- ThePlus Audio
آفة الانقسام والتناحر
إن المجتمع المتآلف البعيد عن النزاعات لهو مجتمع قريب إلى تحقيق السعادة الاجتماعية والإيمانية ، ولهذا فإن النبي الأكرم ‘ ما كان يمكنه العمل في ترسيخ الدعوة الإلهية في المدينة إلا ضمن هذه الألفة الاجتماعية . . ومن هنا مَنّ الله تعالى بذلك حيث قال ﴿وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِم﴾[١] وحذّرهم من الفرقة اللاحقة إلى يوم القيامة حيث قال ﴿وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ ريحُكُم﴾[٢] .
ومن المعلوم أن التناحر والتخالف ـ عدا أنه آفة في حدّ نفسه ـ فإنه من موجبات تسلّط الأعداء المتربّصة بالأمة .
حكمة الأمن والألفة
بناء على إنه ارتباط هذه السورة بما قبلها[٣] ـ كما يُستفاد من الحكم الفقهي بالجمع بينهما في قراءة الصلاة ـ فإن إهلاك أصحاب الفيل صار مقدمة للألفة بين قريش والأرض التي يعيشون عليها ، إذ لولا هذا الدفع الإلهي وزوال الخوف ، لانتشروا في البلاد طلبا للرزق والأمان وصاروا كاليهود ﴿وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَما﴾[٤] وبذلك تزول عنهم تلك المكانة والشرافة التي اكتسبوها من خلال خدمة البيت الحرام .
أضف إلى أنها مقدمة لنعمة اُخرى أيضا ، وهي أسفارهم بأمان صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن ، إذ لولا هذا الأمان لما تجرؤوا على ترك الديار ، وغور الفيافي والقفار طلبا للمعيشة ، وكان من الممكن أن يستوطنوا تلك الديار طلبا للأمان ، فتفوتهم بذلك بركات مجاورة البيت .
الانتقال لخدمة الشريعة
إن الانتقال والارتحال في مختلف الفصول لكسب المعاش لهو أمر راجح ، وإلا لما منّ الله تعالى على قريش بذكر هذا التنقل بأمان ، وذلك في قبال المنّة عليهم بتثبيتهم في جوار بيته الحرام ، المتوقف على الغنى والأمان .
وحينئذ نقول : إذا كانت قريش محتاجة إلى هذه الألفة لأمر دنياها من رحلة الشتاء والصيف طلبا للغنى والثروة ، فإن الأمة أحوج إلى الأمن وارتياح البال لأمر آخرتها وتوسيع رقعة الإسلام في النفوس ، كما إن الفرد أيضا أحوج لذلك لتحقيق القرب إلى الله تعالى .
ربط القلوب بالإحسان
إن تعداد النعم الإلهية من موجبات التنبّه والالتفات إلى المنعم ، وهذا الأمر مغروس حتى في الدواب الصامتة إذ تتعلق بإحسان عالفها ، وفي هذا السياق نرى بأن الله تعالى جعل توجّه النعم إلى قريش من : الألفة وتيسير رحلة الشتاء والصيف والإطعام والأمان ؛ مقدمة للدعوة إلى عبادة رب البيت .
ومن الممكن الاعتماد على هذا المبدأ في تعامل الخلق مع بعضهم ، فما المانع أن يعدّد الأب نعمه على ولده بداعي دعوته إلى البرّ ؛ لا لمنّة له واستعلاء عليه؟!
التذكير بأنه صاحب البيت
إن البيت الحرام له شرافة متميزة عند الله تعالى ، فهو تارة ينسبه إلى نفسه قائلا ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾[٥] وتارة ينسب نفسه إليه قائلا ﴿رَبَّ هذَا الْبَيْتِ﴾ وفي هذا التنويع في النسبة دلالة على عظمة البيت .
ولا تخفى المناسبة لذِكر البيت في هذه السورة ، حيث أن الرب الذي دفع البلاء عن هذا البيت ومَن حوله ، هو المستحق لأن يُعبد حصرا ، فعاد الأمر إلى باب شكر النعمة الذي تألفه عامة النفوس ، لا التعبّد المحض الذي يألفه الخواص من العباد .
الترتب المنطقي بين السورتين
إن العقل حاكم على أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة ، والله تعالى بيّن لقريش كيف أنه دفع الضرر عنهم أولا بإهلاك أبرهة ومن معه ، وأنه جلب لهم منفعة الأمن والإطعام ثانيا ، وبهذا يتحقق الترتب المنطقي بين السورتين .
وعليه ، فإن تمام النعمة من العبد الكريم ـ تأسيّا بمولاه ـ هو أن يجمع بين دفع الضرر عمّن يراد إكرامه ، وأن يجلب المنفعة له .
