Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
إِنَّ عَلَيۡنَا لَلۡهُدَىٰ ١٢ وَإِنَّ لَنَا لَلۡأٓخِرَةَ وَٱلۡأُولَىٰ ١٣ فَأَنذَرۡتُكُمۡ نَارٗا تَلَظَّىٰ ١٤ لَا يَصۡلَىٰهَآ إِلَّا ٱلۡأَشۡقَى ١٥ ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ١٦ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى ١٧ ٱلَّذِي يُؤۡتِي مَالَهُۥ يَتَزَكَّىٰ ١٨ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ ١٩ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٠ وَلَسَوۡفَ يَرۡضَىٰ ٢١
  • تلاوة الآيات ١٢ إلى ٢١

أوجبهما المولى على نفسه

إن الله تعالى قضى على نفسه ـ  تفضلا لا إلزاما ـ هداية الخلق كما قضى على نفسه رزق العباد ، وجاء التعبير في الموردين بـ (على) وكأن الله تعالى جعل شيئا على عهدته ، كما يلتزم الإنسان بوعد قطعه على نفسه وذلك في قوله تعالى ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ و﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾[١] .
ومن الممكن تفسير هذه الهداية المذكورة في هذه السورة وغيرها على نحو :
إراءة الطريق مع ترك الاختيار للعبد ، كما يُفهم من قوله تعالى ﴿وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ﴾[٢] و﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً﴾[٣] طبعا مع إشراك الأنبياء بإذنه تعالى في هذه الهداية التشريعية لقوله تعالى ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[٤] .
الإيصال إلى المطلوب : ففي الدنيا يتحقق الإيصال إلى الحياة الطيبة ، وفي الآخرة يتحقق الجزاء الأحسن كما في قوله تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾[٥] فكان تعامله هذا (أي الإيصال إلى المطلوب) مع خاصة خلقه كتعامله مع عامة خلقه (في إراءة الطريق) حيث ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[٦] .
ومن المعلوم أن انتساب هذه الهداية المحققة إلى الله تعالى ـ سواء بمعنى إراءة الطريق أو الإيصال إلى المطلوب ـ لا ينافي انتسابها إلى خلقه أيضا ، كما في باقي موارد تخلل الأسباب بين الصانع والمصنوع .

[١] . سورة هود : الآية ٦ .
[٢] . سورة النحل : الآية ٩ .
[٣] . سورة الإنسان : الآية ٣ .
[٤] . سورة الشورى : الآية ٥٢ .
[٥] . سورة النحل : الآية ٩٧ .
[٦] . سورة طه : الآية ٥٠ .

الإحساس بمالكية المولى

إن آية ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى﴾ الدالة على ملكية الله ومالكيته للوجود موجبة :
للعزة إذا فسّرناها بمعنى : إن لله تعالى (مُلك) الدنيا والآخرة ، فلا يضرّه تكذيبكم بيوم الدين والبخل بما أعطاكم ، فهو المالِك والملِك لكل ما في الوجود .
لحثّ المؤمنين على الطاعة والإنفاق إذا فسّرناها بمعنى : إن لله تعالى (مِلك الدارين) ، فيعطي منهما ما يشاء لمَن يشاء ، فمَن أراد الدنيا فعليه الرجوع إليه ، ومَن أراد الآخرة وجب عليه ذلك أيضا ، ومن هنا نطلب منه تعالى حسنة الدارين ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[٧] .

[٧] . سورة البقرة : الآية ٢٠١ .

اشتراك العصاة والكفار

إن حصر (صَلْي النار المتلّظية) بالكافر هو حصر بقيد لا مطلقا ، فالمراد من آية ﴿لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى﴾ إن هذه النار بقيد الاستمرارية واللزوم المستفاد من ﴿يَصْلَى﴾ خاصة بالمتولّي الكاذب وهو الكافر الذي جمع بين التكذيب اعتقادا ، والإعراض عن شريعة الله تعالى عملا ؛ وهذا لا ينافي أن يكون عذاب النار ـ  لا بصفة اللزوم والخلود ـ متوجها إلى عصاة المؤمنين ، كما يُفهم من قرائن كثيرة من الكتاب والسنة .
وبعبارة اُخرى : فإن الآية بصدد المقابلة بين طائفة مكذّبة ، واُخرى متقيّة منفقة ، وليس المقام مقام ذِكر الطائفة المتوسطة ؛ وهي المؤمنة غير المتقيّة .

