Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ ١ رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا مُّطَهَّرَةٗ ٢ فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞ ٣ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ ٤ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ ٥
  • تلاوة الآيات ١ إلى ٥

توبيخ أهل الكتاب

إن كلمة ﴿مِنْ﴾ في قوله تعالى ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ إنْ كانت بمعنى :
التبيين : أي تبيين جماعة الكافرين ؛ فإن الآية تكون ناظرة إلى حالهم قبل الدعوة ، فهم جميعا كفار سواء كانوا ممّن قبِلوا كتابا سماويا ظاهرا حال كونه محرفا واقعا ، أو لم يقبلوا بكتاب أصلا كعبّاد الأوثان .
التبعيض : فإنها تكون ناظرة إلى حالهم بعد الدعوة ، فالآية موبخة لذلك القِسم الذي بقي على كفره وضلاله .

الفرق بين الفريقين

اختلف التعبير عمن أُنزل إليهم الكتاب ، فعُبّر عنهم بـ ﴿أَهْلِ الْكِتابِ﴾ تارة ، وبـ ﴿أُوتُوا الْكِتابَ﴾ تارة اُخرى ، وعندئذ يقال في الفرق بين التعبيرين :
بأن المراد من أهل الكتاب هم أتباع الديانات السماوية المعهودة ، ومن هنا عطفهم على المشركين وهم عباد الأوثان .
وأن المراد بـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ مَنْ أُنزل إليهم الكتاب بمعنى : توجّه الخطاب إليهم كما في قوله تعالى ﴿كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُم﴾[١] فالحديث فيها إنما هو عن عامة الناس الذين أُرسل إليهم الرسل .
ولكن النتيجة عند عدم تقبّل الهدى الإلهي كانت واحدة ألا وهو التفرّق عن الهدى ، سواء كان هذا التفرق في ضمن ديانة سماوية واحدة كما في قوله تعالى ﴿وَ لَمَّا جاءَ عِيسى‏ بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ولِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾[٢] أو لم يكن في ضمن ديانة واحدة كما في قوله تعالى ﴿وَ لَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ومِنْهُمْ مَنْ كَفَر﴾[٣] .

[١] . سورة البقرة : الآية ٢١٣ .
[٢] . سورة الزخرف : الآية ٦٣-٦٥ .
[٣] . سورة البقرة : الآية ٢٥٣ .

أصعب الآيات

إن من الموارد التي كثُر فيها الاختلاف بين المفسرين ، هي الآية الأولى من هذه السورة إلى درجة قيل : إنها من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا! ومن هنا لزم للمتأمل في القرآن الكريم ، أن يكون واجدا لدرجة من الفطنة والتسديد لحل مشكلاتها .
وليعلم أن كلمة ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ هي التي أثارت هذا الغموض ، وذلك لعدم ذِكر متعلقها أولا ، ثم لو جعلنا متعلقها هو (الكفر) كما يظهر ، فمعنى الآية : أنهم سينفكون عن كفرهم بعد مجيء البينات ، والحال أنهم بقوا على كفرهم بعدها ، بل ازدادوا عنادا ومواجهة للرسالة كما قال تعالى في آية لاحقة ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ فقيل في الجواب عن ذلك وجهان :
الأول : إن المراد منها عدم الانفكاك عن القاعدة العامة السارية في الأمم ، والتي يبينها قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾[٤] و﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[٥] وتفسير البينة بإرسال الرسول المشار إليه في الآية اللاحقة يتم في هذا السياق ، إذ كانت الحجة تامة عليهم بإرسال ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ ولكنهم بعد إتمام هذه الحجة تفرّقوا بعدها بين منكر ومعترف ، ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ﴾[٦] .
الثاني : إنهم كانوا يدّعون عدم انفكاكهم عما كانوا عليه ، إلا إذا جاءتهم البيّنة الصارفة لهم عمّا هم فيه ، ولكن بعد مجيء البيّنة تفرّقوا عن الإيمان الموعود به ، وبعبارة اُخرى : بعد تحقق واقع ﴿جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ وبعد أن علّقوا الإيمان بمجيئها ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ لم يلتزموا بإتباع هذه البيّنة بل تفرّقوا عنها .

