- الآيات ١ إلى ٣
- من سورة القدر
- تلاوة الآيات ١ إلى ٣
عظمة القرآن
لقد وردت في هذه السورة صور عديدة من صور التأكيد على عظمة القرآن ، منها :
التعبير بالضمير دون التصريح بالاسم ، وكأنه معلوم بالبداهة .
إن الله تعالى اختار ظرفا زمانيا هو من أشرف الظروف ، والمتمثّل بليلة القدر .
كما اختار له قلب أشرف الكائِنات ليتلقاه دفعة واحدة ، بمقتضى قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ إذ كما أن المُلقى وهو القرآن الكريم شُرِّف بالمتلقِّي وهو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المتلقِّي أيضا شُرِّف بالقرآن الكريم .
صار التعبير بضمير الجمع الدال على التفخيم ، كقوله تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا﴾[١] و﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾[٢] .
ليلة القدر وعاء النزول
إن هناك حقيقة ملفتة في هذه السورة ، وهي أنها تبدأ بذِكر إنزال القرآن الكريم ، وكان السياق الطبيعي أن يستمر الحديث عنه ، وإذا بالسياق يتوجّه دفعة إلى ليلة القدر ، كما لو قلت : أنزلت ضيفا عظيما في المكان الفلاني ، وبدلا من ذِكر عظمة الضيف ، تذكر خصوصيات ذلك المكان!
وعليه ، فلو صدر مثل هذا القول من قائل حكيم لاستُفيد منه أن الغرض الأولي كان متعلقا ببيان عظمة المكان ، لأنك اخترت ضيفا عظيما للنزول فيه ، وهذا ما حصل في هذه السورة ؛ لأن السورة أرادت أن تقول : إن من موجبات عظمة ليلة القدر ، أنها أصبحت ظرفا زمانيا لإنزال القرآن الكريم .
جوف الليل والتضرع
لا يخفى أن الليل له مزية من بين الأزمنة ، ومن هنا صار ظرفا لتلك الليلة المباركة دون النهار ، ففيه يتوجّه الله تعالى إلى خاصة أوليائه ، ليغشّيهم بأنوار جلاله ، وقد أقَسَم القرآن الكريم بالفجر والعصر مرة واحدة ، ولكنه أقَسَم بالليل في سبعة مواضع كقوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾[٣] ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾[٤] ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾[٥] وقد ذَكر تعالى أوصاف المؤمنين في الليل إذ ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[٦] ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾[٧] وهم ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ﴾[٨] ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا﴾[٩] و﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا﴾[١٠] وقد واعد الله تعالى كليمه ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾[١١] كما أسرى بحبيبه ليلا[١٢] . . كل هذه الأمور تدل على قابلية الليل لتحمّل كل هذه البركات .
[٤] . سورة المدثر : الآية ٣٣ .
[٥] . سورة الفجر : الآية ٤ .
[٦] . سورة الذاريات : الآية ١٨ .
[٧] . سورة الإسراء : الآية ٧٩ .
[٨] . سورة آل عمران : الآية ١١٣ .
[٩] . سورة الإنسان : الآية ٢٦ .
[١٠] . سورة المزمل : الآية ٢ .
[١١] . سورة البقرة : الآية ٥١ .
[١٢] . سورة الإسراء : الآية ١ .
موارد التعبيرفي “مَا أَدْرَاكَ”
إن القرآن الكريم غالبا ما يستعمل صيغة ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ في الأمور الغائبة عن الحس من مفردات يوم القيامة : كذِكر ﴿سَقَرُ﴾[١٣] و﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾[١٤] و﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾[١٥] و﴿الْقارِعَةُ﴾[١٦] و﴿ما الْحُطَمَةُ﴾[١٧] و﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾[١٨] .
وعليه ، فإن ذِكر ﴿لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ في هذا السياق ، يجعل تلك الليلة وكأنّها ملحقة بعالم الغيب رغم أنها من عالم الشهود ، وذلك لعدم قدرة الخلق على استيعاب حقيقة تلك الليلة ، كعدم قدرتهم على استيعاب حقائق البرزخ والقيامة الغائبة عن الحس .
موجبات العظمة
إن عظمة ليلة القدر تتجلى في أمور ، منها :
أنها ظرف زماني لنزول القرآن الكريم ، وهي بدورها أيضا مظروف لأفضل الشهور ؛ أي شهر رمضان المبارك .
أنه قد تكرر ذِكر ليلة القدر ثلاث مرات في السورة الواحدة ، بدلا من الاكتفاء بالضمير الراجع إليها .
