Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ ٧ وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨ فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ ٩ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ ١٠ وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ١١ ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ١٢ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ ١٣
  • تلاوة الآيات ٦ إلى ١٣

ارتباط الآيات ببعضها

لا تخفى المناسبة بين الأمر بالتسبيح ، والوعد بالإقراء وعدم الإنساء ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى﴾ واللذين بهما يتحقق تمكين القرآن في نفس النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ممّا يُعلم منه أن الالتفات إلى المولى وتنزيهه المذكور في آية سابقة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ مقدمة للعناية الخاصة الموعودة وهو عدم الانساء .
أضف إلى أن حمل همّ الدعوة من موجبات التسديد أيضا ، فهذا اللطف مرتبط كذلك بآية لاحقة ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ من جهة أن الله تعالى يعلم ما يجري في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحرص على تلقي القرآن الكريم كما أنزله إليه ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه﴾[١] .

[١] . سورة القيامة : الآية ١٦ .

التأكيد على الحاكمية المطلقة

إن اللطف الإلهي مهما كان عظيما على العبد ، إلا أنه لا بُد من تحقق موجبات حفظه أولا ، واستمرار الموجب ثانيا ، وإلا فما فائدة الإقراء من دون تجنيب صاحبه من النسيان؟!  . . وما فائدة هذا التجنيب إذا لم يكن مستمرا؟!  . . فإن الله تعالى ـ  رغم وعده لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك ـ إلا أنه علّق ذلك على المشيئة ؛ ممّا يحقق حالة من الخوف والرجاء حتى بالنسبة إلى خاتم أنبيائه!  . . ومن هنا عبّرت آية اُخرى بصريح القول ﴿وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْك﴾[٢] .
وهذه القاعدة سارية حتى على من أنعم الله تعالى عليه بالخلود في الجنة ، إذ يقول تعالى ﴿خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ والْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّك﴾[٣]  . . فالملاحظ في الآيتين أن هناك تأكيدا على حاكمية الله تعالى على الوجود ، برمته وفي كل الحالات ، وان خيوط العطايا بيده ، ولا يُلزمه شيء حتى في عطائه الموعود .

[٢] . سورة الإسراء : الآية ٨٦ .
[٣] . سورة هود : الآية ١٠٧ .

الحقائق الخفية

إن من ﴿الْجَهْرَ﴾ الوارد في هذه السورة ما كان واضحا في عالم المحسوسات السمعية والبصرية ، فيقابله ﴿مَا يَخْفَى﴾ في ذلك العالم أيضا كالمسموعات والمرئيات التي لا تتناولها الحواس إلا بآلات خاصة ، وتتجلى عظمة المولى في أنه يدركها من دون ذلك كله  . . وقد يراد به ما لم يكن قابلا للإدراك البشري أصلا لعدم قابلية المخلوق لمواجهة تلك الحقائق الخفية من عالم الوجود ، كالاسم الأعظم المختص به تعالى ، فتتجلى عظمة المولى في تخصيص نفسه بدائرة من الحقائق استأثرها لنفسه ، ولم تخرج منه إلى أحد من خلقه .

مراقبة الهواجس

لو اعتقد العبد بعالمِية المولى المتعال بما خفي ـ  حتى على العبد نفسه ـ من الهواجس اللاشعورية التي تنتابه بين وقت وآخر دون أن يشعر هو بها ، أضف إلى علمه بما يخفيه شاعرا به كما في قوله تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[٤] فإنه سيكون مراقبا لجوانحه فضلا عن جوارحه ، فلا يُجري ـ  حتى في عالم خياله ـ ما لا يرضى به المولى ؛ لأن ذلك ـ وإن لم يوجب عقابا ـ  ، إلا أنه قد يوجب عتابا يخجل معه العبد المحب لربه!  . . ومن هنا نعلم عظمة المعصوم الذي يتحكم بخياله بما يوافق رضا ربه في كل حالاته .

[٤] . سورة غافر : الآية ١٩ .

تيسير العبودية

إن آية ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ قد تكون فيها إشارة دقيقة إلى :
معاملة الله تعالى لخلّص أوليائه ، فإنه تعالى لا ييسر لهم الطريق فحسب ، وإنما ييسر ذواتهم للطريق بمقتضى الخطاب في الآية المتوجه للذات ، فالعناية الأولية إنما هي لهم ، لا لأفعالهم فيكون في حكم قوله تعالى ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[٥] فكما أن الجنة تُقرب إليهم ، فإن الله تعالى يقرب اليسر إليهم كذلك .
أن مبدأ التيسير هو العبد نفسه ، لأنه بما له من الملكات صار متعلقا للتيسير الإلهي ، فإذا صار قابلا للتيسير تيسر اليسر له ، فالتوفيق لا يأتي خارج دائرة العبد نفسه .
ومن المناسب هنا القول بأن الله تعالى من الممكن أن يكتب التيسير المقدر دون المفعّل ، وذلک لتقصير العبد نفسه في تهيئة مقدمات التيسير من العمل ، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «اعملوا! . . فكلٌ ميسر لما خلق له»[٦] .

