- الآيات ١ إلى ٥
- من سورة الضحى
- تلاوة الآيات ١ إلى ٥
القسم بالأوقات
إن قِسما كبيرا من الأقَسام القرآنية متعلق بالأوقات فمنه : الفجر[١] ، والصبح[٢] ، والضحى ، والعصر[٣] ، والليل[٤] . . سوى الإشارة إلى الشمس والقمر المسبِّبين لتعاقب الليل والنهار ، ممّا يدل على عظمة الوقت :
فهو من ناحية تتم فيه الأعمال التي بها تعمر مزرعة الآخرة ، وكلما اتسع الوقت وطال العمر ، ازدادت المزرعة عطاء وعمرانا .
ومن ناحية اُخرى فإن تعاقب الليل والنهار المُسبِّبين لتحقق الأزمان ، من موجبات سوق العبد إلى عظمة مدبّر هذه الأوقات ، فإن تكرر التعاقب يسلب الالتفات من صاحبه .
تدبير مقلب القلوب
إن الأقسام القرآنية مترابطة مع مورد القَسَم ، وإلا كان اختيار المُقْسَم به عشوائيا ومنه ما في هذه السور ؛ فإن الله تعالى يُقسم بـ ﴿الضُّحَى﴾ وهو وقت ارتفاع النهار ، وبـ ﴿اللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ وهو وقت تغطية الظلام وجه الأرض ؛ وفي ذلك إشعار خفيّ بأن الذي يقلب الليل والنهار هو بنفسه يقلب الحول والأحوال ، فمَن يُخرج الأرض من ظلمة الليل إلى وضح النهار ؛ هو القادر أيضا على أن يحوّل قلب عبده المصطفى ‘ ممّا هو فيه من القلق لانقطاع الوحي عنه ﴿وَدَّعَكَ﴾ إلى عالم الهبات المرضية ﴿يُعْطِيكَ﴾ فكأنه صار ضحى بعد ليل ساجٍ!
وهو القادر أيضا على إخراج قلوب عموم عباده من ظلمة الإدبار إلى نور الإقبال ، فاليد العاملة في الآفاق والأنفس هي يد واحدة ، يدركها مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! .
مخالفة القانون الإلهي
إن التقابل بين الليل والنهار إنما جُعل لحكمة بالغة ، فهو الذي جعل الليل سكنا وجعل النهار معاشا ، وهو الذي جعل الليل ساجيا موجبا للسكون أيضا ، ثم جعل الضحى مبدأ لحركة الكائنات وللخروج من هذا السكون الذي أحدثه الليل .
فكم يضادّ ـ كما هو الملاحظ هذه الأيام ـ حكمة الخلق من عكس الأمر ، فجعل الليل جلبة وحركة ، وقلب النهار نوما وسكونا ، خلافا لما أراده المولى حيث قال ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً﴾[٥] ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً﴾[٦] .
انقطاع الوحي الإلهي
ذهب المفسرون في تفسير قوله تعالى ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ إلى قولين :
إن الوحي تأخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما جعله يعيش حالة الخوف من أن يكون هذا التأخير لإعراض وقلىً من ربه ؛ ممّا أوجب له زيادة الانقطاع إليه .
إن هذه دعوى أعدائه الذين كانوا لا يتركون فرصة إلا ويشمتون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فجاءت الآيات تطييبا لخاطره الشريف إلى درجة نرى فيها أن ضمير الخطاب للحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تكرّر في هذه السورة ظاهرا ومستترا قرابة خمس عشرة مرة ، رغم أن انقطاع الوحي ـ على اختلاف الأقوال ـ كان من ليلتين إلى أربعين يوما .
شاهد على صدق الوحي
إن هذه السورة ـ بناء على احتمال التوديع والقلى ـ بعد تأخر الوحي الموجب لاضطراب قلب الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا آية ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ﴾[٧] وکذلک الكثيرة المادحة للأنبياء وخاصة مَن كان لهم أتباع زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كعيسى وموسى(عليهما السلام) لمن الدلائل القرآنية الكافية ـ لغير المعاندين من الكافرين ـ على أن القرآن وحي من الله تعالى ، إذ لو كان من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ناسبه مثل هذه المضامين ، إذ لا يعقل التأذّي من تأخر الوحي لو كان بيد غير الله تعالى ، كما لا يرجح مدح الأقران إذا لم تكن الدعوة إلهية!
موازين الألطاف الإلهية
إن الله تعالى ضَمِن لنبيه استمرار الوحي ، فهو من مستلزمات الدعوة ـ وخاصة عند وجود شأن للنزول أو سؤال من أحد ـ ولكن مع ذلك فإن الله تعالى قطع وحيه عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى درجة شماتة الأعداء ، أو تشويش بال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ على كِلا التفسيرين ـ ممّا يُفهم منه أن الألطاف الخاصة ـ كالألطاف العامة ـ أمرها بيد المولى يجريها متى شاء ، وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل (عليه السلام) : «ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبرائيل : وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ؛ ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلاّ بأمر ربّك»[٨] ، فإنزال الآيات ليس عن هوى ، كما أن الحبس ليس عن قلى . . ومن هنا لزم على المؤمن العمل بما يناسب زي العبودية دائما ، وترك أمر الفيوضات وزمانها وكمّها وكيفها بيد المعطي المنان .
