﴾[٦] وشتان بين مولى حقيقي يدافع عن أوليائه ، وبين من لا مولى له ، أو له مولى لا مولوية له!

[٦] . سورة محمد : الآية ١١ .

حيلة أصحاب الفيل

إن التعبير عن فعل الكفار بالكيد ـ  كما ورد بالنسبة إلى أبرهة وجنوده ـ يُشعر بحالة من الخبث الباطني ؛ لأن الكيد هي المواجهة بحيلة وغدر ، خلافا للمواجهة العلنية في الميدان ، وبهذا كان قبح الفعل فيه أشنع!
ومنه يُعلم أن الأمر لم ينحصر في هدم البيت ، بل كان لهم من خبث النوايا ما لا يعلمه إلا الله تعالى ومنها : ما عُلم من أنهم أرادوا تحويل زائري البيت الحرام إلى كعبة مضاهية له ، بناها أبرهة في اليمن .

“الضالّ” ، “الضلالة” ، “التضليل”

إن مكر الكفار ليس بالأمر الهيّن حيث يصفه القرآن الكريم قائلا ﴿وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبال﴾[٧] وهو لشدّته ممّا قد يوقع الوهن والخوف في نفوس المؤمنين ، فكان لا بُد من ذِكر ما يُزيل هذا الوهن كقوله تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾[٨] و﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[٩] و﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُم﴾[١٠] و﴿قَدْ مَكَرَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِد﴾[١١] و﴿وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾[١٢] ومنها ما في هذه السورة : من أن مكرهم في تضليل أي في ضياع لا يصل إلى هدفه ، فلا تجري الأمور على وفق مرادهم رغم دقة مكرهم ، كما أن دعاءهم في نار جهنم أيضا لا يصل إلى هدف الإجابة لقوله تعالى ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ﴾[١٣] .
والملفت هنا : إن الضلال نُسب إلى فعلهم ، وقد ورد التعبير نفسه بالنسبة إلى ذواتهم وذلك في قوله تعالى ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾[١٤] فالضال لا يترشّح منه إلا الضلال : في الفعل والقول ، وفي الحال والمآل معا .

[٧] . سورة إبراهيم : الآية ٤٦ .
[٨] . سورة الفجر : الآية ١٤ .
[٩] . سورة الحج : الآية ٣٨ .
[١٠] . سورة محمد : الآية ٧ .
[١١] . سورة النحل : الآية ٢٦ .
[١٢] . سورة فاطر : الآية ١٠ .
[١٣] . سورة الرعد : الآية ١٤ .
[١٤] . سورة الفاتحة : الآية ٧ .

التفريق بين الأصيل والوكيل

لقد جمع القرآن الكريم في هذه السورة بين تعبيرين تنحلّ بهما عقدة نسبة الأفعال إلى غير الله تعالى في جنب نسبته إليه ، وذلك بالتفريق بين الأصيل والوكيل ، إذ إن الله تعالى يسند ـ  في أول السورة ـ الفعل إلى نفسه قائلا ﴿وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ﴾ ثم يردفه بالقول ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ فيسند الفعل إلى الطير ، ومن المعلوم أنه لا منافاة بين التعبيرين لعدم المنافاة بين الوكيل والأصيل ، وهذه القاعدة تسري في كل الموارد التي يحقّق فيها العبد فعلا بإذن الله تعالى ، ومنها قوله تعالى ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾[١٥] والذي يجتمع مع قوله تعالى ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[١٦] بل إن الأمر أصرح في قوله تعالى ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾[١٧] فصار التصريح بنفي أثر الفعل أصالة من الرامي وإن صدر منه الفعل ظاهراً .
ومن مجموع ما ذُكر : ترتفع الغرابة فيما يصدر من عباد الله الصالحين من غرائب الأمور ، فإنها بمنزلة ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ بعد ﴿وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ﴾ .

[١٥] . سورة الزمر : الآية ٤٢ .
[١٦] . سورة السجدة : الآية ١١ .
[١٧] . سورة الأنفال : الآية ١٧ .

المواجهة الحاسمة

إن هناك مقابلة طريفة بين الفيل والطير الأبابيل ـ  وهي الجماعات المتفرّقة من ذلك الطير المهاجم ـ فصارت المقابلة بين طائر صغير وبين أكبر الحيوانات السائرة ، فلم يشفع لها كبَر حجمها ولا ما عليها من الجنود المجنّدة ، ما دامت المشيئة الإلهية استقرت على الإهلاك .
وفي هذا أيضا درس في جميع المواجهات بين المؤمنين وغيرهم طوال التاريخ ، فلا ينبغي الاعتداد بعددهم وعدتهم إذا أراد الله تعالى إهلاكهم بأبسط الأسباب : كالريح ، والصاعقة ، والطير .

