- ThePlus Audio
التشابه بين “القارعة” و “الحاقّة”
إن سياق الحديث عن القارعة التي تقرع القلوب والأسماع يوم القيامة ، تشبه سياق الحديث في سورة الحاقة حيث يقول تعالى ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾[١] ففيها استفهامان : الأول بنحو بسيط ؛ أي السؤال عن حقيقة هذا المبتدأ الذي ذُكر أولا لإثارة الانتباه ، والآخر بإضافة كلمة ﴿أَدْرَاكَ﴾ يعني : وأي شيء يدريك ما حقيقة هذا المبتدأ! . . فكان أبلغ في بيان التفخيم ، وكأنّ ما ورد في هذه السورة وأمثالها لا يكفي لبيان الحقيقة كما هي .
أسلوبان في التفهيم
ورد التعبير بـ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ في أكثر من عشرة مواضع من القرآن الكريم ، وورد التعبير بـ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ في ثلاثة مواضع ، وقيل في الفرق بينها : إن الأول في مواضع يريد الله تعالى أن يُدري نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أثار السؤال حوله ، وأما في الثاني : فإنها في موارد أراد الله تعالى أن يطوي عنها ، ويعرض عن الإجابة عنها ، فكان تصريحا حقيقة بعدم الدراية بها وإدراك العقول لها ، كما في مورد الحديث عن القيامة قائلا ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾[٢] .
والملفت حقا في عموم القرآن الكريم : إن الله تعالى لم يخاطب العقول بشكل مجرد من أدوات الإثارة ، وهذا درس لنا نحن أيضا في عدم الاكتفاء بالخطاب المباشر الخالي من أي مثير وجداني .
وجه التشبيه بالفراش
إن الآية الكريمة ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ﴾ تصف أهوال القيامة ، والمتمثلة في كون الناس كالفراش أو الجراد على التفسيرين :
إما من جهة (ضعف) هذه المخلوقات ؛ فهما معدودان من الحشرات ، فلا يعبأ بعددها وإن كان مبثوثا أو منتشرا ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾[٣] وهو الغوغاء الذي يركب بعضُه بعضا .
أو من جهة (عشوائية) هذه الحشرة حتى قيل : كتهافت الفراش في النار ، في أنها لا تقصد عند طيرانها جهة بعينها فتطير ولو إلى النار! .
فأهل المحشر يحشرون كغوغاء الجراد في حال ضعف ، ومن دون هدف بعينه . . والطامة الكبرى أن المشبّه به في هذه الآية ـ وهي الحشرات التي لا يُعبأ بها ـ أحسن حالا من كثير من الناس الذين ما حققوا الهدف من خلقتهم!
القيامة وطروّ التغيير
أشارت آيتا وصف الناس بالفراش المبثوث ، والجبال بالعهن (أي الصوف الملون) المنفوش (أي المندوف) إلى حالة زوال الاستقرار الذي يراه الناس في الحياة الدنيا . . وعليه ، فإن الإشارة تكون إلى حالة طبيعية واُخرى اجتماعية :
فالأولى : متمثلة بالجبال الرواسي ذات الألوان المختلفة ، لقوله تعالى ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾[٤] فيزول استقرارها بأن تتحول إلى عهن منفوش .
والثانية : متمثلة بالمجتمع البشري المستقر والمتحكم بجوانب الأرض ، وإذا بالقارعة التي تقرع البشر تزيل استقرارهم فتحولهم إلى فراش مبثوث .
وفي هذا درس للجميع لعدم التعلق بما هو زائل ، ولخصوص المؤمنين لعدم الاعتداد بما سواه والذي يؤول إلى ما ذُكر ، ويجمعهما التعبير بـ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾[٥] .
مذكرية القيامة
جرى الحديث عن القيامة في قالب القَسَم وغيره في سبعين مورد في القرآن الكريم ، وفيه دلالة واضحة على مصيرية الاعتقاد به كأصل من أصول الدين أولا ، والالتفات التفصيلي إليه في حركة الحياة ثانيا كعنصر مُذكّر باللقاء الإلهي!
وذلك لأن مشكلة القرب إلى الله تعالى تتمثل في الغفلة تارة وغلبة الهوى تارة اُخرى ؛ وكلاهما يرتفعان أو يحددان بتذكر النهاية المشتركة المحتومة لكل البشر ، حيث تنتهي كل اللذات وتبقى كل التبعات ، ومنها ما في هذه السورة من صور التأكيد .
معيار تقييم الأعمال
إن الثقل والخفة لا توصف بهما الأوزان وما يوزن به فحسب ، بل إن كل ما له شأن وقدر ، من الممكن أن يُجعل معيارا في عالم الأوزان ، ومن هذه الأوزان (الحق) كما قال تعالى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[٦] فصار الحق وحدة من وحدات ما يوزن به العمل .
