- ThePlus Audio
الأركان الثلاثة للاستعاذة
إن كل استعاذة ـ وهي الاعتصام من كل ذي شر بالالتجاء إلى الغير ـ فيها أركان ثلاثة وهي :
أولا المعتصِم : ولازمته تحقق الخوف ممّا يحذره ، وإلا لما كان معتصما .
وثانيا المُعتَصم به أو الملتجَأ إليه : ولازمته الثقة بقدرته على الإعانة والإعاذة .
وثالثا المُعتصم منه : وهو ذلك الشر الذي يستعيذ منه الإنسان لخوفه من ضرره .
ومن المعلوم انه لدى اجتماع الأركان الثلاثة ، يُتوقع فعلية الاستعاذة والالتجاء ، وذلك فيما لو كان المعتصِم جادا في استعاذته .
وقد جاءت السورة لتثبيت هذه الأركان الثلاثة : فالمأمور بـ ﴿قُلْ﴾ هو المستعِيذ ، والرب المتعال هو المستعَاذ ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ والمخوف المستعاذ منه ما ذِكر من الشرور في السورة الكريمة .
أنواع الاستعاذة
ورد الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم اعتمادا على الاسم الدال على الذات ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[١] وهنا ورد الأمر بالاستعاذة اعتمادا على الاسم الدال على الوصف ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وقد يكون في ذلك إشارة إلى عظمة وسوسة الشيطان عند قراءة القرآن ، والمستلزم لذكر المولى بأعظم أسمائه ؛ لأن المقام إنما هو مقام دفع الشر في عالم القرب إلى الله تعالى ، خلافا لمقام الاستعاذة من شر الظلام والساحر والحسود ، فقد يكون الضرر دنيويا محضا .
الاستعاذة سبب لدفع الشرور
إن الاستعاذة راجحة قبل وقوع الواقعة بل هي الدافعة لها ، ومن المعلوم أن الدفع أيسر من الرفع ، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يُعيذ نفسه هو بهذه السورة ، وكان كثيرا ما يعوّذ الحسن والحسين (عليهما السلام) بهاتين السورتين[٢] أي (الفلق والناس) وخاصة على القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكون في معرض التأثر بالسحر ، وإلا صار وهْن فيه بما ينافي مقام الرسالة ، فإن الاستعاذة من شر غير واقع لا ضير فيه .
الاستعاذة الواقعية
إن الاستعاذة تلازم الخوف ، والخوف يستدعي العمل للنجاة ممّا يُخاف منه ، وهو ما نراه فيما نقله القرآن الكريم عن أهل البيت (عليهم السلام) عند التصدق بالطعام حينما قالوا ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾[٣] فهم جمعوا بين ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾[٤] وبين ذلك الخوف الموجب للاستعاذة . . وعليه فإن المستعيذ الصادق هو الذي يلتجأ بصدق ، وصدق الالتجاء يكون بالعمل على ما يوجب النجاة .
الربط بين الاستعاذة وصفة الرب
إن المناسبة واضحة بين التعبير ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ والاستعاذة من مختلف الشرور المذكورة في هذه السورة ؛ فما المانع أن يُزيل الله تعالى ظلمة الشرور بنور الفرج عند الاستعاذة به ، وهو الذي يشقّ ظلمة الليل بعمود الصبح ويرينا ذلك في كل يوم؟!
وقد تكون المناسبة هي النفحات المقارنة لساعة الفلق فعندها نشهد ﴿الْمُسْتَغْفِرينَ بِالْأَسْحار﴾[٥] وعندها تقترن ملائكة الليل بالنهار ، وعندها يتحقق قرآن الفجر المشهود لدى ملائكة الليل والنهار ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[٦] فكانت الاستعاذة بالرب والمستندة لهذا الوقت المبارك أدعى للاستجابة!
معنى “الفلق”
إن كلمة ﴿الْفَلَقِ﴾ هنا كـ﴿الْكَوْثَرَ﴾[٧] و﴿الْفَجْرِ﴾[٨] وغيرها من المفردات التي اختلف في معناها المفسرون ، وذلك لإمكان انطباقها على محتملات كثيرة ، وهو بدوره كاشف عن عمق هذا الكتاب ، وتبيّن الحاجة إلى مَن يُعيّن المراد من بين المحتملات ، فقيل :
إنه الصبح الذي يشق الظلام[٩] .
إنه إخراج كل موجود إلى الوجود بفلق وعائه أي بشقه[١٠] ، سواء في الحيوان أو النبات فهو القائل ﴿إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ والنَّوى﴾[١١] .
إنه إخراج كل شيء من ظلمة العدم إلى نور الوجود ؛ فهو شق لستار العدم أيضا .
تفسير الشر في الكائنات
تعجب البعض من أنه كيف نستعيذ بالله تعالى من شر كل ذي شر ﴿مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ﴾ وهو الخالق له ، فكأنه استعاذة به منه!
والجواب : إن الشر يأتي تارة من قاصد للشر كشر بني آدم ، وتارة يأتي من غير عاقل كشر الهوام المؤذية ؛ وفي الموردين فإن الله تعالى خلق أصل ذلك الموجود مزودا بما يصدر منه الخير والشر ، وحينئذ نقول : إن ما يقع منه خارجا : إما لانحراف في مزاجه كشرور البشر ، أو لمقتضى في طبعه كشرور البهائم ، فصار من الراجح أن يستعيذ العبد بربه المدبّر لهذا الوجود بخيره وشره ، ليصرف عنه الانحراف في المزاج کما في البشر أو لازمة الطبع کما في الهوام و الدواب .