[٤] . سورة التوبة : الآية ١١٥ .
[٥] . سورة الإسراء : الآية ١٥ .
[٦] . سورة البقرة : الآية ٨٩ .

سمتان واضحتان للنبي

إن الحديث عندما يكون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه حديث عمّن يحمل صفتين :
الأولى : وهي أنه صاحب ﴿الْبَيِّنَة﴾ الواضحة ، وهي ملازمة للحجة المنجّزة ، فصارت كل أقواله وأفعاله واقعة في هذا السياق .
الثانية : أنه يتلو ﴿صُحُفاً مُطَهَّرَةً﴾ والتي لا يصل إليها الباطل من تحريف البشر ومس الشياطين ، والمشتملة على التعاليم المكتوبة على العباد مثل قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾[٧] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾[٨] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾[٩] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾[١٠] والتي تقوم بمصالحهم خير قيام بتمامه وكماله ـ  كما تفيده تاء المبالغة في كلمة القيّمة ـ قيام القيّم بأمر اليتامى .

[٧] . سورة البقرة : الآية ١٨٣ .
[٨] . سورة البقرة : الآية ٢١٦ .
[٩] . سورة البقرة : الآية ١٨٠ .
[١٠] . سورة البقرة : الآية ١٧٨ .

تعبير لغرض الإدانة

إن الآية عدَلت عن تسمية أهل الكتاب باليهود والنصارى وإنما ذكرتهم بقيد إيتاء الكتاب ، ليكون ذلك مزيدا من الإدانة لهم ، فلا عذر لهم بعدما تمت عليهم الحجة من خلال كتبهم السماوية غير المحرفة ، والتي من ضمنها البشارة بنبي آخر الزمان ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[١١] .
وينبغي الالتفات إلى عظمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتجلية من خلال هذه الآيات ، إذ يستفاد منها أن مَن لم يؤمن به (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في عداد مَن لم يؤمن بالله تعالى أصلا أو جعل له شريكا ؛ فمصيرهم جميعا إلى النار ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ﴾ .
وهذا هو السر أيضا في عدم ذِكر الاسم الصريح للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل ذُكر بوصف الرسالة ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ﴾ فهذا تعظيم له ، كما كان قيد إيتاء الكتاب إدانة لغيره .

[١١] . سورة الصف : الآية ٦ .

إهمال ذكر المشركين

إنه من الممكن القول بأن السر في عدم ذِكر المشركين عطفا على ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ في آية (التفرّق) بينما ذكروا في صدر السورة : هو أن الحديث إنما هو عن التفرّق والتحزّب شِيَعا وفِرَقا ، وهذا ممّا يعقل تحققه في أصحاب الفكر والدين المدون ـ  ولو كان باطلا ـ وأما المشر كون فهم دون هذا المستوى من الانقسام إلى فئات وجهات ، لبساطة معتقدهم بل لسخافته ، فلا معنى لذِكر تفرقهم على ما لا قوام له!

أنواع العبادة

إن هناك فرقا بين مَن يعبد الله تعالى (طمعاً) في جنته أو (خوفاً) من ناره ، وبين مَن يعبد الله تعالى (مخلصاً) له ، طالباً رضاه وإن علم لاحقا أن جزاءه عند ربه ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ فمثَله في ذلك كمَن يغتسل لله تعالى وإن كان يعلم أن أثره إزالة الغبار عن بدنه ، فالعلم بالأثر لا ينافي الإخلاص في العمل ، بل المنافي هنا إنما هو قصد الأثر ، وقلّ مَن وصل إلى هذه الدرجة التي عَبّر عنها الله تعالى بصفةٍ اسمية قائلا ﴿مُخْلِصِينَ﴾ ولم يعبّر عنها بحركةٍ فعلية أي يخلصون .