وعليه ، فإن ما ورد في هذه السورة من ذِكر الثقل في قوله تعالى ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ يفيد أن أصحاب العيشة الراضية ، هم ممّن كان سعيهم في دائرة الحق . . و من هنا ينبغي للعبد اجتناب كل ما ينطبق عليه الباطل ، سواء في تعامله مع نفسه كالغناء مثلا ، أو مع غيره كأكل ماله بالباطل ، وبعبارة جامعة : إن الحق هو كل ما تعلق بالله تعالى ، والباطل هو كل ما ارتبط بسواه ﴿ذلك بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِل﴾[٧] .
تأثير ذكر الصلوات
ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن ما يوجب ثقل الموازين يوم القيامة (الصلاة على محمد وآل محمد) وهي تدخل في سياق مودة ذوي القربي ، أضف إلى أنها من مصاديق الدعوة المستجابة ، فأي دعاء أقرب للإجابة من طلب إنزال البركات على أشرف الخلق؟!
وليُعلم أن الموازين في هذه السورة يمكن إطلاقها على نفس الأعمال أي الموزون ، لا على ما يوزن به وهو الميزان ، ومن هنا ناسب التعبير عنها بصيغة الجمع .
دين الواقعية
إن الإسلام دين الواقعية لا المثالية ، فلا يراد من أحدنا أن يتمحض أعماله في الخير محضا ، فهذا لا يناله إلا المعصوم (عليه السلام) ، إذ إن لازمة تركّب الإنسان من النفس اللوّامة والأمارة أن يستقيم تارة ، ويخرّ اُخرى . . ومن هنا عُبّر عن الجزاء يوم القيامة بوصف الميزان خفة وثقلا ﴿وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ الذي فيه كفة راجحة واُخرى مرجوحة ، فالمهم في ختام الأمر أن تثقل كفة الحسنات ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ كما عبّرت عنه الآية الكريمة .
الرضا عن العيشة
إن ما يوجب هناءة العيش ، هو أن يكون صاحبها راضيا عن عيشته رضاً بحق ، ومن هنا وصف الله تعالى به أهل الجنة ، لأن سخط الإنسان على نفسه أو على عيشته ، من أشد أنواع العذاب النفسي على صاحبه ، فهو يوجب ملامة لا تنقطع أبدا ، ومن المعلوم أن ما يوجب هذه الحالة في الآخرة هو سلوك العبد في الدنيا .
وعليه ، فإن ما يعيشه أهل الجنة غدا من العيشة الراضية ـ باعتبار صاحبها ـ يعيشها المؤمن فعلا في دار الدنيا ، لأنه لا يرتكب فيها ما يوجب سخط ربه ، وبذلك يعيش ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ في الدنيا والآخرة .
أبناء النار
إن التعبير عن جهنم بـ ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ يوحي وكأنها بمثابة الأم لأصحابها من جهة :
الانتساب العميق لأهل جهنم إليها ، فهؤلاء كأنهم أولاد النار خرجوا من بطنها فعادوا إليها .
ومن جهة أن الولد يأوي في الشدائد إلى أمه ، وهؤلاء لا ملجأ لهم يومئذٍ إلا أمهم المتمثلة بالنار .
هذا إذا فسرنا الهاوية بجهنم باعتبار من يهوي فيها ، وأما إذا جعلناها وصفا لأم رأس من يهوي في نار جهنم ، فيكون المعنى : إن صاحبه يهوي بدماغه في نار جهنم وهو أبلغ في الإذلال ، لأنه يسقط بأشرف جزء من جسده ، أضف إلى ما في كلمة الهاوية من معنى التردّي . . ومن الممكن أن نجعل ارتباطا بين أم الرأس وبين الناصية الكاذبة ؛ أي يكون الكذب والخطيئة من موجبات هذا الهويّ في نار جهنم .
عظمة نار القيامة
إن الآيات الأولى من هذه السورة بدأت بـ ﴿وَما أَدْراكَ﴾ لذِكر أهوال يوم القيامة ، إلا أنها أعادت التعبير نفسه بالنسبة إلى خصوص جهنم ، فقالت ﴿وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ﴾ فكان الأمر تعظيما في ذِكر تعظيم ؛ أي تعظيم أمر جهنم في ضمن ذكر عظائم يوم القيامة .
ومن الملفت هنا : إن الآية تصف النار بأنها حامية ، وهو أمر بديهي لكل أحد إذ لا يُعقل سوى ذلك ، ولكن الآية كأنها تريد أن تقول : بأن النار الحامية حقيقة ، هي هذه النار الأخروية قياسا إلى نار هذه الدنيا ، وكأنها غير حامية!