- الآيات ٦ إلى ١٦
- من سورة النبأ
- تلاوة الآيات ٦ إلى ١٦
الرؤية الطولية
إن الإنسان المؤمن يرى الأشياء من خلال انتسابها إلى مسبب الأسباب ، ولهذا يلتفت إلى الجاعل مباشرة عند النظر إلى ما جعله ، متذكرا قول ربه ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ﴾ عند نظره إلى الأرض ﴿مِهاداً﴾ والجبال ﴿أَوْتاداً﴾ فعين البصير ليست على الفعل ، ولا على ما يتم به الفعل فحسب ، وإنما على الفاعل الذي يُعدّ مبدأ للفيض ، لا على ما يراه من الآثار ، إذ إن «التردد في الآثار يوجب بعد المزار» كما في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) .
الآيات الکونية
إن ذكر الآيات الكونية بعد ذكر المعاد ، قد يكون إشعارا بأن من أدلة القيامة هو ما نراه من قدرة الخالق المتجلية في النشأة الأولى ، فمن له هذه القدرة في البدء ، كيف لا تكون له القدرة في الختم؟!
ولذلك ، فإن الآيات تستعمل ضمير الفاعل المتكلم متعددا ﴿بَنَيْنا﴾ و﴿جَعَلْنا﴾ و﴿أَنْزَلْنا﴾ و﴿لِنُخْرِجَ﴾ للتذكير المستمر بالقوة الفاعلة وراء كل مظاهر الحركة في هذا الوجود ، والتي يسندها المتكلم إلى نفسه في هذه الآيات ، الجامعة لشقّي النفي والإثبات .
التخلية ثم التجلية
بعد أن نفت الآيات الأولى تلك الأفكار الباطلة ، فانها ذکرت العقائد الحقة وذلک بالاستدلال والبرهان ؛ لتجتمع قوة النفي والإثبات معا ، فكما أن قانون التخلية ثم التجلية سارٍ في عالم التزكية الروحية ، فهو سارٍ أيضا في عالم التزكية الفكرية ، فمن دون تفريغ ذهن المخاطب من الأفكار الباطلة ، فإنه لا يتيسر إقناعه بالأفكار الحقة ، وهذا المعنى متحقق في شهادة التوحيد أيضا .
ظلمة اللجاجة
إذا انتفت اللجاجة والعناد عند المرء ، فإن النظر إلى ما حوله من العوالم المادية الثابتة كالأرض والجبال ، والطوارئ الحاليّة المتغيرة كسباتية النوم ومعاشية النهار ، ستكون من موجبات الارتباط بالمبدأ والمعاد ، إذ إن الحكمة المتجلية في جزئيات هذا الوجود لا تنقدح من داخلها كمادة صماء ، فلزم وجود قدرة حكيمة قاهرة خارجها ، هي المتصرفة في كل هذا الخلق البديع .
تشبيه الأرض بالمهاد
إن التعبير بمهادية الأرض ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً﴾ يذكّرنا بمهد الوليد بعد ساعة ولادته ، فهذا المهد موطن مؤقت له لأنه سينتقل بعدها في هذه الحياة ، إلى ما هو أرحب وأرقى كالقصور الفارهة!
وعندئذ نقول : بأن هذه الأرض بكل ما عليها ـ قياسا إلى الآخرة ـ تُعد كالمهد الصغير بالنسبة إلى تلك القصور ، بل إن النسبة أبعد بوناً من هذا المثال ، فالذي يأنس بهذه الأرض ، يكون بمثابة الوليد الذي يأنس بمهده الصغير ، تاركا القصر الكبير .
زوال مظاهر القوة
إن الله تعالى الذي خلق الجبال وجعلها أوتادا ، هو الذي سوف يُحيل هذه الجبال يوما ما إلى : كثيب مهيل [١] ، وإلى عهن منفوش [٢] ، وإلى هباء متناثر [٣] ، وإلى قاع صفصف [٤] ، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم ، وهذا بدوره يدل على أن كل مظاهر الجمال والقوة في هذا الوجود ، ستؤول يوما ما إلى الضعف والفناء ، وأن الذي يبقى إنما هو وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
السكون بعد المعاش
إن سلامة الجسد مرتبطة بالترتّبيّة والتوالي بين الحركة والسكون بنحو من أنحاء الترابط ، فالله تعالى هو الذي جعل النهار معاشاً بعد سباتية النوم ولباسية الليل .
