Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٦ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ٨ كـَلَّا بَلۡ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ ٩ وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢
  • تلاوة الآيات ٦ إلى ١٢

التوبيخ للتذكير

إن هذه الآية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من الآيات التوبيخية الجامعة بين التخويف والمنّة على العباد ، والتذكير بصفات الرأفة والكرم ، فكأن الآية تريد أن تقول : إن مَن كانت هكذا آياته يوم القيامة ، ومَن كان متصفا بالربوبية والكرم ، ومَن خلق الإنسان في أحسن صورة[١] ، لا ينبغي لأحدٍ أن يكفر به أو بنعمه ، أو يَغترّ بكرمه وإمهاله!  . . والآية لم تذكر منشأ لهذا الغرور بالرب الكريم ، بل أُوكل تقديره إلى العبد نفسه ، فقد يجعله البعض :
كرم رب العالمين الذي أوجب للبعض أن يأمن عذابه .
تسويل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء .
جهله بمقام ربه ، فقد ورد عن النبي ‘ عند تلاوته للآية المباركة أنه قال : «غرّه جهله»[٢] .
ولا يخفى ما في تغيير لحن الحديث من الغَيبة إلى الخطاب في ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من التأكيد على توجّه العتاب للإنسان ، بعد أن كان الحديث حول النفس بنحو الحديث عن الغائب .
ومن الملفت أن الله تعالى وجّه الخطاب للإنسان ، ست مرات في الآيات الثلاث[٣] ، ممّا يدل على اهتمام المولى في إيصال العتاب إلى الوجدان .

[١] . ﴿وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم﴾ سورة غافر : الآية ٦٤ .
[٢] . مجمع البيان : ج ١٠ ص ٤٤٩ .
[٣] . سورة الانفطار : الآية ٦- ٨ .

أعجب الخلقة

إن من أقرب أعاجيب الوجود إلى الإنسان هي خلقته الظاهرة له ، والمتمثلة بعجائب بدنه ، فذكّره المولى بأصل خلقته وإخراجه من ظلمة العدم ﴿خَلَقَكَ﴾ ثم بالتسوية بجعل كل عضو في وضعه اللائق ﴿فَسَوَّاكَ﴾ به ، ثم بالتعديل وتحقيق التعادل بين الأعضاء ﴿فَعَدَلَكَ﴾ ثم التركيب النهائي الذي به تتم الصورة النهائية للخلق ﴿رَكَّبَكَ﴾ ويجمع ذلك كله قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم‏﴾[٤] .
ومن المعلوم أن ذِكر مجموع ذلك ـ  بعد عتاب الاغترار بالرب الكريم ـ أكثر إيجابا للخجل والاستحياء منه!

[٤] . سورة التين : الآية ٤ .

ردع الغرور

قيل في آية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ إن وصف الرب بالكرم ـ  أثناء العتاب البليغ ـ كأن فيه تلقين للحجة ليقول العبد بعدها : غرني ربي كرمُك!ولكن هذا الوجه غير سائغ ، فإنه منتقم جبار أيضا ، أضف إلى أن هذه الآيات أعقبتها جملة رادعة حيث يقول تعالى ﴿كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ فكأنه يقول : بل أنت ومن حاله حالك ، تكذبون بيوم الدين والجزاء ، وعليه فإن ربوبيته القاهرة وكرمه الظاهر ، موجبان للردع عن الاغترار به .

منازل الحفظ

إن الأعمال محفوظة : أولا عند رب العالمين الذي هو محيط من وراء جميع خلقه ، ومن بعد ذلك الملائكة الحافظة وهم من الكرام الكاتبين ، ومن بعدها العبد الذي يرى عمله رأي العين  . . فالعاصي عليه أن يستحي أولا من ربه ، ومن الملائكة المقربين ثانيا ؛ لأنها موجودات لطيفة تتقذّر من القبائح ، وثالثا من نفسه عندما يرى تنزله من عالم الاستخلاف إلى عالم عبودية الهوى .
فقد سئل الكاظم (عليه السلام) عن الملكين : هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟!  . . فقال (عليه السلام) : «ريح الكنيف، وريح الطيب سواء»؟!  . . قال : لا ، فقال (عليه السلام) : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة؛ خرج نفسه طيّب الريح، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنّه قد همّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، فأثبتها له . . وإذا همّ بالسيئة؛ خرج نفسه منتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين: قف فإنّه قد همّ بالسيئة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، وأثبتها عليه»[٥] .

[٥] . أصول الكافي : ج ٢ ص ٤٢٩ ، باب (من يهمّ بالحسنة أو السيئة) الحديث ٣ .

الحفظة من الملائكة

إن الظاهر من الحفظ في ﴿لَحافِظِينَ﴾ هو حفظ الأعمال بقرينة ﴿كاتِبِينَ﴾ ولكن يحتمل أيضا الإشارة إلى ذلك اللطف الإلهي الشامل لجميع الخلق ، حيث جعل ملائكة حافظة لبني آدم من المهالك ، وذلك كما في قوله تعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾[٦] ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير الآية : «هما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان بالنهار» [٧]  . . وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك ، حتى ينتهوا به إلى المقادير ، فيخلون بينه وبين المقادير»[٨] .

[٦] . سورة الرعد : الآية ١١ .
[٧] . بحار الأنوار : ج ٥٦ ص ١٧٩ .
[٨] . بحار الأنوار : ج ٥٦ ص ١٥١ .

التأسي بالملائكة

إنه لمن اللائق بنا ـ  نحن البشر ـ أن نتأسى بالملائكة الكاتبة ، فهي لا تكتب إلا ما علمت من أفعالنا ، لئلا تكون شاهدة على غير اليقين ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ فالعبد المطيع لمولاه لا يتفوّه ولا يشهد إلا ما كان معلوما لديه ، فإن الظن لا يغني عن الحق شيئا .

أفعال القلوب

من الممكن أن يقال أن ظاهر ﴿تَفْعَلُونَ﴾ يفيد أن الملائكة لا تكتب إلا أفعال الجوارح ؛ لأن أفعال القلوب غيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولكن من الممكن القول : إن المكتوب بيد الملائكة الكرام يشمل أفعال الجوانح أيضا ، بإعلام الله تعالى للملكين الكاتبين .
ومهما يكن من أمرٍ فإن اطلاع الله تعالى على الجوانح ـ  سواء كان مع إطلاع الملائكة أم عدمه ـ كافٍ لأن يراقب الإنسان هواجسه الباطنية أيضا ، مصداقا لقوله تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾[٩] .

[٩] . سورة غافر : الآية ١٩ .