الإخلاص والاعتدال

إن روح الديانات السماوية إنما هي روح واحدة ، تتمثل ـ  بعد الإيمان بالله تعالى وبالنبي المرسل في كل عصر ـ بالعبادة المتصفة بقيدين :
الإخلاص ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فما كان لغير الله تعالى لا يُسمى عبادة حقا ، وإن كان مشتركاً مع العبادة الصحيحة في صورتها .
مجانبتها للإفراط والتفريط وهو معنى ﴿حُنَفاءَ﴾ أو من لوازمها إن فسّرناه بالاستقامة ، فإن الرهبان في النصرانية جانبوا الاعتدال ، فأفرطوا في العبادة المدّعاة لأنفسهم ، تاركين ما عليهم من الواجبات تجاه الغير : كمقارعة الظالمين ، وخدمة المحرومين .
ومن المناسب أن نعلم أنه قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفي مثل هذه الرهبانية : «إن لكل أمة رهبانية، وإن رهبانية أمتي: الجماعات ، والجمعات، وتعليم بعضهم بعضا شرائع الدين»[١٢] .

[١٢] . بحار الأنوار : ج ٦٧ ص١١٥ .

الصلاة والزكاة في الأديان

ما من ريب أن جزئيات الشريعة تختلف من شريعة إلى شريعة ، ولكن المشترك فيما بينها ـ  على ما يُفهم من آيات القرآن الكريم ـ هي الصلاة والزكاة كقوله تعالى ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ وقوله تعالى ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[١٣] طبعا مع اختلاف الشرائع في جزئيات تلك العبادتين .
ولعل السر في هذا الاشتراك : إن الصلاة تنظم العلاقة بين العبد وربه ، والزكاة تنظم العلاقة بينه وبين خلقه ، والصلاة فيها مجاهدة باطنية من التوجه القلبي إلى الله تعالى ، والزكاة فيها مجاهدة خارجية من قطع التعلق بالمال ، ويجمعهما (الانقطاع) إليه في كل ما أمر المولى به ، ليكون العبد كالطريق المعبّد الذي لا يعيق السائر فيه  . . ومجموع ما في الشرائع ينطبق عليه التعبير بـ ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، سواء بمعنى :
دين الكتب القيمة : فيكون إشارة إلى كل الكتب السماوية .
خصوص دين النبي الخاتم ‘ : لأن شرائعه قائمة بمصالح العباد .
أن الدين ذو قيمة : لما فيه من المعاني السامية .

[١٣] . سورة مريم : الآية ٣١ .

عالمية الإسلام

إن روح الآيات الواردة في هذه السورة المباركة شاهدة على عالمية الدعوة الإسلامية ، وأن الأديان السابقة وإن كانت حجة على أهلها قبل ظهور الإسلام ، إلا أنه مع إرسال النبي الخاتم والشريعة الخاتمة ، لم يبق مجال لأي دين غير الإسلام .
ومن هنا لا ينبغي الانبهار بأي إنجاز ديني أو إنساني ، خارج إطار الإسلام الحنيف لما ورد من قوله تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ﴾[١٤] فإن قبول الأعمال منوط بالتقوى ، ولا معنى للتقوى إذا كانت الحركة في غير الجادة التي أرادها الله تعالى ، وإن كان الفعل حسنا في ظاهره .

[١٤] . سورة آل عمران : الآية ١٩ .

الجاهل المقصر والقاصر

ينبغي التأسي بخُلُق من أخلاق الله تعالى ممّا هو مذكور في هذه السورة ؛ ألا وهو عدم مؤاخذة الغير إلا بعذر : فلا نؤاخذ الجاهل أولاً ، وإن آخذناه فإننا نؤاخذ المقصر من الجاهلين ، وإذا آخذنا المقصّر منهم أخرجناه من جهالته .
وذلك أن الله تعالى لم يؤاخذ عباده إلا بعد إتمام البيّنة الواضحة من صحف مطهرة نزلت بتعاليم قيّمة ، بمعنى : (قائمة بمصالح العباد) ، أو بمعنى : (الاستقامة بلا اعوجاج) عكس ما عليه الشرائع البشرية والقوانين الوضعية ، لما فيها من مخالفة الفطرة السليمة ، وتفويت مصالح العباد الواقعية .