الاستعاذة الخاصة بعد العامة
إن ﴿غاسِقٍ إِذا وَقَبَ﴾ وهو الليل المظلم إذا وقب ودخل[١٢] ، كأنّه يُعين على الشر بنشر ظلمته فيعصي فيه العاصي من دون فاضح ، ويهجم فيه المعتدي مباغتا لعدوّه فلا يقدر على صرفه ، أضف إلى ما يعيشه البعض من الخوف لأصل هول الليل ، وخاصة إذا اجتمع مع ظلمة البحر مثلاً ، وهذا هو السرّ في تخصيصه بالذِكر بعد ذِكر أصل الشر ، ولعل سهولة ارتكاب بعض المعاصي في الليل من أهم موجبات الشر فيه . . وكم هو الفرق بين ليل يقع فيه ما يقع من الشرور ، وبين ليل يصفه القرآن الكريم ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ﴾[١٣]؟!
الشرور غير المحسوسة
إن هذا الكون مزيج بين الغيب والشهادة ، فكما أن هناك شرا محسوسا يُرى بالعيان كالسباع المفترسة ، أو بالآلة كالجراثيم الصغيرة ، فإن هناك أيضا شرا غير محسوس ، يتمثل بما لا يرتبط بالحواس كتأثير السحر ﴿النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ والعين ﴿وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ﴾ وقد أقرّ القرآن بأصل هذا التأثير في آيات اُخرى ، فذكر السحر قائلاً ﴿وَ لكِنَّ الشَّياطينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر﴾[١٤] وذكر العين قائلا ﴿وإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْر﴾[١٥] وذكر الجن ﴿وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقا﴾[١٦] .
وعليه ، فلا معنى للمسارعة إلى إنكار ما لم يخضع للحواس ما دام العقل لا ينكره ، والشواهد الخارجية مصدّقة له .
سر ذكر الساحرات
إن نسبة السحر إلى النساء النفاثات في العقد ـ إن لم نجعلها إشارة إلى ساحرات بعينهن في زمان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ فقد تكون إشارة إلى بعض النساء في كل زمان :
إما من جهة ضعفهن في مواجهة الخصوم ؛ فيلجأن إلى كيد ليست فيه مواجهة الرجال للرجال بما فيها من قوة المواجهة .
أو من جهة عاطفتهن في جلب قلوب الرجل ؛ فيلجأن إلى جلب أسباب المحبة ولو كان بطريق منهي عنه ، لما فيه الإضرار بالغير .
الكيد بغير السحر
إنه من الممكن القول : إن الحديث في الآية ليس عن سحر النساء بالنفث في عقد الخيط وما شابه ، وإنما عن سعيهن البشري لاجتذاب قلوب الرجال ، فهن ـ بما أعطاهن الله تعالى من خاصية الجذب في الوجوه والنفوس ـ يستملن قلوب الرجال ، وكأنهن ينفثن في قلوبهم ما يسلبهم العزم والهمة!
وهذا المعنى جلي في الخلوة المريبة ، فيعمل الرجل فيها خلاف عقله وشرعه وكأنه مسحور حقيقة ، فناسب التحذير منهن كما يُحذّر من الساحر ، فالعداوة فيهما مشتركة ، ويؤيده قوله تعالى في حديثه عن النساء ولو كانت عن الزوجة ﴿إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم﴾[١٧] .
التنكير للتعظيم أم للتقليل؟
إن التنكير في ﴿غاسِقٍ﴾ و﴿ حاسِدٍ﴾ قد يكون :
لتعظيم شرهما قياسا إلى النفاثات ، وذلك أن الشر في النفاثات أمر اتفاقي لا يقع إلا نادرا ، بخلاف الليل الذي يُقبل علينا في كل يوم ، ومعاشرة البشر الذين نحن مبتلون بهم في كل ناد .
لتقليل شرهما قياسا إلى النفاثات ، من جهة أن الشر لا يلازم الليل والحاسد ؛ فكم من ليل خال من الشر! . . وكم من حاسد لا يصدر منه شر! . . فناسب التنكير فيهما بخلاف النفاثات فإن الشر لازم لها .
ظهور الحسد
إن الحاسد إذا كتم حسده ولم يُظهره ـ بل تأذّى ممّا هو فيه ـ قد يجعله في معرض الرحمة الإلهية ، فيقلّب المولى حاله كما يقلب الليل والنهار! . . إلا أن الشر ينقدح عندما يعمل الحاسد حسده ، ومن هنا استُعيذ من شره بقيد إعمال الحسد ﴿ومِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ﴾ وذلك إما : بعينه فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : «كاد الحسد أن يسبق القدر»[١٨] ، أو بفعله عندما يكيد للمحسود فيفعل ما يسخط الرب ليكون مصداقا لقول النبي ‘ حيث قال : «إياكم والحسد! . . فإن الحسد يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب»[١٩] .
حضيض الدناءة
إن تخصيص ذِكر الحاسد بعد الساحر من بين كل شرور الوجود ، يدل على قبح ما هو فيه لأنه :
في منتهى اللؤم : حيث لا يسأل الخير لنفسه ؛ بل يتمنى زوال الخير من غيره .
في منتهى الجهل : فلا يسأل الخير ممن بيده خزائن السماوات والأرض ، وهو الذي يطلب من عباده أن يسألوا من فضله قائلا ﴿وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ﴾[٢٠] .
في منتهى التحدي وإن لم يشعر به ، إذ كأنّه يعارض الله تعالى فيما يفعل وهو القائل ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه﴾[٢١] .