Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
وَيۡلٞ لِّلۡمُطَفِّفِينَ ١ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ ٢ وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ ٣ أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ ٤ لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ ٥ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٦
  • تلاوة الآيات ١ إلى ٦

كلمتا “طُوبَى” و “وَيْل”

إن الله تعالى يُظهر في كتابه رضاه عمّن يريد أن يُثيبه بقوله ﴿طُوبَى﴾[١] فهي تدل على العيشة الهنيئة التي أعدّها الله تعالى لمَن آمن وعمل صالحا ، وهي تعمّ الهناءة في الدنيا والآخرة  . . وفي المقابل فإن القرآن الكريم يستعمل كلمة ﴿الْوَيْلُ﴾ لمَن يريد أن يُظهر سخطه عليه مهدّدا إياه به .
وغالبا ما يستعملها القرآن الكريم في تهديد المشركين[٢] والكافرين[٣] والمكذّبين[٤] أي أصحاب الانحرافات العقائدية ، إلا أنه استعمل هذه الكلمة أيضا في موارد الانحراف العملي ومنها ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾[٥] و﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾[٦] و﴿لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾[٧] .

[١] . سورة الرعد : الآية ٢٩ .
[٢] . ﴿وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكينَ﴾ سورة فصلت : الآية ٦ .
[٣] . ﴿وَ وَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ﴾ سورة إبراهيم : الآية ٢ .
[٤] . ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبينَ﴾ سورة الطور : الآية ١١ .
[٥] . سورة المطففين : الآية ١ .
[٦] . سورة الهمزة : الآية ١ .
[٧] . سورة الجاثية : الآية ٧ .

أشدّ التعابير

قد يَعُد البعض التطفيف في الكيل أمرا هيّنا في قِبال المحرّمات الكبيرة ، إذ إن ما يوجب التطفيف قد يكون مقدارا من المال لا يُعتنى به ، ولكن الآيات الرادعة عن التطفيف فيها وعيد شديد يبتدئ بالويل ، وهذا التعبير عادة ما يُستعمل للعصيان الكبير ، كالتكذيب بيوم الدين وهو المذكور بعد آيات لاحقة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾[٨] .
ومن هنا يُعلم أن الله تعالى يولي اهتماما كبيرا لحقّ الناس ، إلى درجة نرى معها أن النهي عن هذه الموبقة كان طلبا أساسيا لنبي الله شعيب (عليه السلام) حينما قال لقومه ﴿وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الارض مُفْسِدِين‏﴾[٩] وقد صارت مخالفة هذا الأمر من موجبات إهلاك القوم  . . وعليه ، فإن الإفساد في الأرض جرم عظيم في قِبال الكفر بالله تعالى ، ولهذا كان جزاؤهما القتل بحسب تفصيله الفقهي .

[٨] . سورة المرسلات : الآية ١٥ .
[٩] . سورة هود : الآية ٨٥ .

آثار أکل الحرام

إن القوم الذين يأكلون المال الحرام بالتطفيف ، ستصيبهم تبعات أكلهم للمال بالباطل ، ومنها ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سياق بيان آثار الحرام في الأمم : «ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات ، وأخذوا بالسنين‏»[١٠] ولعل التهديد بالويل من أجل تجنيبهم آثار أكل الحرام الذي يستهين به الكثير من الناس ؛ لأن أثره ليس محسوسا كشرب الخمر ، فقد يتورع البعض عن شرب المسكر ، ولا يتورع عن أكل الحرام!
ومن هنا أيضا وبّخ الحسين (عليه السلام) القوم على أكل الحرام الذي جرّهم لهذه العاقبة السيئة قائلا : «قد مُلئت بطونكم من الحرام»[١١] .

[١٠] . الكافي : ج ٢ ص ٣٧٤ .
[١١] . تحف العقول : ص٢٤٠ .

علامتا المطفف

إن المطففين كما ذكرتهم الآية ، يجمعون بين صفة الأنانية والحرص على جلب المنافع لأنفسهم ، فتراهم عند الكيل لأنفسهم يستوفون حقوقهم كاملة غير منقوصة ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ وبين صفة الغشّ والإخلال الاقتصادي ، فيُخسرون غيرهم عند الاكتيال ﴿وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ وكلاهما صفتان مذمومتان ـ  وإن كان الأول لا يصل إلى درجة الحرمة ـ ولكن الذمّ على مجموع هذه الحالة من حب الذات ، وخيانة الغير .
ومن الملفت أن الآية ذكرت الفئة المتضررة بتعبير ﴿النَّاسِ﴾ ولم تذكر خصوص المسلمين مثلا ، لإفادة قبح هذا الغش مع أيٍّ كان من عباد الله تعالى .

تضييع الحقوق

إن الآية وإن كانت متوجّهة للمطففين في جانب المكيل والموزون ، إلا أن روح الآية من الممكن أن تشمل كل مَن يتعدّى على الغير في تعامله مضيعا حقه ؛ كمَن يتعهد لأحدهم بأن يقوم بعمل بوصف معيّن وفي مقام العمل لا يأتي بما تعهد به ؛ أو كمَن يعتدي على مال الغير عدوانا .

الاحتمال المنجز

إن الذي يرتكب المعصية كأنّه ـ  في مقام العمل ـ ليس له حتى ظن بيوم الحساب ؛ لأن العاقل يحسب حساب الضرر المحتمل ، فيرى دفعه لازما عندما يرى أن المحتمَل ممّا يُعتدّ بخطره!
ومن هنا أشارت الآية إلى مرحلة الظن ﴿أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ وإن كان البعض يرى أن الظن هنا بمعنى (اليقين) كما في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾[١٢] حيث روي كما في تفسير العياشي عن علي (عليه السلام) أنه قال : «يوقنون أنهم مبعوثون ، والظن منهم يقين»[١٣] .

[١٢] . سورة البقرة : الآية ٤٦ .
[١٣] . کتاب التفسير : ج١ ص٤٤ .

ألردع الأفضل

إن الحل الجامع للردع عن كل المحرمات ـ  حتى في الخلوات ـ هو ما ذكره القرآن الكريم من تذكّر العرض الأكبر بين يدي رب العالمين ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وحينئذٍ لا معنى لإمكانية القيام بعمل في الخلوة ، وذلك لعدم تحقق مفهوم الخلوة أصلا ، بل إن كل ما يفعله العبد في حكم الجلوة ما دام يرى نفسه بعين الله تعالى  . . ولهذا تدعو الآية إلى تذكّر القيام بين يدي رب العالمين ردعا للتطفيف ، كحرام من المحرّمات التي قد لا يطّلع عليها المتعامل الآخر .