- ThePlus Audio
الجمع بين التكذيب والانحراف
إن الاستفهام بـ ﴿أَ رَأَيْتَ﴾ يُفيد التعجّب ممن جمع بين التكذيب العقائدي والانحراف العملي ، وكأنّ هذا الموجود شاذّ من بين مخلوقات الوجود ، فيستحق أن يُشار إليه بصيغة التعجب وكأنه موجود نادر! . . والحال أن عامة الناس ـ لاعتيادهم على صور الانحراف ـ أنسوا بها ولم يروا قبحها ، ومن هنا ورد التأكيد الشديد على مقاطعة أهل الكفر ، وعدم السكنى في بلادهم عندما يُخشى فيها على أصل الإيمان أو على ثباته .
تأثير المعاد على السلوك
إن الدين في ﴿يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ قد يُراد به الإسلام ؛ حيث حصر الله تعالى الدين القويم به عندما قال ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ﴾[١] ولكن قد يراد به الجزاء كما في قوله تعالى ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾[٢] وهو صريح في القيامة إذ يتحقق فيه الجزاء ، وقد ورد في القرآن الكريم استعمال هذا الاشتقاق في الجزاء كما في قوله تعالى ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾[٣] .
ووجه التخصيص بهذا الأصل من أصول الدين في سياق الذمّ لمنكره ، هو أن تكذيب يوم القيامة يجعل المرء في حلّ من كل قيد ، لأنه لا يرى جزاء على فعله وهذا يدعوه لارتكاب كل موبقة ، وخاصة عند انطماس فطرته وموت وجدانه .
التراخي في أداء الحقوق
إن المقصّر في حق الله تعالى وهو المنعم الأعظم ـ بل لا منعم حقيقة سواه ـ يقصّر في حق المخلوقين بطريق أولى ؛ لأن من انطمست بصيرته عن رؤية ذلك الحق الحقيق ، كيف يمكنه الالتفات إلى ما هو دونه؟!
ومن هنا ربطت الآيات بين ترك الصلاة وعدم إطعام المسكين كما في قوله تعالى ﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين﴾[٤] كما ربطت بين عدم الإيمان بالله تعالى وعدم الحضّ على طعام المسكين ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[٥] ويأتي في هذا السياق أيضا ما ذُكر في هذه السورة من عدم الإيمان بالمعاد ، مقترنا بعدم الحضّ على طعام المسكين .
عدم الاستهانة
لا ينبغي للعبد أن يستهين بأية طاعة ، كما لا ينبغي أن يستهين بأية مخالفة وأن استحقرها ، فإن رضا الله تعالى وسخطه ووليه قد يكون فيما لا يتوقّعه العبد ـ كما يُفهم من بعض الأخبار ـ ولهذا عندما يُسأل أهل النار عما سلكهم في سقر ؛ فإنهم يذكرون في الجواب ترك طاعة خفية ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾[٦] وفعل مخالفة خفية أيضا ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾[٧] ومنها ما في هذه السورة من ترك الحضّ على طعام المسكين ﴿ولا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾ وهو أخفى من ترك أصل الإطعام ، عند بيان صفات المكذّب بالدين ﴿ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين﴾ .
التعبير بـ “طعام” وليس “إطعام”
إن القرآن الكريم يذكر في موارد عديدة أن المال مال الله تعالى ، وقد جعل العبد مخوّلا في إنفاقه كقوله تعالى ﴿وَ أَنْفِقُوا ممّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفينَ فيه﴾[٨] و﴿وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذي آتاكُم﴾[٩] ولازم ذلك أن من منع عيال الله ما أمر الله تعالى بإنفاقه صار خائنا للأمانة ، وقد روي في حديث قدسي : «المال مالي ، والفقراء عيالي ، والأغنياء وكلائي ، فإن بخل وكلائي على عيالي ؛ أخذت مالي ولا أبالي»[١٠] .
وفي هذه السورة إشارة إلى هذه الحقيقة من بُعد آخر ، وذلك عندما يُسند الطعام ـ لا الإطعام ـ إلى المسكين ، فكأنّه يُشعر بأن حقيقة الإطعام إيصال الطعام إلى صاحبه ، فكأنّ الشريك أرجع حصة الشريك إلى شريكه ، ويؤيده ما في آية اُخرى ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[١١] . . فأي فخر في ذلك؟!
الذم لغيرالحرام الفقهي
إن ما يلفت في هذه السورة أن بعض ما ذُكر في سياق الذمّ الشديد بالتعبير بـ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ تارة والتعبير بـ ﴿فَوَيْلٌ﴾ تارة اُخرى ، لا يُعدّ حراما بالمعنى الفقهي ؛ وذلك كعدم الحضّ على طعام المسكين ، ومنع إعانة الغير .
