Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس تفسير المتدبرين
قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ ٢ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ ٤ وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٥ لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦

فئة خاصة من معاندي الكفار

إن الخطاب للكافرين في هذه السورة ـ  وإن كان مطلقا ـ إلا أنه ناظر إلى صنف خاص كان على زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا النوع من أعتى جماعة الكفار على مر العصور ، لاجتماع جهالتهم مع عنادهم!  . . فسيقت الآيات لليأس من إيمانهم ، وإلا لطالما انسلخ الكفار عن كفرهم ، كالذين آمنوا بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ، وكالسحرة الذين آمنوا بموسى (عليه السلام) بعد طول جحود .

مرتبة الأبحاث العقائدية

إن هذه السورة أكدت في أربع آيات ـ  متشابهة في أصل المضامين ـ على حقيقة جوهرية ألا وهو عدم المشاركة في العبادة بين الخصمين اعني خط الإيمان وخط الكفر ، لأهمية الجانب الاعتقادي في بنية المؤمن وخصوصا فيما يتعلق بالتوحيد ؛ لأن كل سلوكياته تتأثر بهذا الأصل الأصيل .
ومن المعلوم أن عدم المهادنة في هذا الأصل الثابت ، لا ينافي المصالحة فيما لا يمس أصل العقيدة ، ومن هنا صالح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكفار كما في صلح الحديبية ، بل أمره الله تعالى بالصلح في موارده لقوله تعالى ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾[١] .

[١] . سورة الأنفال : الآية ٦١ .

الفرق بين الاستسلام والصلح

إن استعمال النفي بـ ﴿لا﴾ الدال على النفي في الاستقبال وذلك في بيان موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبادة آلهتهم وموقف الكفار لعبادة الله تعالى ؛ يدل على أنه لا التقاء بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين خصومه إلى الأبد .
ومن هنا انتفت المداهنة في مجال العقائد وان أمكنت الهدنة في مجال القتال ، وقد حسم القرآن الكريم ذلك بقوله ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[٢] بمعنى أن التنازل عن المبدأ هو السبيل الوحيد لإرضاء الغير ، وهيهات أن يكون ذلك!

[٢] . سورة البقرة : الآية ١٢٠ .

الاحتمالات المختلفة في “ما”

إن استعمال ﴿ما﴾ المسوقة لغير ذوي العقول ؛ واقع في محله بالنسبة إلى آلهة الكفار في ﴿لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ لكونها أصناما لا تعقل ، وأما بالنسبة إلى الاستعمال نفسه في المعبود الحق في ﴿وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ﴾ فلا بُد من توجيه الأمر ، وذلك بالقول أن ذلك إما من باب : المشاكلة في التعبير ، أو إطلاقه على طريقة العبادة ، وإما بمعنى المصدر أي ولا أنتم عابدون عبادتي .

التوحيد في العبادة

إن الخلاف بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكفار زمانه لم يكن في الخالقية ، فهم لم ينكروا الخالق كما يقول القرآن الكريمُ ﴿وَ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى﴾[٣] وإنما الخلاف في طريقة العبادة وممارسة الشرك فيها أي الإخلال بالتوحيد في العبادة ، ومن هنا كان محور هذه الآيات في مادة اشتقاق العبادة وما يتعلق بها .
وليُعلم أن كثيرا ممّا يفعله المراؤون في العبادة ممّن يؤمن بالله تعالى ؛ يعود إلى الخلل في هذا الجانب الذي وقع فيه الكافرون ، فما الفائدة في العبادة التي لا توحيد فيها؟!

[٣] . سورة الزمر : الآية ٣ .

التعبير الفعلي والوصفي

إن من أهداف الآيات الظاهرة في التكرار هو تثبيت هذه الحقيقة ، وهو عدم إمكان عدول المتخاصمَين عن عبادة من يعبده ، وإن اختلف التعبير في جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ ﴿لا أَعْبُدُ﴾ الدالة على الفعل تارة و﴿وَ لا أَنا عابِدٌ﴾ الدالة على صفة الفاعل تارة اُخرى ، فكان مجموع التعبيرين أبلغ في مراهنة النبي‘ لخصومه!