تأجيل عذاب قريش

إن قريشا كانت عاكفة على عبادة الأصنام منذ زمن بعيد ، وهذا الموقف الاعتقادي ليس بأقل من الموقف الخارجي من إرادة هدم البيت ، ومع ذلك لم ينزل عليهم مثل هذا العذاب ، ولعل الفارق في الأمر هو تحدّي أصحاب الفيل لصاحب البيت لا عن جهل وقصور ، أضف إلى أن الأمر تعدّى إلى حقوق المخلوقين أيضا ولو كان فيهم من العصاة ، وذلك لأنهم کانوا في حمى الأمن الإلهي فكانت لهم حصانة بذلك ، فكيف وفيهم من العباد الصالحين كعبد المطلب الذي فوّض أمر البيت لحاميه قائلا :
لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْنَعُ رَحلَهُ فَامنَعْ حَلاَلَكْ
لا يغلِبَنَّ صَلُيبُهُم وَمُحَالُهُمْ عَدْواً مْحَالَكْ

طيور من عالم الغيب

إن الرمية المُهلكة التي قامت بها الطير لم تكن بالأمر الهيّن البسيط ، فمن أين جاءت بالسجيل؟!  . . وكيف سدّدت رميتها بما جعلتهم كالعصف المأكول؟!  . . ومن أين خرجت هذه الأسراب ، وإلى أين عادت؟!
ومن مجموع هذه التساؤلات نعلم أن هناك شعورا والتفاتا بإلهام من الله تعالى لهذه الموجودات ، شأنها في ذلك شأن باقي الطيور التي وصفها الله تعالى قائلا في كتابه الكريم ﴿أَ لَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في‏ جَوِّ السَّماء﴾[١٨] وكم من القبيح بعدها أن يكون الطير مسخرا لله تعالى ، دون ابن آدم الذي يتمرد على ربه متحديا له!

[١٨] . سورة النحل : الآية ٧٩ .

الحرب النفسية

إن الهجوم على البيت وهدمه لم يتوقف على جلب الفيلة إلى أرض مكة ، إذ كانت تغنيهم إغارة الخيول ثم الهدم بالمعاول مثلا ، ولكن القوم أرادوا إدخال الرعب في قلوب أهل مكة بحيوان لم يألفوه من قبل ألا وهي الفيلة ، وهذا يدخل في سياق الحرب النفسية المعهودة في الحروب  . . ولكن الله تعالى أهلك جند الكافرين مع ما كان لهم من قوى غير مألوفة لإرعاب أهل مكة ، ولهذا لا ينبغي الاعتداد بما هم عليه من القوة ما دام الاعتقاد قائما على أن ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا﴾[١٩] .

[١٩] . سورة البقرة : الآية ١٦٥ .

تناسب الانتقام مع الجريمة

إن الانتقام الإلهي في الدنيا متناسب مع عظمة الجريمة ، حيث ينوّع الله تعالى أنواع العقاب في قوله تعالى ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ومِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ومِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[٢٠] وكان حاصل العذاب أن الأبدان المُعذبة في تاريخ الأمم السالفة كانت تأخذ أشكالا مختلفة : فمنها ما كانت كالنخلة المقتلعة من الأرض كما يقول تعالى ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَة﴾[٢١] ومنها من مات أصحابها في داره بلا حراك ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِين﴾[٢٢] .
ولكن عندما يصل الحديث إلى أصحاب الفيل ، فإنه تعالى يذكُرهم بوصف لا نظير له أي ﴿كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ وهو قشر الزرع الذي تعصف به الرياح بعدما أُكل حبه أو أكلته الدودة ، فلا تبقى له باقيه وهذا خلافا لمن مات جاثما في داره .
ولعل السر في هذه العقوبة النادرة ـ حين نزول العذاب وبعد العذاب ـ هو ما كان عليه جيش أبرهة من التحدّي لقدسية بيته الحرام ، فأزال الله تعالى وجودهم كما حاولوا هم إزالة رمز توحيده في الأرض .

[٢٠] . سورة العنكبوت : الآية ٤٠ .
[٢١] . سورة الحاقة : الآية ٧ .
[٢٢] . سورة الأعراف : الآية ٧٨ .