Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كـَلَّاۖ بَل لَّا تُكۡرِمُونَ ٱلۡيَتِيمَ ١٧ وَلَا تَحَٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ١٨ وَتَأۡكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكۡلٗا لَّمّٗا ١٩ وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبّٗا جَمّٗا ٢٠
  • تلاوة الآيات ١٥ إلى ٢٠

النِّعم ليست مزية دائما

إن هذه الآيات تريد أن تُحدِث انقلابا جوهريا في نظرة الإنسان تجاه النعمة والبلاء ، فليست النعمة إكراما دائما يوجب الفرح ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾[١] وليس البلاء إهانة دائما توجب الجزع والحزن ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾[٢] ومن الطبيعي أن تنقدح هذه المشاعر الأولية في نفس الإنسان كطبيعة مغروسة فيه ، إلا أن هدف الأنبياء هو الأخذ بيد الإنسان ليخرج من مقتضى طبيعته ، كما في باقي موارد اقتضاء الطبيعة ، التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم .
والملفت هنا أن الله تعالى كرر كلمة ﴿ابْتَلاهُ﴾ في مورد النعمة والبلاء معا ؛ تأكيدا على أنهما في رتبة واحدة لاختبار عبودية العبد وإثبات طاعته!  . .

[١] . سورة الحديد : الآية ٢٣ .
[٢] . سورة الحديد : الآية ٢٣ .

قواعد الإكرام والإهانة

إن الآيات الذامة لهذه الحالة في طبع الإنسان ﴿فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ مرتبطة بما قبلها وبما بعدها :
فأما الارتباط بما قبلها ، فكأنها تريد أن تقول : إن الرقابة الإلهية للبشر وكونه بالمرصاد للطاغين ؛ تستوجب أن يصرف العبد همّته في إرضاء ربه ، وأن يبتعد عمّا يوجب سخطه ، لا أن يقصِر نظره على المتاع العاجل ، فيرى الوجدان إكراما والفقدان إهانة .
وأما الارتباط بما بعدها ، فكأنها تفيد : إن قواعد الإكرام والإهانة مختلفة عمّا هو في نظر البشر ، فما يوجب الإهانة هو ما ذُكر في الآية من بعض المخالفات كعدم إكرام اليتيم وأكل مال الغير ، وما يوجب الإكرام هو الحضّ على طعام المسكين ، وقطع التعلق القلبي بالمال .

النظرة الجماعية للمؤمن

إن طبيعة المؤمن عند الحديث مع ربه هي النظر إلى جماعة المؤمنين ؛ ومن هنا كثُر التعبير بـ ﴿رَبَّنَا﴾ في أكثر من ستين موردا في القرآن الكريم ، وذلك عندما يتوجّه المؤمن إلى ربه فيرى جميع المؤمنين معه فيعمّهم بدعائه ، ولكن غير المؤمن يجعل نفسه محور حديثه مع ربه من دون التفات إلى غيره ولو من باب الذهول لهول ما يراه ، ولذا كان الضمير العائد إليه تعالى ـ  عند نقل حديثهم ـ على نحو المفرد حيث يقول ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ و﴿رَبِّي أَهانَنِ﴾ .
والملفت في المقام : إن ما جُعل مِلاكا للإكرام والإهانة عندهم هي (المحسوسات) من النّعم ، ولم يرقَ فكر هؤلاء إلى أن يجعلوا مقياس الإكرام والإهانة (قربهم) من المولى ، وهو ما تشير إليه الآيات الأخيرة من مقام النفس المطمئنة والتي هي ﴿راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[٣] وهذا هو ما كان ينبغي أن يكون عليه أحدهم في حركته في الحياة .

[٣] . سورة الفجر : الآية ٢٨ .

استيعاب المدبرية الإلهية

إذا ارتقى العبد إلى مستوى فهم مدبّرية الله تعالى لهذا الوجود والمقترنة بالحكمة البالغة ؛ فإنه لا تختلف عنده النعمة والبلاء ؛ إذ إن العبد :
يحب ما يحبه مولاه في أية صورة كانت محبته ، فقد يحب البلاء لعبده أكثر من محبته للعافية له .
لا يرى مزيةً في النعمة ولا نقمةً في البلاء ؛ ما دام الاثنان في سبيل التكامل والرقي ، بل قد يصل إلى درجة يرى في قرارة نفسه ميلا إلى البلاء ؛ لما يورث له الصبر عليه من : التضرع والالتجاء إلى ربه في الدنيا ، والتعويض المضاعف في الآخرة .

الإكرام بالمعنى الأعم

إن المطلوب على ما تذكره هذه الآية ﴿کَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتيمَ﴾ غير ما يفهمه عامة الناس من مساعدة اليتيم بالطعام والكسوة ونحوه ، بل المطلوب ما هو الأعم ؛ أي الإكرام بمفهومه الواسع ، وهو مفهوم يغاير مجرد الإطعام ، ويدخل فيه ما يوجب له الاحترام والتعظيم ، المجبر للوهن الذي يورثه اليُتم عادة ، كما أن المطلوب ليس إطعام المسكين فحسب ، بل حثّ الآخرين على هذا العمل ؛ فإن إنفاق البعض لا يسد حوائج المساكين لكثرتهم في كل عصر ، بل لا بُد من سعي جماعة المؤمنين بالحضّ والحثّ وخاصة فيما يتعلق بالطعام ؛ فإن فقْد القوت كما ذَكر أمير المؤمنين (عليه السلام) من موجبات أن «يتبيّغ بالفقير فقره»[٤] .
ومن الملفت أن القرآن الكريم يخصّ هذه الصفة ـ  أي ترك الحضّ على طعام المسكين ـ بالذم الشديد من بين الصفات ، ويجعله في مصاف صفات الكافرين ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[٥] .

[٤] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٩ .
[٥] . سورة الحاقة : الآية ٣٣-٣٤ .

منزلة اليتيم

إن فقد اليتيم للولي من موجبات التجرأ على أكل ماله ، فيضم أحدهم ماله إلى ماله ﴿أَكْلاً لَمًّا﴾ ليأكل أخيرا في بطنه نارا ، وهو ملكوت أكل مال اليتيم .
وقد كثرت الآيات الداعية إلى الرفق باليتيم ، سواء من جهة نفسه أم من جهة أمواله كقوله تعالى ﴿وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾[٦] و﴿إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى‏ والْيَتامى‏ والْمَساكينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا﴾[٧] و﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾[٨] ومنها ما في هذه السورة ﴿کَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتيمَ﴾ والمشتملة على الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ، ليكون النهي عن الفعل أردع ، والتشنيع على فاعله أوقع!

[٦] . سورة الإنسان : الآية ١٢٧ .
[٧] . سورة الإنسان : الآية ٥ .
[٨] . سورة الإنسان : الآية ٢ .

مقتضى الطبيعة البشرية

إن القران الكريم عندما يسند أمرا إلى الطبيعة البشرية ، مثل الهلع والجزع والبخل كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا﴾ وكحب المال ﴿وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا﴾ فإنها تشير إلى حقيقة هامة : وهي أن قلع هذه الصفات من النفس وعدم المشي وفق طبيعتها يحتاج إلى مجاهدة ومغالبة للنفس ، وإلا فإن الإنسان ينساق وفق هذه الطبيعة كانسياق الأشياء إلى جاذبية الأرض .
والملفت هنا أن هذه السورة حذرت من تبعات حب المال بأمور محددة ، منها : عدم إكرام اليتيم ، وعدم إطعام المسكين ، وأكل أسهم الإرث ، وحب جمع المال من أي طريق حلالا كان أم حراما .