مخاطبة المولى لنبيه الأكرم ‘ بقوله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها ، فكان الأمر خارج عن فهم عقول عامة الخلق! .
تعويض قصر الأعمار
إن الله تعالى أراد ـ برأفته الغامرة ـ أن يعوّض الأمة الخاتمة بسبب قصر أعمارها وتقاعس بعض أفرادها تعويضا جزيلا ، فجعل لهم ليلة هي خير من ألف شهر ، فقد روي أن رسول الله ‘ رأى أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته ، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغته سائر الأمم ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ؛ وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم!
وليس من المعلوم أن تكون الآية بصدد المساواة بين تلك الليلة والألف شهر بل قد تفوقه الفضل ، فقد ذَكر الله تعالى أن هذه الليلة هي خير ، ولم يبين قدر الخيرية ومقدار مضاعفتها ، بل جعل الحد الأدنى لمقدار التفاضل هي الشهور الألف! وهذا كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ضربة علي (عليه السلام) عند مبارزته لعمرو بن عبد ود : «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق ؛ أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة»[١٩] .
وجه التسمية بليلة القدر
إننا سواء جعلنا القدر هنا بمعنى :
الشرافة : كقوله تعالى ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[٢٠] .
تقدير الأمور فيها : كقوله تعالى ﴿جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾[٢١] .
الضيق : إذ تضيق الأرض بملائكة السماء كقوله تعالى ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾[٢٢] .
فإنه يدل إجمالا ـ بأيٍّ من المعاني المذكورة ـ على عظمة تلك الليلة من : جهة ذاتها ، ومن جهة الملائكة النازلة فيها ، ومن جهة المقدّرات التي تنجز فيها . . ومن المعلوم أنه من مجموع ذلك تتجلى لنا عظمة الخالق وكرمه ، إذ يمنّ بمثل هذا العطاء في سويعات قليلة من ليلة واحدة .
وجه المباركة
إن التعبير عن ليلة القدر بأنها ﴿لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾[٢٣] يُفهم منه أن الله تعالى يُنزل فيها من البركة ما يمنح الحياة الباطنية للعبد في تلك الليلة ، كما يهب الحياة الظاهرية للأرض الميتة بقوله تعالى ﴿وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً﴾[٢٤] فالمحروم هو الذي لم يتعرّض لهذه البركة الغامرة في الوجود ولم ينتفع منها .
ولعل هذه المباركة الإلهية هي السر في دبيب النشاط في عامة العباد في تلك الليلة ، رغم تكاسلهم في باقي الليالي حتى من الشهر الكريم ، ولا يخفى أن البركة ذات درجات ، فما ينزل مثلا من البركات على صاحب الأمر (عليه السلام) لا يعقل أن ينزل على غيره ، فلا تنبغي القناعة بدرجة من درجات التوفيق في تلك الليلة المباركة .
النزول الدفعي للقرآن
إن من موجبات تحقق شرافة ليلة القدر ، أن الله تعالى ـ وهو الذي تحققت مشيئته على تنزيل القرآن الكريم تدريجيا طوال فترة الدعوة ـ تعلقت إرادته أيضا بإنزال هذه المعاني العظيمة كلها في ليلة واحدة على قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ويا له من قلب عظيم! . . إذ تحمّلَ نزول هذا القرآن بأكمله دفعة واحدة ، وهو الذي كان يكابد نزول آية واحدة ؛ إلى درجة كان يُرى أثر ذلك في وجوده الشريف .
حقيقة البركة الإلهية
إن طبيعة البركة متعدية إلى ما يجاورها ، فهو تعالى يقول عن نبيه عيسى (عليه السلام) ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾[٢٥] وعن موسى (عليه السلام) ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ومَنْ حَوْلَها﴾[٢٦] وشهر رمضان المبارك ـ بالإضافة إلى بركته كشهر لله تعالى ـ فإنه قد بورك أيضا بليلة القدر ، لأنها صارت جزءاً منه ، فتعدت البركة منها إلى الشهر الكريم .
وقياسا عليه نقول : إن بركات ليلة القدر تتعدى أيضا إلى ذوات المؤمنين ، وذلك لمن كان أهلا لتلقّي ذلك الفيض الأعظم .
أفضلية الفاعل أيضا
إن خيرية ليلة القدر قياسا إلى ألف شهر ، قد تكون بلحاظ الأعمال ـ كما قيل غالبا ـ وقد تكون بلحاظ الذوات وهو الأهم ، فتتعلق البركات بنفس الفاعل لا إلى ذات الفعل فحسب!
