Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ ٩ عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ ١١ أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كـَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِيَةَ ١٨ كـَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩ ١٩
  • تلاوة الآيات ٩ إلى ١٩

أقبح الجريمة

إن الآيات الثلاث التي تبتدئ بـ ﴿أَرَأَيْتَ﴾ تُبدي التعجّب من فعل الناهي لمن صلى ، ومَن كان على الهدى وأمر بالتقوى ؛ وذلك لبيان شدة قبح هذا العمل بما يثير استغراب الرب المتعال ، وما يلزمه بعد ذلك من العذاب الأليم!
والملفت في الأمر : أن الله تعالى يذكر قاعدة لردع أمثال هؤلاء ؛ ألا وهي استذكار حقيقة أن كل ذلك بعين الله تعالى في الحياة الدنيا ؛ فإن ظاهر الخطاب متوجه للمشركين الذين ما أنكروا وجود خالقهم ، فأرادت الآية أن تجعل لازمة هذا الاعتقاد هو الخوف من مراقبته ، وهو يغني عن التهديد بالنار يوم الجزاء ، فبذلك توجّه خطاب المراقبة حتى إلى هؤلاء ، كما توجّه خطاب التزكية إلى فرعون حيث قال تعالى ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[١] .

[١] . سورة طه : الآية ٤٤ .

الحلم والكرم الإلهي

جرت عادة القرآن الكريم على التلميح بانفتاح أبواب التوبة في أسوأ حالات المخالفة ـ  بعثا للأمل في النفوس المستغرقة في المعاصي والتي أسرفت على نفسها ـ ومنه ما في سورة البروج حين يقول تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾[٢] فجعل تنجّز العذاب منوطا بعدم التوبة ، حتى في مورد هذه الجريمة الكبرى .
ومنه ما في هذه السورة حيث لمّح بالتوبة أيضا ، رغم أن السياق هو سياق التهديد لصاحب الناصية الكاذبة الخاطئة ، المستمر في نهيّه عن الصلاة حيث عُبّر عنه بالفعل المضارع ﴿أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏﴾ فقال تعالى عنه ﴿كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ ففتح له بابا إلى الانتهاء ، فكم هو حِلم أكرم الأكرمين ، حيث يخلل التوبة والصفح في موارد التهديد أيضا!

[٢] . سورة البروج : الآية ١٠ .

معاداة أهل الصلاة

إن التوبيخ والتهديد وإن كان متوجّها لخصوص مَن نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة ، بقرينة ما في ختام السورة من الأمر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم الطاعة لعدوه والسجود والاقتراب لمولاه ، إلا أنه يُفهم منه ملاكا ، أن معاداة المؤمن لإيمانه ـ  وخصوصا من أجل إتيانه بصلاته ـ لمن موجبات الغضب الإلهي ؛ إذ إن فيه تحدّيا لأشرف مخلوقاته في أشرف طاعاته ، وهذا التحدّي بدوره يعود إلى الله تعالى ، وهو أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة!

العداوة قبل البعثة وبعدها

إن هذه السورة ـ  بناء على أنها بجميعها أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ تدلّ على عظمة النبي قبل البعثة أيضا ، من جهة وصفه بأنه كان على الهدى ، وأنه أمر بالتقوى ، وأنه كان يصلي وإن لم نعلم جزئيات صلاته ، وإلا لا وجه للعتاب والتهديد في هذه الآيات إن كانت المذكورات ستقع مستقبلا! .
ومن المعلوم هنا : أن عناد القوم وأذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة وبعدها ، لم يكن متوجّها إلى عنوانه الشخصي بل لعنوانه الرسالي ، ومن هنا عبّرت الآية عنه ﴿عَبْداً إِذا صَلَّى﴾ بدلا من ذِكر اسمه الصريح ، وهذا أيضا وسام آخر من أوسمة الرب لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث وصفه بالعبد في حال كونه نكرة ، والدال بطبعه على عظمة هذا الأمر!