نفي الإنية
ينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن لا يكون حرصهم على نجاح الدعوة ، أكثر من حرص رب العالمين على ذلك! . . إذ يُخشى عليهم من تحوّل همّ فعلية التأثير ، إلى شيء من تحقيق حظوظ النفس وإثبات إنّيتها بمعنى : رغبة الداعي في هداية الخلق تحقيقا لذاته وتعظيما لنفسه ، حتى لو كان الأمر في ثوب مقدس .
ومن هنا فإن الله تعالى لا يبالي أن يقطع وحيه عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن استلزم ما استلزم من تهمة القلى وتوديع الله تعالى له ، فهو الذي ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾[٩] ولكن البناء على الاختبار ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[١٠] فمقتضى الأدب في محضر الربوبية ، أن تكون عين الدعاة على أصل الدعوة لا على المدعويين ؛ فإن الله تعالى يخاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أعطاه من الملكات والمعجزات قائلا ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾[١١] .
الجائزة الكبرى
إن دار الدنيا أضيق من أن تتجلى فيها كل المكرمات الإلهية لعباده المؤمنين فإن الدار لا تتسع لها ، لا أن كرم الله تعالى يضيق فيها . . ومن هنا قال الله تعالى ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى﴾ فإن الله تعالى لم يقصّر في حق نبيه في دار الدنيا بشيء ، حيث أمده بكل أنواع الكرامة : فعلّمه ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه كبيرا ، ورفع له ذكره ، ولكنه تعالى ادخر له جائزته العظمى ليوم القيامة وهي التي يرضيه حق الرضا ، والتي كشفت عنها روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، ومنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال : «رضا جدي أن لا يدخل النار موحد»[١٢] وما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ﴾[١٣] وإنّا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ والله إنها الشفاعة ؛ ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول : رضيت»[١٤] .
طلب المزايا للجميع
إنه لمن الملفت في هذه السورة حقا أن رضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعطاء الإلهي لا يكون في دائرة نفسه وإنما في دائرة الأمة من حيث سعة الشفاعة ، لتشمل أهل الكبائر من أمته! . . وهذا درس لعامة المؤمنين في أن يجعلوا همّهم في ما فيه صلاح الأمة ، إذ إن طلب المزايا لذات الراعي هو نوع شرك خفي يتنزه عنه خواص العابدين ؛ ولكن طلب المزايا للنوع البشري لا يُعد شركا بل هو من لوازم التوحيد والحب الإلهي ؛ لأنه مترشح من محبة العبد لبسط سلطان الله تعالى في أرضه .
سعة الرحمة الإلهية
إذا كان حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة متحققا إلى درجة لا يرضى معها بغير الشفاعة ، وهو الذي تحمّل أذى الأعداء في هذا العمر المديد مكابدا ومجاهدا ؛ فكيف بالرحمة الإلهية الغامرة والتي تتفرّع منها رحمة النبي وآله (عليهم السلام) بل رحمة كل مَن في الوجود؟! . . وقد ورد في بيان عظمة هذه الرحمة ، أنها عندما تنبسط في الآخرة فإنه يمتد لها عنق إبليس ؛ فأيّة رحمة هذه؟!
الدليل على الشفاعة
إن هذه الآيات يمكن الاستدلال بها على الشفاعة ـ مع قطع النظر عن الروايات ـ وذلك من جهة أن الله تعالى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا بالاستغفار فقال ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ﴾[١٥] والاستغفار هو طلب المغفرة ، ومن طلب شيئا فلا شك أنه لا يرضى بالرد وإنما يرضى بالإجابة ، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإجابة ، وثبت من ناحية اُخرى أن الله تعالى يعطيه كل ما يرتضيه ؛ علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين ، إذ ليست الشفاعة إلا إجابة الله تعالى لطلب الشافع .
رضا النبي يلازم رضا ربه
تجدر الإشارة هنا إلى أن رضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منسجم مع الرضا الإلهي :
فهو كان يرضى بالقبلة المكية ؛ ومن هنا قال تعالى عن نفسه ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾[١٦] .
وكان يرضى بالشفاعة الشاملة ؛ ومن هنا قال تعالى عن نفسه ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ .
وبكلمة جامعة : فإن رضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان حالة قائمة في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إلا أنها مطابقة في عالم الغيب لما يرضى به الله تعالى ، ومن مجموع الآيتين يتبيّن حرص الله تعالى على إرضاء نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعلى ما يمكن تصوّره ، وهذه عادة المحب مع حبيبه ؛ فيا لها من درجة!