- الآيات ١ إلى ٤
- من سورة الشرح
- تلاوة الآيات ١ إلى ٤
وجه ارتباط السورتين
إن هذه السورة بناء على ارتباطها بسورة الضحى ـ كما هو المستفاد فقهيا من لزوم الجمع بينهما في الصلاة ـ فيها صور متعددة من صور الامتنان على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكأنّها في مقابل توهم القلى من انقطاع الوحي ، وذلك عطفا على صور الامتنان في السورة السابقة من : نفي القلى ، ثم بيان أن الآخرة محل تجلي الإكرام الإلهي له ، وان العطاء سيبلغ مبلغا يرضى معه ، ثم ذكر العناية الإلهية له في صباه يتيما حيث آواه ، وفي كبره فاقدا للهداية الخاصة حيث هداه ، وعائلا حيث أغناه ، وأما في هذه السورة فإنها تستمر في تعداد النعم الإلهية لحبيبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) متمثلة في : شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، وتيسير العسر .
وبذلك فقد تكرر في السورتين ذكر النعم المتوجهة إليه عشر مرات ، أضف إلى ضمائر الخطاب الظاهرة والمستترة ـ إكمالا للدلال ـ والتي تكررت في هذه السورة إحدى عشرة مرة ، فكانت الالتفاتة إليه مع ذِكر النعم ؛ إحدى وعشرين مرة بعدد آيات السورتين .
تذكّر النعم
إن بيان النعم الإلهية لمن موجبات إحساس العبد بحالة التذلل والخضوع بين يدي المنعم ، وإلا فليس من عادة الكريم أن يمنّ بعطائه إذا لم يجد حكمة في ذلك فكيف بأكرم الأكرمين ، فذِكر المولى في أول السورة لمختلف النعم المتوجهة إلى حبيبه المصطفى ‘ يدخل في هذا السياق .
وعليه ، فإنه من المناسب جداً أن يذكّر العبد نفسه بما أنعم عليه مولاه ؛ ليعمّق في نفسه مشاعر العبودية لله تعالى ؛ كلما رأى فتورا في علاقته بربه .
عظمة شرح الصدر
إن شرح الصدر لمن المقامات التي ينبغي أن يطلبها كل مريد لمولاه كما طلبها موسى الكليم (عليه السلام) من ربه ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[١] وذلك لا لتحمل أذى العباد فقط ، وإنما لتلقي المعارف الإلهية الخاصة التي لا يُعطاها عامة العباد فضلا عن تحمّلها!
وهذا المعنى من الممكن تحققه لغير المرسلين ، كما جرى مع لقمان الحكيم الذي تلّقى الحكمة الخاصة من رب العالمين[٢] ، ومما يدل على عظمة هذه المزية ما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «لقد سألت ربّي مسألة ، وددت أنّي لم أسأله! قلت : أي ربّ إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فقال : ألم أجدك يتيما فآويتك؟ . . قلت : بلى ، قال : ألم أجدك ضالا فهديتك؟ . . قلت : بلى أي ربّ ، قال : ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ . . قلت : بلى أي ربّ»[٣] .
القيادة وشرح الصدر
إن القائد الرسالي الذي يحمل همّ دعوة العباد إلى الله تعالى وتغيير ما فسد من البلاد ، لا بُد وأن يمنّ الله تعالى عليه بشرح الصدر ليتحمل تبعات هذه المهمة ؛ لأن عداوة أهل الباطل إضافة إلى تحريض الأبالسة ، لمن موجبات الأذى الكثير الذي لا يتجرّعه إلا مَن شرح الله تعالى صدره لذلك .
آثار شرح الصدر
إن من آثار شرح الصدر هو :
تلقّي الهداية الإلهية الخاصة التي تريه السبيل الأقوم عند تشابه السبل .
الكون على النور الخاص من ربه ، والذي يرفع عنه الحيرة في كل مفترق طريق .
تمكين العبد لأن يكون هاديا إلى الله تعالى ، ومخرجا للعباد من الظلمات إلى النور بعد أن خرج هو من الظلمات إلى النور .
كل هذه المزايا إنما تتحقق بفضل شرح الصدر الموجب لهذا النور .
شرح الصدر من دون طلب
إن نبي الله موسى (عليه السلام) طلب من الله تعالى شرح الصدر بقوله ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[٤] ولكن نبينا الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنعم الله تعالى عليه بهذه النعمة مباشرة حيث قال تعالى عنه ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ لتبقى بذلك درجات الأنبياء متمايزة . . ومن الطبيعي أن يكون صاحب الرسالة الخاتمة ، هو صاحب شرح الصدر الأكبر!
علامة شرح الصدر
إن شرح الصدر هبة عظمى من الله تعالى ، وذلك للسالكين في طريق الدعوة إليه ، ولكن له علامات يستشعرها العبد الملتفت إلى الهبات الإلهية ، وقد أشار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك قائلا : «الإنابة إلی دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله»[٥] . . فمَن لم يجد هذا المعنى متحققا في نفسه ، عليه أن لا يعتقد أنه مستقر في هذه المرتبة ، وإن رأى شيئا من الانشراح المؤقّت في قلبه .