التقوى شرط الهداية

قرن الله تعالى بين الأمر بالتقوى والكون على الهدى في قوله ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى﴾ ومن المعلوم أن الذي يحق له الأمر بالتقوى من كان متلبسا به ، فكيف يكسو العاري غيرَه لباس التقوى؟!
وينبغي الالتفات إلى أن الآية جعلت متعلق أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نتيجة العبادات وهي التقوى ﴿بِالتَّقْوى﴾ لا نفس العبادة ، فالمطلوب الغائي من الصوم ـ  مثلا ـ ليس نفس عملية الكف عن الطعام والشراب ؛ بل حالة التقوى الحاصلة من ذلك ، ومن هنا ذُكرت الغاية من الصيام بقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[٣] وهذا هو المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى في أن يحققوا النتيجة ، لا إسقاط التكليف بذكر المقدمات فحسب .

[٣] . سورة البقرة : الآية ١٨٣ .

إذلال الكافرين

إن الله تعالى يتعمّد إذلال الطغاة يوم القيامة ، فهم يُحشرون يوم القيامة على مثل الذر ، تطؤهم الأقدام إلى أن يفرغ الله تعالى من حساب الخلق ، وفي هذه السورة نقل لصورة اُخرى من صور الإذلال ، ألا وهو الأخذ بالنواصي وهو شعر مقدّم الرأس بجذب شديد ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ فيُجعل المجرم في قبضة من يسوقه في كمال الذلة ، وهذا يستلزم طأطأة رأسه والذي به قوام الاعتزاز والشموخ عادة .
وليُعلم أن هذه النواصي متصفة بـ ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ فخصّت الآية الكذب قبل ذِكر عموم الخطيئة ؛ لأن الكذب منشأ لكثير من الشرور وهو من أقبح الخطايا!  . . وعليه ، فإن المؤمن المستضعف عندما ينظر في الدنيا إلى نواصي الطغاة في دار الدنيا ـ  وهي التي تحمل ما تحمل من الرتب الزائفة ـ فإنه يتذكّر ما سيؤول إليه أمرهم عما قريب ، وهذا الإحساس بدوره يهبه شيئا من العزة باطنا ، والصبر خارجا .

ضمان نجاح المبلغين

إن الوعيد والتهديد من مستلزمات نجاح الدعوة مقترنا طبعا بالوعد والتبشير ، وقد وردت صيغ من التهديد في هذه السورة بالنسبة للطغاة المترفين كقوله تعالى ﴿أَرَأَيْتَ﴾ و﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾ و﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ .
وليُعلم أن هذه الصيغة من التعامل لازمة لإزالة الموانع في طريق الدعوة إلى الله تعالى ، فالذي لا يملك الحسم والعزم في الدعوة إلى الله تعالى ، لا يكون على منهاج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قامت دعوته على التولّي والتبرّي والمفهومة من :
شهادة الإسلام بشقّيها من (النفي والإثبات) في قول : لا إله إلا الله .
ما يُفهم من (النهي والأمر) في قوله تعالى ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ .

المؤامرات المتواصلة

إن الكفار طوال العصور كانوا حريصين على جمعهم واجتماعهم ـ  سرا كان أو علنا ـ لمواجهة المؤمنين الذين كان أملهم بالله تعالى ، إذ لم يعلّقوا مواجهتهم للكفار على تشكل ناد لهم يجتمعون فيه كاجتماع الكافرين ، ولكن القرآن الكريم يستهزئ بمثل هذه المجالس التي تلاشت في الآخرة قائلا ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ووجه الاستهزاء :
أنّى لهم بمثل هذا الاجتماع في نار جهنم وهم في قبضة المنتقم الجبار .
أنّى لهم بمواجهة جمع الزبانية وهي الملائكة الموكلة بالنار ، إذ لا وجه يومئذ للمقارنة بين نادي الكفر والإيمان .
وعليه ، فإن على المؤمن تذكّر مثل هذه العاقبة ـ  وهو في الحياة الدنيا ـ ليعطيه عزما وثباتا في مواجهة خطط أهل الباطل ، والتي لا تخلو من حنكة ومكر ، كما هو الملاحظ في هذه الأيام .

