- الآيات ١ إلى ٥
- من سورة الأعلى
- تلاوة الآيات ١ إلى ٥
خصائص الأسماء الإلهية
إن القرآن الكريم كما يذكر التنزيه منتسبا إلى الرب ﴿سَبَّحَ للهِ﴾[١] فإنه يطلب تنزيه اسمه الكريم أيضا ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وكما أنه يسند المباركة تارة إلى ذاته المقدسة ﴿تَبَارَكَ اللهُ﴾[٢] فإنه أيضا يسندها إلى اسمه الكريم ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾[٣] ممّا يدل على وجود خصوصية للألفاظ المنتسبة إليه تعالى ، ومن هنا لزم تسبيحها إضافة إلى تسبيح الذات .
والدرس العملي من ذلك أن كل منتسب إليه خارج ذاته يكتسب التقديس أيضا ؛ لأن قدسه مُفاض على كل ما سواه ، فيما لو كان قابلا للفيض المقدس .
اختلاف المفسرين في معنى “التسبيح”
اختلف المفسرون حول المراد من تسبيح الاسم ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إذ المطلوب حسب الفهم الأولي هو تسبيح الذات ، فقيل[٤] أنه لا مانع من تنزيه الاسم بمعنى :
عدم ذِكر اسمه تعالى في سياق ذِكر من يُشرك به ، كاللاّت والعزى .
عدم ذِكر آلهة الكفار بسوء ليثير انتقامهم بذكر الله تعالى بما لا يليق به ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم﴾[٥] .
عدم ذِكر الله تعالى على نحو الابتذال ، كذِكر الغافلين له .
والدرس العملي ـ على الوجه الأخير ـ أنه لا بُد للعبد الملتفت من توقير الاسم والمُسمّى ، ومن هنا جاءت التشريعات الخاصة بظاهر الاسم من عدم اللمس إلا بطهور ، وعدم إجرائه على اللسان إلا بقلب ملتفت .
التنزيه من كلّ أشكال الشرك
قيل[٦] إن المراد من تسبيح الاسم هو تسبيح المسمى في : ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، وفي أسمائه ، وفي أحكامه ، أما تنزيهه في :
ذاته ، فإن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض .
صفاته ، فإن يعتقد أنها ليست محدثة ، ولا متناهية ، ولا ناقصة .
أفعاله ، فإن يعتقد أنه مالك مطلق ، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور .
أسمائه ، فإن لا يُذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها .
أحكامه ، فهو أن يعلم بأنه ما كلّفنا لنفع يعود إليه .
والدرس العملي من ذلك كله : أنه كلما اتسعت دائرة التقديس الإلهي لدى العبد فإنه يعظم تعظيمه لربه ، وسعى في تنزيه ذاته وأفعاله وصفاته أيضا من شوائب الشرك ، الجلية منها والخفية .
الذكر الباطني
إن التعبير بالأعلى في ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ يقارب مضمون التكبير الذي يعني التنزه من أن يوصف ، ومفاد الأعلى هنا هو التنزه من أن يحيط به وهم أو خيال ؛ لأنّ ما سوى الأعلى وإن كان عالياً فمن الممكن أن يحيط به الفكر ، فكانت الآية عِدلاً لقوله تعالى ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[٧] .
وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إذا قرأت <span ﴿﴾> فقل : سبحان ربي الأعلى ، وإن كان فيما بينك وبين نفسك»[٨] والملفت فيها هي الإشارة إلى صورة من صور الذكر في النفس ، فلا ينبغي حصر الذكر بما كان لفظيا فقط ، ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾[٩] .
ارتباط الربوبية بالخالقية
إن القرآن كثيرا ما يربط بين الخالقية والربوبية للانتقال من الأول إلى الثاني ، إذ إن مقام الربوبية من سنخ (المعقول) الذي يحتاج إدراكه إلى نفس قابلة لهذا المقام المنيع ، بخلاف مقام الخالقية فإن له ارتباطا (بالمحسوس) القريب إلى أمزجة عامة الخلق .
ومن هنا نرى في دعوة الأنبياء التركيز على مبدأ الخالقية ، والتي يمكن ملاحظة آثارها في الوجود بأدنى تأمل إلى جنب مبدأ الربوبية ، فهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) يذكر مقام الخالقية بقوله ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾[١٠] وقال موسى (عليه السلام) ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾[١١] وأما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن أول ما أنزل عليه هو قوله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ﴾[١٢] .
ومن المعلوم أن الالتفات إلى عظمة الخالقية يوجب تعمق الخضوع في العبادة ، وزيادة الشكر مقابل النعم المتعددة .
السير في الآفاق والأنفس
إن القرآن الكريم بعد ذكر أصل مبدأ الخلقة ، يذكر بعض المصاديق لذلك ، من باب تثبيت أصل الأمر بذكر فروعه ، ولتمرين العباد على التجوال في الآفاق والأنفس ، فذكر :
أمرا معنويا يتمثل بقوله ﴿قَدَّرَ فَهَدى﴾ إذ إن التقدير في عالم الغيب أمر خفي ، والهداية بعد التقدير أيضا تصرف خفي فيما خلق .
أمرا ماديا يتمثل في قوله ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى﴾ فعلف الدواب وما يؤول إليه من السماد الأسود ﴿غُثاءً أَحْوى﴾ لهو أمر مشهود بالعيان .
الالتفات لليد الحكيمة
إن المهمّ عند النظر إلى عالم الخلقة ، هو الالتفات إلى ما وراءها من اليد الحكيمة ، وإلا فما قيمة التوغل في كشف مجاهيل الوجود من دون ربطها بموجدها ربطا يوجب الخشوع والإيمان ، ومن هنا أشارت الآية ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ إلى تسوية الخلق بعد الإشارة إلى أصل الخلق ، وهو أمر يحتاج إلى تأمّل من المتأملين ليدركوا التسوية والتنسيق في عالم الخلق ، وأشارت الآية ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ إلى الهداية بعد التقدير ، وهو أيضا يحتاج إلى تأمّل من ذوي اللب أيضا!
وفي المقابل فإن الكافر ينسب اهتداء كل موجود إلی غايته إلى الطبيعة الصماء ، والحال أن الله تعالى أسند إلى نفسه الهدايتين معاً : التكوينية ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىْ﴾[١٣] والتشريعية ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[١٤] .
الاعتبار من هشيم النبات
إن القرآن أشار في آيات متعددة إلى عدم الاغترار بما تنبت الأرض من زاهي النبات ، ومنه ما في هذه السورة في قوله تعالى ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى﴾ ويؤيده ما ورد في آيات اُخرى مشابهه لهذا المضمون كقوله تعالى ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً﴾[١٥] وقوله تعالى ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً﴾[١٦] .
وفي كل ذلك درس لعدم الاغترار بمُجمل متاع الدنيا ، فإن شهود فنائية النبات لا يحتاج إلى زمن طويل ، فيكفي انقضاء فصل ربيع واحد للتحقق من ذلك . . وعليه ، فإنه ينبغي قياس كل ما على الأرض ـ ممّا هو زينة لها ـ على ذلك .