وعليه ، فإن الذي لا يجعل بعد حركته المعاشية في النهار سكونا متمثّلا بسبات الليل ؛ فإنه بذلك يعاند قانون الخلقة ، وسيصاب بالتالي بآفات هذا العناد .
تذكر البعث باليقظة
إن عملية النوم ثم اليقظة بعدها ، شبيهة إلى حد كبير بحركة الإماتة والنشور ، فيتذكر العبد المراقب لنفسه حقيقة القيامة بعد كل يقظة ، وهذا بدوره يوجب له التذكر لكي يتزود لذلك اليوم العصيب .
ومن هنا يربط الدعاء الوارد بعد الاستيقاظ من النوم بين اليقظة والنشر ، إذ نقول فيه : «الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، والحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده»[٥] .
هدفية الخلق
إن القدير الحكيم جعل كل شيء في هذا الوجود مسخرا لهدف بعينه وهو ما ذكرته الآيات من هذه السورة :
فالنوم مقدمة للسبات والراحة ﴿وجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً﴾ .
والنشاط في النهار مقدمة لكسب المعاش فيه ﴿وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً﴾ .
والزوجية مقدمة للتناسل والتكاثر ﴿وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً﴾ .
والتجاذب الكوني بما فيه من أفلاك ومجرات مقدمة لاستقرار الأرض بما يصلح لسكنى النوع البشري ﴿وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدادا﴾ .
وإنزال المطر مقدمة لعمارة الأرض بالزراعة ، والابتهاج بمظاهر زينتها ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ونَباتاً﴾ .
ومن المعلوم أنه تعالى يريد من وراء أصل الوجود هدفا آخرا ، كي لا ينتهي هذا الوجود بالموت ، وهو المتمثل بإيصال العباد إلى الكمال الذي خُلقوا من أجله ، وهذا من أدلة المعاد أيضا ؛ لأن ما يجري فيه من الأحداث يُمثّل غاية الخلقة والإيجاد .
القدرة الواحدة
إن هذه السورة بعد ذكر المعاد ، تُكثر من ذكر الآيات الآفاقية ، ومنها إحياء الأرض وإنبات النبات ، وفي جميعها إشعار بقدرة واحدة في النشأتين ، وهي القادرة على الإحياء بكل صوره ، ومن هنا عبّر عن الإحياء بالإخراج ، وهو تعبير مشترك في إخراج النبات والأموات من الأرض .
نسبة الأمر إلى الرب والعبد
إن القرآن الكريم ينسب عملية العصر إلى السُحب الماطرة ﴿مِنَ الْمُعْصِراتِ﴾ فهي تعصر نفسها لتخرج ماء ثجّاجا ، ومن جهة اُخرى ينسب تعالى الأمر إلى نفسه ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ فالله تعالى هو المنزل لهذا الماء كعلّة للعلل ، وهكذا الأمر في كل موارد الوساطة في هذا الوجود ، ومنها الإماتة :
حيث ينسبها الله تعالى إلى نفسه تارة ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[٦] .
وينسبها إلى ملك الموت تارة اُخرى ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[٧] .
التخلق بحكمة الخالق
لا بُد أن نتخلّق بأخلاق الله تعالى ، إذ إن كل فعل من أفعاله ملحوق بحكمة بالغة ، فإنزال الماء يليه إخراج الحب والنبات ، فجاء لام التعليل لإفهام هذا المعنى ؛ كما في قوله تعالى ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ .
وكذلك العبد الحكيم ـ تأسيّا بهذا الخلق الإلهي ـ يجب أن لا يصدر منه فعل جزافي ؛ لأنه يجعل أصل سعيه في الدنيا مقدمة للسعادة الأبدية ، وشعاره في ذلك ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾[٨] .