بمعنى : إن الفرد قد يكتسب من القرب إلى الحق والكمال في عالم الأرواح ، ما لا يكتسبه في ألف شهر من المجاهدة والسعي ، وفي هذا كمال الإغراء لأهله الذين يبحثون عن كمال الذوات لا ثواب الأفعال .
ليلة مصيرية
إن تقدير الأمور في ليلة واحدة كما يُفهم من آية اُخرى أيضا وهي ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[٢٧] لمن موجبات اضطراب العبد الذي يريد السلامة في الدين والدنيا ، وهذا بدوره من موجبات شحذ الهمة للعمل على جلب خير المقدرات لنفسه قبل جفاف قلم التقدير في ساعة الفجر ، وخاصة عند اللحظات الأخيرة من انتهاء ليلة القدر الكبرى .
وعليه نقول : إن المقدرات الإلهية ـ وإن كانت نازلة من الغيب ـ إلا أن للعبد دورا في تغييرها أو تبديلها لما فيه الصلاح والإصلاح ، وهذه القاعدة تجري في كل موارد ذِكر (من يشاء) في القرآن الكريم ، فقد يراد من الفاعل فيها هو (العبد) كما في قوله تعالى ﴿يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾[٢٨] .
سر المضاعفة
إن ممّا يثير التساؤل عند ذِكر مضاعفة الأجر ليلة القدر ، هو أنه كيف يتم الجمع بين هذه الآية وبين ما نعلمه من أن الأجر على قدر المشقة ؛ فأين عبادة ألف شهر من عبادة ليلة واحدة؟!
والجواب عنه هو ما نجيب به عند تفسير البركات الكبيرة لكل منتسب صغير إلى الله تعالى مثل : تابوت موسى (عليه السلام) ، وقميص يوسف (عليه السلام) ، وحجارة الكعبة ، وشهر رمضان المبارك ، فنقول : إن الانتساب إلى الله تعالى يغيّر ماهية الأشياء والأفعال ، وبما أن الله تعالى ـ وهو جاعل الخواص في الأشياء ـ جعل بلطفه هذه الخاصية المذهلة في ليلة واحدة ؛ فلا غرابة بعدها أبدا وهو الفعال لما يشاء .
الدعاء يغير المقدرات
إن ليلة القدر ليست مصيرية للبشر فحسب ، بل لعامة الكائنات ، فقد قيل : إن الله تعالى يقدّر فيها ما يكون في كل تلك السنة من مطر ، ورزق ، وإحياء ، وإماتة .
وعليه ، فإن التقدير في تلك الليلة المباركة يتعلق بالحوادث الكونية بناء على أن القدر الإلهي يلفّ كل ما خلقه الله عز وجل ، بمقتضى قوله تعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَر﴾[٢٩] ولهذا يمكن القول بأن الذي يبالغ في الدعاء تلك الليلة ، فإنه من المحتمل أن يكون دعاؤه دخيلا في تغيير مقدرات الكون من الزلازل والكوارث وغيرها ، أضف إلى مقدرات الخلق من أخوانه المؤمنين ، بل من عامة البشر الخارجين عن ملته أيضا .
السبب في إلاخفاء
إن الله تعالى كان بإمكانه أن يمنّ علينا بتعيين ليلة القدر في ليلة واحدة ، ليريحنا من هذا التحيّر في كل عام ، ولكنه أخفاها ـ بحكمته البالغة ـ بعثا للعباد على الاجتهاد والعمل في أكثر من ليلة ، ولتکون قلوبهم بين الخوف من تفويتها ، والرجاء بإدراكها ، فلا يصاب مَن أدركها بالغرور والعجب ، كما لا يصاب مَن فوّتها باليأس والقنوط . . إضافة إلى ما في إبهام تلك الليلة من إضفاء شرافة زائدة ، فإن ما غلا ثمنه لا يكون مبذولا متاحا لكل مريد!
وليُعلم ضمناً : أن حكمة الإخفاء نراها في أمور اُخرى فهو تعالى أخفى :
رضاه في الطاعات ؛ حتى يرغبوا في كل الصالحات .
غضبه في المعاصي ؛ ليحترزوا عن كل الخطايا .
وليّه فيما بين الناس ؛ حتى يعظموا كل العباد .
الإجابة في الدعاء ؛ ليبالغوا في كل الدعوات .
الاسم الأعظم ؛ ليعظموا كل الأسماء .
الصلاة الوسطى ؛ ليحافظوا على كل الصلوات .
قبول التوبة ؛ ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبات .
وقت الموت ؛ ليخاف المكلف من مفاجأة الموت له .