[٥] . سورة الشعراء : الآية ٩٠ .
[٦] . سورة التوحيد : الآية ٣٥٦ .

التعظيم في موارده

إن الألطاف الإلهية الخاصة تناسبها نون التعظيم عند التكلم ، فقال تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ﴾[٧] و﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾[٨] و﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ﴾[٩] ومنه التيسير في توفيق دعوة العباد إلى الله تعالى ، فقال ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ فإنه من أجلّ النعم المعنوية قياسا إلى النعم المادية .

[٧] . سورة القدر : الآية ١ .
[٨] . سورة الحجر : الآية ٩ .
[٩] . سورة الكوثر : الآية ١ .

احتياجات المبلغين

إن الآيات السابقة فيها جميع ما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله تعالى وهو :
إحراز القابلية ، بالتوجه إلى الله تعالى تحميدا وتنزيها .
التسديد الباطني ، ويمثله الإقراء والتحفظ من النسيان .
التسديد الخارجي ، وتيسير السبل ، سواء تصرفا في الأشياء كمعاجز الأنبياء (عليهم السلام) ، أو الأشخاص كتليين قلوب العباد .

أرضية القبول

إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بتذكير مَن فيه أرضية الهداية والقبول وإلا ضاع جهده هدرا ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ فعمره الشريف وطاقته المباركة أجلّ من أن تُصرف لمَن لم يكن أهلا لذلك ، ولكن من الممكن القول أيضا برجحان التذكير حتى مع عدم رجاء الانتفاع به ، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متخلق بأخلاق الله تعالى في إنذار الجميع ، فهو الذي أمر موسى (عليه السلام) بتذكير أعتى الخلق قائلا ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى﴾[١٠] تعميما للطف ، أو إتماما للحجة على الغير .
ومن الممكن أن تكون الآية مسوقة لبيان اليأس من تذكّر البعض ، وذلك لعدم وجود أرضية لتقبّل الهدى في نفوسهم أصلا .

[١٠] . سورة طه : الآية ٤٤ .

الخشية طريق الهداية

إن تقبّل الهداية الإلهية تسبقها مرحلة سابقة ، تتمثل في وجود درجة من درجات الخشية من الله تعالى عند من يراد تذكيره ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾ فهذه الخشية ـ  سواء كانت بمعنى الخوف من عذابه أو الخجل من نعمه ـ تجعل العبد يبحث عما يُخرجه من عقابه أو عتابه ، فلا يتوقع المهتدي أن يُحدث الهادي أياً كان معجزة في نفسه ، بل عليه أن يكون بمثابة الأرض التي تستقبل البذرة ، ثم تنميها في نفسها بما آتاها الله تعالى من القابلية .
وعليه ، فإنه ينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذه الأرضية في نفوس العباد ، قبل إثقالهم بالمواعظ .

الفرق بين “ الأشقى” و “الشقي”

إن ﴿الأَشْقَى﴾ هنا يراد به (الشقي) كما هو دأب القرآن الكريم في استعمال صيغة التفضيل في أصل الفضيلة كقوله تعالى ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾[١١] ولكن يمكن القول أيضا بوجود درجات للأشقياء ، إذ الأشقى هو الكافر المعاند الذي يصلى النار الكبرى في أسفل درجات الجحيم قياسا إلى نار الدنيا ، أو قياسا إلى أقل عذاب النار .
ولكن الشقي الذي هو دون السعيد وأحسن حالا من الأشقى ؛ هو الذي لم يغتنم فرصة العمر ، فأمضى حياته في خُسر ، كما هي حياة معظم الخلق .

[١١] . سورة الفرقان : الآية ٢٤ .

شدة العذاب الإلهي

إن من مظاهر شدة العذاب في الآخرة ـ  حتى لغير المخلّدين فيها ـ هي استمرارية العذاب من دون انقطاع أو إراحة في النار : خلودا للكفار أو أحقابا لعامة العصاة ، فتذكر الآية هذه الحالة ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾[١٢] أي أنهم لا يموتون ولا يحيون حياة طيبة!
والحال أن بلاء الدنيا يتخلله شيء من الفرج والراحة حتى في أشد حالاته ، والأشد من عذاب النار استمرار الغضب الإلهي على أهل الجحيم ﴿وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها﴾[١٣] وإلا فلو كانت الرحمة متخللة ومتعاقبة عليهم ـ  كما هو الحال في عصاة الدنيا ـ لهان الأمر ، ولأمكن للعبد أن يستجدي النجاة في ساعة إقبال الله تعالى عليه .

[١٢] . سورة طه : الآية ٧٤ .
[١٣] . سورة فاطر : الآية ٣٦ .