كرامة السابق من أجل اللاحق
إن قريشا على كفرها وسوء عملها من القتل ، والإغارة ، وأذاها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعد سنوات طويلة من الدعوة ، فإن الله تعالى أكرمها بما ذُكر في هذه السورة من الإطعام والأمن :
إعظاما لبيته الحرام ، لأنهم سكنوا بفنائه حتى قيل عنهم أهل الله .
وإعظاما لمن كان فيها أمثال عبد المطلب ، فإن الله تعالى يكرم بلدا بعبد صالح ، أو يدفع الأذى عنهم به .
واحتراما لمن سيُولد بينهم لاحقا وهو نبي من أنفسهم .
فما المانع أن يُكرم الله تعالى السابقَ وذلك كرامة للاحق؟! . . وهكذا كان علي (عليه السلام) يمنع سيفه عمّن يرى نورا في نسله .
الصلة بين المعاش والعبادة
إن عبادة الله تعالى تحتاج إلى نفس مستجمعة لقواها ، آمنة في معيشتها واجدة لقُوْتها ، ومما ينافي ذلك اختلال أمر المعاش من الجوع والخوف ، ومن هنا طالب الرب الحكيم عباده بالعبودية ـ في هذه السورة ـ بعد أن تفضّل عليهم بنعمة الإطعام والأمان ، ليرفع عنهم كل عذر في هذا الطريق .
ومما يؤيد ذلك ما نقله الإمام الصادق (عليه السلام) عن سلمان : «أو ما علمتم يا جَهَلة! . . أنّ النفس قد تلتاث [أي تحتبس عن الطاعة] على صاحبها ، إذا لم يكن لها من العيش ما يُعتمد عليه ، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت ، فأما أبو ذر ، فكانت له نويقات وشويهات ، يحلبها ويذبح منها ، إذا اشتهى أهله اللحم ، أو نزل به ضيف»[٦] .
الإطعام صفة إلهية
إن أصل الإطعام صفة محمودة جعلها الباري تعالى معطوفة على أصل الخلقة حيث قال تعالى ﴿قُلْ أَ غَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾[٧] وهي أيضا صفة من صفات أوليائه ، فما من نبي ولا ولي إلا وهو في غاية الإكرام إطعاما وغيره ، إلا أن الأمر يتأكد إذا كان ذلك عن جوع وفاقة وهو ما خصّته الآية الكريمة ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾ وخاصة مع الالتفات إلى صيغة النكرة في الخوف والجوع الدالة على التعظيم ، وهو أيضا ممّا جعله القرآن الكريم اقتحاما للعقبات حيث قال ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾[٨] .
أداة الإيقاظ والانتقام
إن الجوع والخوف صور من صور البلاء عموما ، كسُنّة من سنن الخلق حيث قال تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾[٩] وهنا لا بُد من الالتفات إلى أنهما قد يتوجّهان تارة إلى العباد في سياق العذاب والانتقام ، كما وقع للقرية الآمنة المطمئنة والتي كفرت بأنعم الله تعالى ﴿فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾[١٠] وقد يتوجّهان في سياق الإيقاظ لعبادة الله تعالى ، فإن طبيعة النفس قائمة على الغفلة والسهو ، فكان هذا النوع من البلاء سبيلا للردع والاستقامة ، ومنه ما في هذه السورة حيث قال تعالى ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ فكان الخلاص من الجوع والخوف مقدمة لعبادة رب البيت .
أعظم النِّعم الإلهية
إن نعمة الأمان وخلّو النفس من خوف ما يُخشى منه ، لمن أهم النعم التي يختصّ بها الله تعالى عباده في الدنيا وكذا في الآخرة ؛ لأن القلب الفارغ من كل مُشغل ، لهو القلب السليم الذي يمكن أن يكون محطّا لأنوار الجلال والجمال الإلهي ، ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[١١] : «القلب السليم الذي يلقى ربه ، وليس فيه أحد سواه»[١٢] .
فأما الشاهد على توجه هذه النعمة للمؤمنين في الدنيا فهو قوله تعالى ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[١٣] وأما في الآخرة فقوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾[١٤] فالبشارة بالأمن والأمان صارت مشتركة في النشأتين .
دعاء للأجيال القادمة
إن دعوة الأنبياء (عليهم السلام) عندما تُستجاب لهم ، فإنها تمتد إلى قرون متمادية ومنها دعوة إبراهيم الخليل (عليه السلام) لأهل مكة حيث قال ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾[١٥] وهو ما ذكرته هذه السورة استجابةً لدعوته ، حيث لم يخصّ الصالحين منهم برزق الثمرات بل عمّت النعمة لتبلغ الحجة بکمالها . . فما المانع من تأسي الداعي بإبراهيم الخليل (عليه السلام) لا في تعميم الدعاء لأهل العصر المعاصرين له ، بل لأهل كل العصور القادمة؟!