من هو الأشقى؟

إن التعبير بـ ﴿الْأَشْقَى﴾ ممّا يسوق العباد إلى التأمّل في صفات الأشقياء بل أشقى الأشقياء ، والمقارنة بين أنواع الشقاء ، فالبعض يرى أن الشقاء إنما هو في الحرمان من المال أو سقم البدن أو فقد الأحبة ؛ ولكن القرآن الكريم يرى أن الأشقى مَن كان مآلُه إلى النار المتلظّية!
ومن هنا ذَكر علي (عليه السلام) هذه الحقيقة قائلا : «ما خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة! . . وكلّ نعيمٍ دون الجنة محقورٌ، وكلّ بلاءٍ دون النار عافية»[٨] .

[٨] . نهج البلاغة : الحكمة ٣٨٧ .

السعي نحو قمة التقوى

إن المعايير الإلهية في تمييز الشقي من التقّي تختلف عن المعايير البشرية في تعريف الشقاء ، فقد سبق القول أن الشقي الأعظم مَن دخل النار ، وهنا تذكر الآية أن التقي الأعظم ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى﴾ ليس مَن يتقي مخاوف الدنيا ، بل من يتقي الغضب الإلهي!
ولا يخفى ما في التعبير بصيغة التفضيل من فتح مجال المسارعة إلى الخيرات ، فإن العاقل لا يقنع بسقف محدود من التقوى ، بل يخوض مضمار السباق الأعظم ليكون في القمة أو ما يقرب منها .

التجنيب الإلهي

إن الخلاص من النار مرهون بعمل العبد ـ  وخاصة بالإنفاق المذكور في هذه الآيات ـ ولكن لا ينبغي التعويل على جهد العبد ، فقد يرتكب في لحظة من لحظات الغفلة معصية بغير عذر فتوجب له دخول النار ، ومن هنا فإن الله تعالى نسب التجنيب إلى نفسه ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى﴾ ولو بصيغة المجهول .
وليُعلم أن كلمة النار وردت هنا بصيغة النكرة ﴿نَارًا﴾ للدلالة على عظمها ، وكلمة ﴿تَلَظَّى﴾ جاءت مضارعة للدلالة على استمرار توهجّ هذه النار بلا انقطاع!

الإنفاق المقبول

إن إعطاء المال في هذه الآية مقرون تارة بالتقوى وتارة بقيد ﴿يَتَزَكَّى﴾ وهذا القيد قد يكون بيانا :
لحالة المتزكّي بمعنى : أنه يقوم بهذا العمل ناويا أن يُطهّر نفسه من حب الدنيا مثلا .
للنتيجة الحاصلة من الإنفاق ؛ فإن التزكية بالنسبة للمُعطي المتقّي حاصلة له قهرا وهو ما يستفاد من قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[٩] .
ومن المناسب الالتفات إلى التعبير بماله في قوله تعالى ﴿يُؤْتِي مَالَهُ﴾ فإن ملاك المجاهدة والترفع عن المال هو الإنفاق من المال الشخصي ، لا أن يحثّ الإنسان غيره فيستأذن منه في إنفاق ماله ، كما يتفق في مشاريع الخير ، والحض على طعام المساكين .

[٩] . سورة التوبة : الآية ١٠٣ .

الوجه الإلهي

إن لحن الخطابات القرآنية تابع لحكمة بالغة ، فكل انتقال من الغيبة إلى الحضور أو العكس إنما يتبع غرضا يريده المتكلم الحكيم ، فالآية ـ  مثلا ـ انتقلت من الحديث مع الغائب إلى الحديث مع الحاضر في قوله تعالى ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ فهذا هو المناسب للإنذار ، إذ إن التخويف إنما يصبح جادا إذا توجّه للمخاطب مباشرة ولكن في آية ﴿إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾ انتقلت إلى الحديث عن الغائب وهو الأنسب لعظمة مقام الربوبية ، فإن مدح ذاته المقدسة لا يحتاج إلى حضور حاضر أو استماع أحد ، فهو المثني بنفسه على نفسه ولنفسه ، وخاصة مع التخصيص بذكر صفة العلو!

