- الآيات ١ إلى ١٦
- من سورة الغاشية
- تلاوة الآيات ١ إلى ١٦
طرق الإلفات
إن طريقة القرآن الكريم ـ عند تهيئة النفوس للأمور المصيرية ـ تتمثل في طرق عديدة لإلفات نظر المخاطب ، وذلك بالقَسَم تارة ﴿وَالْفَجْرِ﴾[١] والاستفهام التقريري ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾ تارة ، وما يفيد الإبهام للتعظيم تارة اُخرى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾[٢] وفي هذا درس لمَن أراد أن يلقي قولا ثقيلا على الخلق ، فعليه أن يثير دواعي الالتفات والانشداد إلى محور حديثه ؛ بدلا من الحديث المباشر الذي قد لا يوجب اهتمام المتلقي لما يُلقى إليه .
ومن الملفت أن الخطاب متوجّه أولاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الاستفهام وأمثاله في القران الكريم ، وكأنه محور البشرية الذي يستحق أن يتوجّه الله تعالى بالخطاب إليه أولا ، ومن الممكن القول بأن الخطاب متوجه لعامة الناس في أمثال هذه الخطابات وإن توجه الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهراً .
الأبعاد المخيفة للقيامة
إن التعبير بالغاشية عن يوم القيامة يُشعر بهول الواقعة لأنه :
– إما مأخوذ من الغشيان بمعنى إحاطة الجميع ، فلا يفلت من الحساب أحد كما قال تعالى ﴿وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾[٣] .
– وإما بمعنى إحاطة الناس بأنواع الشدائد ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾[٤] وكما قال في آية اُخرى ﴿يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[٥] .
ومن المعلوم أن الالتفات إلى هذه النهاية المفزعة ، لمِن موجبات الارتداع عن الشهوات المحرمة في الدنيا ، وذلك لمَن وصل إلى مرحلة اليقين بهذا الإخبار الإلهي الذي لا خُلف له .
وجوه أهل المحشر
إن الأمور الباطنية تتجلى عادة من خلال الوجه سواء في الدنيا أو الآخرة ، ولهذا نرى مسحة من الظلمة ـ التي يدركها أهلها ـ على وجوه الظالمين في الدنيا ، وأما في الآخرة فإن هذا الأمر يتجلى لجميع الخلائق لكشف الغطاء عنهم .
ومن هنا وصفت الآية وجوه العصاة أنها خاشعة ، وفي آيات اُخرى بصفات اُخرى منها ﴿وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ﴾[٦] و﴿خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾[٧] و﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ﴾[٨] ووصفت وجوه الطائعين أنها ﴿نَّاعِمَةٌ﴾ وفي آية اُخرى بأنها ﴿نَّاضِرَةٌ﴾[٩] وفي هذا الانكشاف نوع خزي للبعض على رؤوس الأشهاد ، ونوع تكريم للآخرين في جمع أهل المحشر .
الخشوع الطوعي
إن الجميع صائر إلى عالم الخشوع والخشية التي تعمّ جميع الخلائق يوم القيامة ، بمقتضى ارتفاع الحجب عن الخلق في ذلك اليوم العصيب . . وحينئذٍ نقول : ألا يحكم العقل بعدها برجحان سعي الإنسان ، لكي يصل إلى هذا المقام طوعا قبل أن يصل إليه كرها ، وذلك بإتباع موجبات الخشوع الذي يتجلّى أثره فيما يتجلى من خلال الصلوات؟!
فما بال العبد الذي سيأتي ذليلا يوم القيامة ، لا يفكر كيف يكتسب موجبات العزة عناك وهو في دار الدنيا؟! .
بطلان الأعمال
إن من أعظم موجبات الحسرة يوم القيامة ، ما ذكرته آيتان منها ﴿وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾[١٠] والاُخرى في هذه السورة حيث قال تعالى ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ فإن العصاة أيضا أمضوا أعمارا في هذه الدنيا فيها نصب وتعب مصداقا لقوله تعالى ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُون﴾[١١] بل قد يفوق تعبهم ـ في سبيل باطلهم ـ تعب بعض المؤمنين ، ولكنه تقع المصيبة عندما يكتشفون بطلان سعيهم في دار الجزاء ، فيستمر نصبهم وتعبهم ؛ خلافا لأهل الجنة الذين وُصفوا بقوله تعالى ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ .
أهوال جهنم
إن حياة أهل النار لا يمكن تصوّرها لأهل الدنيا ، فالآيات تشير من بعيد وبما يفهمه عامة الناس ، وإلا فإن الأمر أعظم ممّا ذكر في عالم الألفاظ! . . فمثلا تصور إنسانا يستغيث يطلب ماءا ؛ وإذا بالحميم شرابه ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وساءَتْ مُرْتَفَقاً﴾[١٢] ويطلب طعاما ؛ وإذا بالزقوم يملأ به بطنه ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُون﴾[١٣] وإذا تقرّح جسمه بالمُهل أكل من قيحه وهو المسمى بالغسلين ﴿وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِين﴾[١٤] وهذا كله بعد استمتاع أصحابها في الدنيا بأنواع الطيبات .
وفي هذه السورة أيضا إشارة إلى طعام وشراب أهل النار ، فطعامهم من الضريع وهو نبات في الدنيا[١٥] ـ كما قيل عنه ـ من أخبث الطعام وأبشعه لا ترعاه دابة ، ولا ريب أن بشاعة ما في الآخرة من الضريع لا يقاس بالدنيا ، وأما شرابهم فهو من عين بلغت المنتهى في الحرارة ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ وقد يكون التعبير بـ ﴿تُسْقَى﴾ مشعرا بإجبارهم على الشرب فيجتمع عنصر الإذلال مع التعذيب .
نضرة بعض الوجوه
إن وجوه أهل الجنة موصوفة بالنعومة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾ والنضرة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم﴾[١٦] وهذا الأثر في الوجه بمثابة النور الذي يتجلى في الآخرة بما فعلوه في الدنيا ، إذ ليس في الآخرة وارد غير ما يصدر من هذه الدار كما قد يُفهم من قوله تعالى ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورا﴾[١٧] ففسر الوراء هنا بالرجوع إلى الدنيا .
ولا شك أن مَن يؤول أمره إلى هذه النعمة في الآخرة ، فإنه سيحظى برتبة ـ ولو نازلة ـ من رتب النضرة في الحياة الدنيا أيضا ، كما هو مشهود لأهل الفراسة والبصيرة .
الرضا الباطني
إن حالة الارتياح والرضا التي يعيشها المؤمن في الجنة كما يقول تعالى ﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ إنما هي في مقابل ما يعيشه العصاة من السخط على أنفسهم ، وهذه الحالة :
إما بلحاظ ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من الرضا لسعيهم ، وهذا من آثار المحاسبة والمراقبة .
وإما بلحاظ النعيم الذي هم فيه ، إذ إن باطن هذا النعيم هو رضا الله تعالى عنهم ، فكان رضاهم على أنفسهم لرضاه تعالى عليهم .
وهذه صورة لما عليها النفس المطمئنة التي وصفها الله تعالى بأنها ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[١٨] .
بعض مظاهر النعيم
إن القرآن الكريم يعدّد في هذه السورة جزئيات نعيم الجنة في سبعة موارد ، وكلها بصيغة النكرة لبيان عظمتها والمتمثلة : بالجنة العالية ، والعين الجارية ، والسرر المرفوعة ، والزرابي المبثوثة ، والنمارق المصفوفة ، والأكواب الموضوعة ، ثم يضيف إلى ذلك نعمة غير محسوسة يذكرها في صدر النعم ، وذلك عندما يقول ﴿لّا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً﴾ كما ذكر في آية اُخرى ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾[١٩] ممّا يفهم منه أن اللغو والكلام الذي لا طائل تحته ، صورة من صور العذاب الذي يضادّ نعيم الجنة .
ولهذا فإن المؤمن يفرّ في الدنيا من مثل هذه الأجواء التي لا تسانخ ما في الجنة ، والتي هي ـ كما عُبر عنها ـ بأنها منزل جيران الله تعالى .