ولحلّ الغرابة في هذا الأمر من الممكن أن يُقال :
إن العُمدة في مِلاك الذمّ هو التكذيب بيوم الدين المستتبع لهذه الأمور ، والتي عبّر عنها بفاء السببية في ﴿فَذلِكَ﴾ .
إن هذا الفعل كاشف عن دناءة في النفس توجّه الذمّ إليها بسببها ، فقد يُعذر الإنسان في عدم إطعام الطعام ، ولا يُعذر في عدم حضّ غيره عليه .
عاقبة الساهي عن الصلاة
إن (الويل) وهو التعبير عن شدة العذاب يوم القيامة ، تكرر أكثر من عشر مرات متوجّها إلى المكذّب بيوم الدين ، وقد فُسِّر المكذّب في هذه السورة بـ (الساهي عن صلاته) والذي هو معنى يغاير التارك لها ، وحينئذ لنا أن نقول كيف يمكن تصوّر عذاب من ترك الصلاة في كل حالاته؟!
الجمع بين صفتين
إن التعبير بـ (الويل) للمصلي في هذه السورة متوجّه إلى من يسهو عن صلاته ـ لا في صلاته لأنه لا يخلو منه حتى المؤمن ـ وذلك بمعنى الاستهتار بها وتضييعها : إما بأدائها مقطّعة ، أو تأخيرها من دون عذر ، أو أدائها رياء ، ومن لوازم هذه الصفة عدم المبالاة بحاجة الغير ﴿وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ﴾ إذ إن مَن لايُعين نفسه على مصالحه ، كيف يعين غيره على حوائجه؟! . . وبهذا يتبيّن الربط بين الآيتين .
الرياء وإنكار المعاد
إن من الطبيعي أن يطلب المنكر للمعاد جزاءه من المخلوقين ، إذ إن طبيعة النفس تهفو إلى الجزاء والمدح ، ومن هنا فإنهم يلجأون إلى الرياء طلبا للزلفى من أهل الدنيا ، وهذه صفة مستمرة لهم حيث يقول تعالى ﴿يُراؤُنَ﴾ بالفعل المضارع . . وفي المقابل فإن الخوف من تبعات المعاد ، يجعل همّة العبد مقصورة على طلب رضا مولاه ، الذي يجازي بأحسن الجزاء ، وهو ما ذكره القرآن الكريم عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث قالوا ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾[١٢] .
وعليه ، فمَن تذكّر هذه العودة إلى الله تعالى وعاشها بكل وجوده ، فإنه لا يحتاج إلى مجاهدة لتحقيق الإخلاص في كل مورد ، بل مع الاستحضار الدائم لهذه الحقيقة ، فإنه لا يحتاج إلى كثير مجاهدة في مجال تحقيق الإخلاص .
التكاليف الخالقية والمخلوقية
إن الإسلام دين الجامعية بين ألوان التكليف فمنها :
ما يتعلق بالخالق وعلى رأسها الصلاة ، والدعوة إلى عدم الرياء فيها ﴿الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ﴾ .
ما يتعلق بالمخلوقين والتي فصّلتها السورة في آيات عديدة فمنها : ترك دفع اليتيم ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ والحضّ على طعام المسكين ﴿وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾ ومنع إعانة الغير ﴿وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ﴾ .
وعليه ، فإن مَن يتذرّع بالعبادة لترك خدمة العباد ، لهو بعيد عن روح الإسلام الجامع .
الانحرافات العقائدية ثم السلوكية
إن البعض يتساهل في الانحراف العقائدي لدى الغير ويراه أمرا شخصيا في دائرة حريته ، والحال أن هذا الانحراف قد يکون منشأ للانحرافات السلوكية القبيحة التي ذكرتها الآية بعد التكذيب بالدين : كردِّ اليتيم بجفاء بل إلى درجة يخرج بها الإنسان عن الذوق العرفي العام ، وذلك فيما لو فسّرنا الماعون بغير الزكاة أي ما هو جامع لمنافع البيت مثل : القِدْر ، والفأس ، والقصعة ، ونحو ذلك ممّا تعوّد النَّاسُ إعارتَه . . وقد فسّره الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله : «هو القرض يقرضه ، والمتاع يعيره ، والمعروف يصنعه»[١٣] .
الشريعة السمحة
إن هذه السورة ـ عند بيان الجانب التكافلي ـ لم تذكر أمرا وجوديا يعود إلى المكلّف نفسه ، بل هي داعية إلى عدم دفع اليتيم وعدم منع الماعون وكلاهما أمران عدميان ، كما هي داعية إلى الحضّ على طعام المسكين وهو لا يستلزم إنفاقا من مال المكلّف نفسه . . ومن مجموع ذلك نفهم أن الشريعة سمحة تريد منا كفّ الشر في موارد ، وتشجيع الغير على الخير في موارد اُخرى .