نوادي الكفار

إن نوادي وأحزاب الكفار ـ  على تعدّدها وتنوّعها طوال العصور ـ إنما هي من لون واحد ، فالنادي الذي كان يجمع أبا لهب وأبا جهل كدار الندوة بمكة المكرمة ، هو بجوهره يمثل رؤساء الكفر والضلالة في كل العصور  . . وعليه ، فإن القانون الذي سرى على تلك النوادي من الاندثار والمحق ، سيجري على هذه النوادي أيضا ، فهو الذي يُهلك ملوكا ويستخلف آخرين!
وكذلك فإن آية ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾[٤] تشير إلى هذه الحقيقة أيضا ، فهي دالة على خسران جبهة الباطل في كل العصور أيا كان صاحبها ، وهو ما عبر عنه الله تعالى أيضا من الهلاك والتباب عن فرعون أيضا قائلا ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾[٥] فاجتمع التعبير بـ ﴿تَبَّتْ﴾ و﴿تَبَابٍ﴾ لعَلمين من أعلام الكفار طوال التاريخ .

[٤] . سورة المسد : الآية ١ .
[٥] . سورة غافر : الآية ٣٧ .

السجود سبيل القرب

قيل : إن المراد بالسجود في ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ كناية عن الصلاة لمقابلة نهي الناهي عن الصلاة ، وذلك تحدّيا له وعدم اكتراث بنهيه ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ ولكن من الممكن أن يكون السجود هنا مرادا بنفسه ـ  بناء على مطلوبية السجود وإن كان خارج الصلاة ـ سواء بمعنى السجود العام ، أو السجود عند تلاوة هذه السورة المشتملة على السجدة الواجبة .
والروايات مستفيضة حول أهمية السجود ، وأن العبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد ، وقد عطفت الآية الكريمة الاقتراب من المولى ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ على السجود ﴿وَاسْجُدْ﴾ لأنه من أهم المواضع التي يتقرب فيه العبد إلى ربه .

سرّ نجاح الدعوة

إن الالتجاء إلى الله تعالى هو سمة جميع الأنبياء حين دعوتهم الناس إلى الله تعالى ؛ وذلك لكثرة المشاق في هذا السبيل ، وفي هذه السورة أيضا جاء الأمر بأن تكون القراءة ـ  وهي سمة من سمات الدعوة إليه ـ متحققة باسم الرب الخالق المعلّم بالقلم .
فعليه لا بُد أن (تبدأ) الدعوة من خلال التوجّه إليه تعالى ، کما في هذه السورة ، وفي سورة الشرح جاء الأمر بأن (تنتهي) الدعوة أيضا بالتوجّه إليه تعالى قائلا ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ فالرغبة إليه تعالى وإتعاب النفس في عبادته ، أمر لازم في شروع الدعوة وحينها وبعدها ، وهذا هو سرّ نجاح دعوة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تبعه من آله الكرام إلى يومنا هذا .

مزايا أول سورة

إن من مميزات هذه السورة كأول ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها تؤكد على حقيقة :
اعتقادية : تتمثل في التأكيد على ربوبية الله تعالى للكون بعد خالقيته ، مع الالتفات إلى لوازمه من الطاعة والانقياد .
علمية : تتمثل بدعوة الإنسان إلى العلم والتعلّم ، سواء ما كان منه بالقلم ، أو بتعليم الله تعالى مباشرة كالعلوم اللدنية .
أخلاقية : تتمثل باستشعار محضرية الله تعالى في الوجود ، وأنه يرى كل ما يصدر من العبد خيرا كان أو شرا .
عملية : تتمثل بالأمر بالصلاة أو بخصوص السجود ، كأهم فرع من فروع الدين .