Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ ١ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ ٢ وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ ٣ قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ ٤ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ ٥ إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ ٦ وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ ٧ وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ٨ ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ٩
  • تلاوة الآيات ١ إلى ٩

مواقع تجلي العظمة

إن القرآن الكريم يُكثر من القَسَم بآياته السماوية من : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، ومنها ما في هذه السورة من ﴿الْبُرُوجِ﴾ أضف إلى التذكير بأصل السماء الجامعة لكل هذه الأجرام بقوله ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِين﴾[١] .
ولعل السر في ذلك : إنها في متناول كل من يريد التأمّل فيها ، فيكفي أن يرفع الإنسان رأسه إلى جهة العلو ليرى كل ذلك ، إضافة إلى أنها مظهر العظمة اتساعا وعمقا ، وهو تعالى المستفرد في التصرف فيها ، لأنه خارج سلطان البشر الذين يمكنهم الإفساد في الأرض دون السماء .

[١] . سورة الحجر : الآية ١٦ .

الدقة في الخلق

قيل[٢] في تفسير البروج أنه مواضع النجوم ، ومن المعلوم أن الدقة والحكمة في مواضعها ليست بأقل من أصل وجودها ، فلو زالت عن مواضعها لتغيّر نظام الكون الأكمل : كتوالي الفصول ، ومدّ البحار وجزرها وغيرها ؛ وحينئذ يتجلى لدينا أن هذا الفعل ـ  كباقي مصاديق الخلقة ـ واقع في موقعه ، مطابق للحكمة البالغة .
والملفت أن الله تعالى ـ  بعد ذِكر جعله للبروج ـ يذكر القيامة وما فيها من انتقام الله تعالى من الظالمين بعد طول إفساد ، ومنه يُعلم أن الحكمة وراء وضع الأبراج في مواضعها هي التي تقتضي الاقتصاص من الظالمين أيضا ، ليكون كل شيء في موضعه سواء في عالم التكوين أو التشريع .

[٢] . التبیان في تفسیر القرآن : ج٨ ص٤٦٠ .

بشارة “اليوم الموعود”

إن تخصيص القيامة بالذكر ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ بعد ذكر عنصر من عناصر النشأة الأولى ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ يُشعر بأن كل ما يجري على المؤمنين من صنوف الأذى إنما هو بنظر مَن الوجود كله بين يديه ، فما يعيشونه من الأذى في ذات الله تعالى لا يذهب سدى ، فهو الذي يُمهل ولا يُهمل  . .
وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف ما جرى لأصحاب الأخدود : «فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر ، فلما هجمت هابت ورقت على ابنها ، فنادى الصبي : لا تهابي ، وارميني ونفسك في النار ؛ فإن هذا والله في الله قليل ، فرمت بنفسها في النار وصبيها ، وكان ممّن تكلم في المهد»[٣] .
والتعبير باليوم الموعود يُشعر بما تطيب معه نفوس المنتظرين ، فكأنّ الله تعالى جعل ذلك اليوم يوما موعودا ينتظره أولياؤه ، تسكينا لما يطلبونه من طلب تعجيل العقوبة على الظالمين لهم .

[٣] . مجمع البيان : ج ١٠ ص٧٠٧ .

أكثر من مليون احتمال

إن من غرائب القرآن الكريم ، هو أن لفظة واحدة فيه تصلح لعشرات الاحتمالات ، ففي آية ملك سليمان (عليه السلام) استخرج بعض المفسرين عدد المحتملات فيها إلى ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال[٤] ، ومنها هذه الآية ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ والتي فيها من الوجوه المحتملة ما بلغت عندهم الثلاثين ، وقلّما نجد مثل قابلية الانطباق هذه في غير القرآن الكريم .
ومن أنسب الوجوه المذكورة فيها هو تفسير الشاهد بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله تعالى ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً﴾[٥] والمشهود بيوم الجزاء لقوله تعالى ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾[٦] .

[٤] . تفسير الميزان : ج ١ ص ٢٣٤ .
[٥] . سورة الأحزاب : الآية ٤٥ .
[٦] . سورة هود : الآية ١٠٣ .

شهادة النبي

فُسِّرت[٧] الشهادة في ﴿وَشَاهِدٍ﴾ : تارة بمعنى الحضور والمعاينة ، وتارة بمعنى شهادة الشاهد لإحقاق الحق وأداء ما حُمّل من الشهادة ، وعلى كلا المعنيين يتبين مقام النبي الأكرم ‘ الذي يعاين أعمالنا سواء أيام حياته أو وفاته ثم يُقيم الشهادة علينا ، وهذا بدوره من موجبات التهديد للمعاندين ، والخجل للمحبين ، إذ إن ما نقوم به يبلغه ويؤذيه .
وكفى في ذلك ردعا لمن كان في قلبه حب النبي ‘ فكيف يرضى المحب بأذى من يحبه إن كان صادقا في حبه؟!

[٧] . المیزان في تفسیر القرآن : ج ٢٠ ص ٢٤٩ .

البعد عن الرحمة

إذا كانت عبارة (أصحاب الأخدود) في قوله تعالى ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ إشارة للمؤمنين المقتولين ، فإن الآية تكون إخبارا عما وقع عليهم ، وإن كانت إشارة للكافرين للقاتلين كانت دعاء عليهم!  . . وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب من الدعاء على الغير في أكثر من مورد مثل قوله تعالى﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ﴾[٨] و﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُون﴾[٩] وكأنّ الله تعالى ـ  وهو الفاطر لهم بيد عنايته ـ لا يرى لهم استحقاقا لاستمرار الحياة على أرضه التي جعلها لخلفائه ؛ لأنهم خارجون عن أصل الهدف من الخلقة ، فيدعو عليهم بالموت الذي هو في مقابل الحياة ، وشتان ما بين الدعاء بالموت والوعد بالإحياء حياة طيبة ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[١٠]!
وهذا الأمر قد ينطبق ـ  بدرجة من الدرجات ولو النازلة ـ على الكثيرين من غير أصحاب الأخدود ، من جهة أن حياتهم ليست تجسيدا لما خُلق له الإنسان ؛ ألا وهي خلافة الله تعالى في الأرض .

[٨] . سورة عبس : الآية ١٧ .
[٩] . سورة الذاريات : الآية ١٠ .
[١٠] . سورة النحل : الآية ٩٧ .

موجبات بشاعة الجرم

إن جريمة أهل الأخدود كانت من أشنع ما وقع على المؤمنين ، وذلك لأمور ، منها أنهم :
شقّوا لهم أخدودا في الأرض ، لئلا يتمكنوا من الهرب .
ألقوهم في حفرة وهم شهود وقعود حولها ، يعاينون ما يجري على أهلها ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ فجمعوا بين التحقير والتعذيب .
بالغوا في تأجيج النار التي وصفها الله تعالى بأنها ﴿ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ المشعرة بأنها نار مستمرة في اشتعالها ؛ لما فيها ممّا يوجب اتقاد النار اتقادا .
انتقموا منهم لا لأمر يعود إلى ذواتهم ؛ وإنما تحدّيا منهم لله الواحد القهار إذ يقول ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾ وهذا نظير ما وقع لطائفة اُخرى من المؤمنين ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إلا أَنْ آمَنَّا بِالله﴾[١١] .
إضافة إلى أن القتل بالنار من أبشع صور القتل ؛ لأنه موت تدريجي مع ما يوجبه من بشاعة منظر المحترق بها! .

[١١] . سورة المائدة : الآية ٥٩ .