علاج تبلد المشاعر
قد تمر فترة على الإنسان يُبتلى فيها بتبلّد المشاعر تجاه المعوزين حوله من الأيتام والمساكين ، والعلاج لهذه الحالة يكمن في فيما ذُكر في هذه السورة من : تفقّد الأيتام ، والمسح على رؤوسهم لإثارة تلك المشاعر ، وإطعام المساكين والحث عليه ، ولكن المشكلة في استمرار هذه الحالة من قسوة القلب .
وعليه ، فإن لسان الذمّ في هذه السورة توجّه إلى تلك الحالة المستمرة الكاشفة عن موت المشاعر لا عن تبلّدها ، ولهذا جاء التعبير بـ ﴿يَدُعُّ﴾ و﴿لا يَحُضُّ﴾ و﴿يَمْنَعُونَ﴾ وكلها دالة على الاستمرار بدلالة فعل المضارع .
علامة الدناءة
إنّ طلبَ العبد من غيره شيئا ممّا يعينه ـ أي الماعون الذي فُسِّر بما يشمل الملح والماء والنار ، وهي أمور صغار من المتاع ـ مستلزم لإراقة شيء من ماء وجهه ، ولا يخفى ما في أي سؤال من ذلّ حتى لإراءة الطريق ، ومن هنا كان هذا المنع ـ وخاصة فيما لو كان الأمر حقيرا ـ من صفات اللئيم! . . ولهذا جعله الله تعالى في سياق الويل الذي لا يذكره القرآن الكريم إلا في عظائم الأمور ، وقد ورد عن النبي ‘ أنه قال : «من منع الماعون جاره : منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكله إلى نفسه ؛ ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ حاله»[١٤] .
الصلة بين الصلاة والزكاة
إن القرآن الكريم طالما ربط بين الصلاة والزكاة ، فإنهما يشتركان في ترك الانشغال بالغير : ففي الصلاة يترك الإنسان الأغيار في (الباطن) متمثلة بمتفرقات الأفكار ليتوجّه إلى الخالق ، وفي الزكاة يترك الأغيار في (الخارج) متمثلة بالأموال ليتوجّه إلى المخلوق .
وفي هذه السورة أيضا إشارة إلى قريني الصلاة والزكاة بقوله تعالى ﴿صَلاتِهِمْ﴾ و﴿الْماعُونَ﴾ ولكنها تتناول أوضح المصاديق وأكثرها إثارة للرقة ، ففيها الحديث عن الطعام وهو من ضرورات الحياة ، وعن المسكين وهو من أضعف طبقات الفقراء ، وعن الحض وهو من أسهل التكاليف!
الملحق بالمنافقين
إن سِمة أهل النفاق هو التقاعس في كل أبعاد الشخصية الإنسانية فهم في :
مجال العقائد لا حجة لهم في مقابل أهل الحجة ، فيلجأون إلى التكذيب وهو أمر سهل لا يحتاج إلى مؤونة ﴿يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ .
مجال العبادات ساهون عنها غير مكترثين بها فتفوتهم كثيرا أو دائما ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ وإذا قاموا بها كانوا من أهل الرياء وطلب الثناء والجزاء ﴿يُراؤُنَ﴾ .
مجال التعامل مع المخلوقين لا يشعرون بآلامهم ولا يحضون على طعامهم ﴿وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾ ويمنعون الماعون منهم رغم حقارته ﴿وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ﴾ بل يدعون اليتيم منهم ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ .
فأية صفة من صفات الإنسانية بقيت فيهم؟! . . وعليه ، فمَن كانت فيه هذه الصفات فهو ملحق بهم وإن كان في عداد المسلمين!
طريقان إلى الفلاح
إن المحصلة النهائية من هذه السورة المباركة هي أن طريق فلاح المجتمع متقوّم بأمرين ، لا بُد أن يهتم بهما أولياء الأمر في كل عصر :
الاهتمام بالأمور التربوية : وعلى رأسها الصلاة من حيث إنها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، ومن هنا أكدت آية اُخرى على أن من أولى مهام الذين يمكّن الله تعالى في الأرض ، هي إقامة الصلاة لقوله تعالى ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾[١٥] .
الاهتمام بالأمور المعاشية : وعلى رأسها تكفل الأيتام والطبقات المستضعفة في المجتمع وهم المساكين ، وخصوصا فيما يتعلق بالمأكل الذي هو القدر المتيقن من حاجة الإنسان في هذه الحياة .