سبب التكرار

إنه من الممكن القول ـ  دفعا للتكرار المخالف للأصل ـ بأن :
التكرار في الآيتين ناظر إلى دعوة الكفار للنبي ‘ لأن يعبد آلهتهم في سنة وليعبدوا هم إلهه في سنة اُخرى ، فكان النفي باعتبار تعدد سنوات التبادل في العبادة .
﴿ما﴾ في الأوليتين هي موصولة ناظرة إلى المعبود ، بمعنى نفي عبادة معبود كل منهما و﴿ما﴾ في الأخيرتين هي مصدرية ناظرة إلى طريقة العبادة ، فمحصل الآيات ـ  على هذا التقدير ـ أن الاختلاف واقع في أصل المعبود وفي طريقة العبادة أيضا .
قوله تعالى ﴿لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ناظر إلى الحال بلحاظ الفعل المضارع فيها ﴿وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ﴾ بلحاظ الفعل الماضي ، فكانت الآيتان في المجموع دالتين على انتفاء العبادة في كل الأزمنة .

حظر المساومة مع الكافرين

إن تقديم الجار والمجرور على المبتدأ في قوله تعالى ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ﴾ دال على حصر الدين الحق والباطل بأصحابها ؛ فإن دين الكافرين لا يتعدى منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا العكس!  . . ولا يخفى ما في هذا البيان أيضا من التأكيد على عدم الاشتراك في الدين ، وأنه لا مجال للمهادنة في أصل من الأصول .

تهديد من خالف الاسلام

لا مجال للتوهّم بأن الآيات الدالة على سماح كل فريق بالتمسك بدينه ، دالة أيضا على حرية الاعتقاد بأي معتقد ، حقا كان أو باطلا ـ  وهو ما يروّج له أهل الضلال في كل عصر للانفلات من تقيّد الشريعة ـ فإن مجمل القرآن الكريم هو نداء التوحيد وبطلان أي دين غير الإسلام ، فكانت هذه الآيات مستبطنة للتهديد بمعنى القول : أنّه كونوا على دينكم فسترون عاقبة أمركم!  . . ويجري ما قلناه أيضا في قوله تعالى ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾[٤] .

[٤] . القص سورة ص : الآية ٥٥ .

مواقف المؤمن المختلفة

إن المؤمن له مواقف مختلفة بحسب الجهة التي يواجهها :
فمع المؤمن الغافل له موقف التذكير ﴿وَذَكِّرْ فإن الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[٥] .
ومع المؤمن الفاسق له موقف الأمر بالمعروف ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[٦] .
ومع المؤمن الباغي له موقف الإصلاح ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللهِ﴾[٧] .
ومع المهاجم الكافر له موقف القتال ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾[٨] .
ومع الكافر المسالم له موقف المهادنة ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾[٩] .

[٥] . سورة الذاريات : الآية ٥٥ .
[٦] . سورة آل عمران : الآية ١٠٤ .
[٧] . سورة الحجرات : الآية ٩ .
[٨] . سورة البقرة : الآية ١٩٠ .
[٩] . سورة الممتحنة : الآية ٨ .

فوائد التكرار

إن التكرار في القرآن الكريم أسلوب معهود لتركيز معنى يريد المولی تركيزه بهذا التكرار ـ  وهو أعلم بمراده وما يفيد عباده ـ ومن ذلك تكرار قوله تعالى ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾[١٠] أكثر من ثلاثين مرة في سورة الرحمن لترسيخ معنى الشكر ، وآية ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾[١١] عشر مرات في سورة المرسلات لترسيخ التهديد المتوجّه للمكذّبين ، وآية ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾[١٢] في سورة المدثر لترسيخ معنى الدعاء عليهم ، وآية ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾[١٣] في سورة التكاثر لترسيخ معنى التخويف بيوم المعاد ، ومنه ما في هذه السورة من نفي أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دينه مجاراة للكافرين حيث تكرر المضمون ولو بتعبيرين حيث قال تعالى : ﴿لا أَعْبُدُ﴾ و﴿ولا أَنا عابِدٌ﴾ .

[١٠] . سورة الرحمن : الآية ١٣ .
[١١] . سورة الطور : الآية ١١ .
[١٢] . سورة المدثر : الآية ١٩ .
[١٣] . سورة التكاثر : الآية ٣ .

القيادة ووظيفة التبري

إن القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى تولّي أولياء الله تعالى والتبرّي من أعدائه ، ومن أوضح ما دعا إليه هو ما ذُكر في أول سورة براءة حيث قال تعالى ﴿بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[١٤] .
وفي هذه السورة أيضا هناك صورة من صور الدعوة إلى البراءة من الكافرين ، وذلك بعدم مداهنتهم على دينهم ، ومن المعلوم أن الخطاب متوجّه بالخصوص إلى قادة الأمة وعلى رأسهم النبي الأكرم ‘ فإن المداهنة تبدأ ممّن هم على رأس القيادة إذا لم يتسموا بالتقوى .

[١٤] . سورة التوبة : الآية ١ .