غاية الملاطفة الإلهية
إنه من الممكن القول : بأن قوله تعالى ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ تأكيد وتوضيح لقوله تعالى ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾[٦] فكيف يودّع الله تعالى عبدا شرح صدره ، ورفع ذِكره؟! . . وفي هذا كمال المؤانسة بين الله تعالى وحبيبه ‘ .
والقرآن الكريم مليء بالتعابير المُشعرة بكمال لطف الله تعالى به :
فتارة يُقسِم بعمره الشريف قائلا ﴿لَعَمْرُكَ﴾[٧] .
وتارة يشفق عليه لمِا أصابه في ذات الله تعالى قائلا ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[٨] .
وتارة يجعل أمر طلاقه وزواجه بيده قائلا ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾[٩] .
تعامل النبي بشرح الصدر
إن من آثار شرح الصدر الذي مَنّ الله تعالى على نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ذلك التعامل الذي لا نظير له مع قومه الذين آذوه وطردوه من وطنه ، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اللهم اهد قومي ؛ فإنّهم لا يعلمون»[١٠] ولو طلب الانتقام من ربه لاستُجيب له وما كان بذلك ملوما ، وفي هذا درس لمـن أراد الاستنان بسنته ، وذلك في النظر بعين الشفقة إلى المنحرفين عن طريق الله تعالى ؛ فكيف بالطائعين له؟!
ارتباط الشرح بالختام
إن الآيات الأربع الأوائل ، تشير إلى طبيعة تعامل المولى مع أنبيائه وذکر الهبات المعطاة لهم وخصوصا مع نبيه الخاتم ‘ أي : مرتبة شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، والتيسير بعد العسر .
ولكن كل هذه المزايا الكبيرة مرتبطة بالآيتين الأخيرتين من هذه السورة ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿7﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ إما :
ارتباط العلة بالمعلول ؛ أي أن هذه المزايا نتيجة نصب النفس وإتعابها في العبادة ، والرغبة فيه تعالى لا في شيء سواه .
أو ارتباط المعلول بالعلة ؛ أي أن مَن أوتي مثل هذه المزايا ، حقَّ له أن ينصب نفسه للعبادة ، وأن يرغب إلی ربه .
أشقّ التكاليف
إن الثقل العظيم الذي وضعه المولى عن نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) متمثل في مقارعة جفاة مرحلة الجاهلية ومعاندي مرحلة الإسلام ، ومنه يُعلم أن من أصعب التكاليف على العبد هي مواجهة أعداء الله تعالى ، ومن المعلوم أنه كلما صعب التكليف كلما اشتد القرب!
ومن هنا ، فإن الذين تركوا مشقة الدعوة ، وأنِسوا بلذة الطاعة في الخلوات كالرهبان والعباد ؛ إنما طلبوا راحة أنفسهم ، ولم يطلبوا ما يثقل عليهم وهو ما فيه رضا ربهم .
طلب شرح الصدر
ليس الحل الأمثل هو الفرار من العقبات وطلب الإعفاء ممّا يوجب الهم والغم ؛ وإنما الحل هو طلب ما يوجب تحمّل ذلك والمتمثل بشرح الصدر ، والذي إذا رُزق صاحبه ذلك ، صار كمثل البحر الذي يستوعب كل ما يُلقى فيه ، من دون أن يتبين ذلك فيه ، بخلاف الإناء الذي يطفح بأقل ما يُرمى فيه .
مزايا رفع الذكر
إن رفع ذِكر الدعاة إلى الله تعالى وعلى رأسهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام) أثر لشيء ومؤثر لشيء آخر ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ فمن ناحية :
هي هبة ومنحة من آثار رشحات رب العالمين في الأنفس والآفاق ، كما فعل من قبل مع خليله إبراهيم (عليه السلام) حيث جعل أفئدة من الناس تهوي إليه ، إضافة إلى إلقاء المودة الخاصة بينه وبين ربه ، وبذلك صار رفع الذِكر أثرا لهذا اللطف الإلهي .
هي مزية وخاصية أيضا في إنجاح الدعوة ، فمَن ارتفع ذِكره الحسَن بين الخلق صار أقدر من غيره في التأثير عليهم ؛ لأن القلوب مجبولة على القبول ممن أحبته ، وهذا يُفسِر سرّ تفاني أصحابهم (عليهم السلام) في ميادين الجهاد وغيرها ، وبذلك صار هذا اللطف الإلهي مؤثرا في إنجاح العبد في الدعوة .
رفع ذكر النبي
إن هناك فرقا كبيرا بين مَن يسعى لرفع ذِكر نفسه بجهده طلبا للعاجل ، فهذا الإنسان قد لا يوفق لذلك وإذا وفق لا يدوم ذِكره ، إذ إن الأيام يداولها الله تعالى بين الناس ، وبين مَن أراد الله تعالى أن يرفع ذِكره ، فإن هذا الإنسان يبقى ذِكره متصلا بدوامه تعالى ، وهذا ما تحقق لنبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قَرَن اسمه في الشهادتين ، وفي الإقامتين ، وفي تشهد الصلوات الواجبة والمستحبة ، وهذا المعنى باقٍ إلى قيام الساعة ، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية : «قال لي جبرائيل (عليه السلام) : قال الله عزّ وجلّ : إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي»[١١] .