- الآيات ٦ إلى ٨
- من سورة العلق
- تلاوة الآيات ٦ إلى ٨
التقابل بين العلم والثروة
إن هذه السورة ـ بعد الحديث عن العلم والقلم ـ تنتقل إلى ذمّ من رأى نفسه مستغنيا بالمال بقوله تعالى ﴿كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى﴾ وكأنه إشعار بالتقابل بين العلم والمال ، أو بين الدنيا والآخرة عموما ، إذ هما ضرتان كما يُفهم من الرواية ، فإن قلب المستغرق بحب الدنيا مشغول بما يلهيه عن الله تعالى ، فلا يمكنه أن يتنعّم بنعمة العلم النافع له ، كما لا يمكنه الارتداع بإنذار الأنبياء لأنه ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾[١] وقد ذَكر القرآن الكريم مثالا جليّا لمن طغى بالاستغناء والمتمثل بفرعون ، حيث قال تعالى ﴿اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾[٢] لتكون عاقبة هلاكه رادعة لمن طغى واستغنى!
الشعور الكاذب
إن أساس الطغيان هو أن يرى الإنسان نفسه مستغنيا ـ وإن كان متوهما ـ فتنقطع صلته بصاحب الغنى الحقيقي وهو الغني المطلق ، وإلا فإن الغنى ـ كحالة خارجية ـ من ممدّات التوفيق حيث إن الدنيا مزرعة الآخرة .
وعليه ، فإن الغنى الخارجي قد يكون مدعاة لتحقق الطغيان الداخلي وذلك إذا لم تتحقق مراقبة في البين ، ومن هنا جُعل الموضوع في الآية هو الإنسان بلا قيد الإيمان ، ولهذا حسُن أن يطلب الإنسان من ربّه الكفاف من الرزق ، لئلا يُساق إلى الطغيان المُهلك .
الفئات الطاغية
إن القرآن الكريم كثيرا ما يذكر الفئات التي واجهت دعوة الأنبياء ، فضحا لهم وتحذيرا لغيرهم مثل :
الملوك : في قوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[٣] .
المترفين : في قوله تعالى ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفيها فَفَسَقُوا فيها﴾[٤] .
كبار المجرمين : في قوله تعالى ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِميها لِيَمْكُرُوا فيها﴾[٥] .
ملأ المستكبرين : في قوله تعالى ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْب﴾[٦] .
وفي هذه السورة ـ وهي من أوائل السور النازلة ـ فإنها أيضا حذرت في أول الدعوة من (الأغنياء الطاغين) وهم الذين سخّروا أموالهم في مقارعة الأنبياء (عليهم السلام) كقارون قديما ، وعتاة قريش في صدر الإسلام .
الثروة و العلم
إن الغنى إذا اقترن بالعلم صار سببا لنماء المجتمع البشري ، وهو ما تحققّ للصدّيق يوسف (عليه السلام) حيث قال ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾[٧] فصار مُلكه ـ وهو قِسم من الغنى ـ وعلمه سببين لنجاة الناس من عبادة الآلهة من ناحية ، والخلاص من تبعات قحط السنين من ناحية اُخرى .
ولو اجتمع هذان العنصر في أي حاكم وفي أي عصر ؛ لكانت النتيجة هي نفسها ، وهو ما سيشهده مستقبل البشرية من العدل والرخاء في زمان ظهور إمامنا المهدي (عليه السلام) .
التمكين الإلهي للأغنياء
إن كلمة ﴿اسْتَغْنى﴾ بما فيها من سين الطلب قد تُشعر بأن هؤلاء الذين طغى بهم المال ، يرون أن ما هم فيه من الغنى ـ إن كان غِنى حقيقة ـ إنما هو ثمرة جهدهم وطلبهم له في الدنيا ؛ غافلين عن هذه الحقيقة : وهو أن الغِنى المتحقق ـ حتى للطغاة ـ إنما هو بتيسير من الله تعالى ؛ لأن الأرض وما عليها تعود إليه ، فهو القائل ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾[٨] ثم يعقبها بقوله تعالى ﴿إِنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى﴾ فكأنّ ذِكر القيامة والمحاسبة بين يديه تعالى ، لمن موجبات كسر هذا الإحساس الباطني لمن كان قلب!
ركنا الكمال
إن أساس كل كمال روحي ، هو الالتفات إلى حقيقتين :
– الاعتقاد بالرجوع إلى الله تعالى ﴿إِنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ .
– رؤية العبد نفسه أنه بين يدي الله تعالى ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى﴾[٩] فيورثه ذلك الخشوع في عالم الجوانح ، والخضوع في عالم الجوارح ، وتتولّد من مجموعهما (المحاسبة) لتذكر الحساب في الاُخرى ، و(المراقبة) لتذكر الرؤية الإلهية له في الدنيا ، ومن دون ذلك لا يصل العبد إلى كمال أبدا! . . وقد ورد في الخبر : «اعبد الله کأنك تراه ، فإن لم تکن تراه فإنه يراك»[١٠] .
ومن الملفت : أن هذا المبدأ التكاملي في عالم الأرواح ، قد ورد ذكره في القرآن الكريم ، وذلك في أوائل البعثة قبل نزول جزئيات الشريعة ، فلا يقبل قول من يقول : بأنه لا شيء وراء ظاهر الشريعة من أداء الواجب وترك الحرام فقط .