رؤية الجمال الإلهي

إن الذي يصرف وجه العبد عن غيره ، فلا يرى لأحد عنده نعمة تجزى ، إنما هو لرؤيته ذلك الوجه الذي يطغى جمالُه على كل وجه هالك ممّا هو دونه ، فلا يجد بعدها كثير معاناة في أن يصرف وجهه عما سواه ، وأن لا يجد مؤثرا في الوجود غيره ، وهذه المعاني كلها مندرجة في قوله تعالى ﴿إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾  .
وقد تكرر ذكر الوجه في آيات عديدة ، منها ما في هذه السورة وغيرها ويمكن تفسيره بأحد تفسيرين :
إن الوجه من كل شيء ما يُستقبل به الغير ، وهذا الوجه متناسب مع طبيعة ذلك الشيء : ففي الإنسان هو ذلك النصف المقدم من الوجه ، وفي الله تعالى حيث لا تعيّن ولا تأيّن ، فإن وجهه يتجلى من خلال ما يواجه به العباد ، كآثار صفات الذات كالسمع والبصر ، وصفات الفعل كالخلق والرزق .
إن المراد بالوجه هنا أمر خارج الذات ، لكنه منتسب إليه بنحو من أنحاء الانتساب ، فيكون قصد ذلك الوجه قصدا للذات بإذن منه ، وهو المتمثل بالأنبياء والأوصياء والأولياء .

الخلاص من الشرك الخفي

إن إنفاق المتقين خالص من كل شائبة ـ  حتى الشرك الخفي منه ـ إذ قد يُحسن أحدهم للغير مقابل إحسان سابق ، فلم يعد الأمر بذلك إلهيا بل للخروج من ذلّ إحسان الغير ، والحال أن هذا الصنف لا يرى إلا وجه الرب أولا ، وبوصف العلو ثانيا ؛ وهما الدافعان له لتمحيض العمل لوجهه الكريم .
وقد يتساءل أحدهم قائلا : إن الآية تشير إلى أن المنفق الأتقى لا يرى لأحد نعمة عليه حتى يجازيه عليها ﴿وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ والحال أنه لا يخلو أحد من منّة لأحد من الخلق عليه ؛ فكيف نوفق بين الواقع وبين ما يطلبه المولى عز شأنه؟!  . . والجواب :
إن هذا الصنف بلغ مرتبة من انكشاف البصيرة بحيث لا يرى مؤثرا في الوجود إلا الله تعالى ، فالخير الذي يأتيه من الغير يراه من يد مولاه مصداقا لقوله تعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾[١٠] المفيد للحصر .
أن المراد هنا خصوص ذلك المحتاج الذي لم يحسن إلی الأتقى بينما هو أحسن إليه لوجه ربه ، لا لوجود نعمة مَنَّ بها عليه ذلك المحتاج ، وهذا لا ينافي وجود نعمة اُخرى من غير مَن أحسن إليه الأتقى .

[١٠] . سورة آل عمران : الآية ٢٦ .

الإرضاء بالشفاعة

إن أعظم جزاء يعطيه رب العالمين للأتقى هو قوله تعالى ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضى﴾ وهو من سنخ ما يعطيه حبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قد وعده الله تعالى بعطاء يرضيه والمُفسَّر بـ (الشفاعة) وهذا هي غاية العطاء أي استنقاذ الخلق من النار ببركة مَن خصّه الله تعالى بهذا العطاء .
وهذا النوع من العطاء متاح لمَن تذكُره الآية ، بمعنى أنه قد يُعطى درجة من درجات الشفاعة التي يرضي بها المؤمن أيضا ، وهذا ممّا تؤيده الروايات الدالة على سعة دائرة شفاعة المؤمن يوم القيامة .