السرّ في التأكيدات المختلفة
إن في هذه السورة ـ على قصرها ـ صورا من التأكيد ، فهي تبتدئ بالقَسَم وهو من أجلى صور التأكيد ، أضف إلى التأكيد بـ ﴿إِنَّ﴾ ثم التأكيد باللام ، ثم استعمال الجملة الاسمية ، ولعل السر في كل ذلك : إن المُقْسَم عليه في غاية الخفاء عند عامة الناس ؛ ألا وهو حقيقة الخُسر المطبق على كل الخلق إلا مَن خرج بالدليل .
وعليه ، فمَن لم يرَ في نفسه إيمانا وعملا صالحا كاملا بنحو القطع واليقين ، اندرج تحت عموم الخُسر . . وبكلمة جامعة : فإن ، الخُسر لا يحتاج إلى دليل بخلاف عكسه ، فمن شك في الاستثناء لزمه الخُسر الدائم ، ويا له من تخويف لمن كان له قلب! .
معاني العصر
اختلفت الأقوال كثيرا في تفسير ﴿الْعَصْرِ﴾ بين مَن يقول :
إنه وقت العصر من النهار ، وهذا قَسَم في ضمن القَسَم بالأوقات الاُخرى المستوعبة لساعات اليوم الكامل من : (الفجر) ، (والصبح) ، (والنهار) ، (والليل) ، (والضحی) .
إنه إشارة إلى عصر زمني متميز ، يتمثل بعصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ؛ ففي الأول بدأت الدعوة ، وفي الثاني يتجدد الدين بعد اندراسه .
إنه إشارة إلى صلاة العصر ، لكونها هي الصلاة الوسطى التي خُصّت بالذكر من بين الصلوات جميعا في قوله تعالى ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾[١] .
إنه إشارة إلى مطلق الزمان ، وهو الظرف التي يتحقق فيه العمل وهو بدوره منشأ لكل خير وشر ، كما أن ﴿لَعَمْرُكَ﴾[٢] إشارة إلى خصوص زمان حياة النبي ‘ .
أضل من البهائم
لا يصح أن نطلق عنوان الخُسر على ما عدا الإنسان ، فإن كل المخلوقات من البهائم وغيرها مسخرة للسبيل الذي شاءه خالقها لها ، وهي تسير على هداها مصداقا لقوله تعالى ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[٣] حتى لو كانت لدغة من أفعى ، أو نهشة من سبُع ضار .
ولكن هذا العنوان لا ينطبق إلا على الإنسان الذي قد ينحرف عما رُسم له في طريق العبودية ، فيقع في الخُسر كما عبّرت عنه الآية ، وبهذا يتنزل عن مستوى البهائم التي لا خسران في سعيها على كل حال .
ظرفية الخسر
إن استعمال الحروف في القرآن الكريم تابع لأهداف القرآن ـ شأنها في ذلك شأن الاسم والفعل ـ والمتمثلة في تربية الإنسان تربية ربّانية ، وهذا لا يتم إلا بالزجر والتخويف والوعد والوعيد ؛ كل ذلك بحسب مقامه!
والملاحظ في هذه السورة ـ بناء على هذه القاعدة في الحروف ـ أن الله تعالى يعبّر عن الإنسان بأنه ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ فكأنه يشبّه الإنسان بمظروف منغمس في إناء الخُسر ، فيحيطه الخُسر في كل مكان إحاطة ماء الإناء بما فيه ، وهذه مبالغة في بيان الخسارة ، ويا لها من مبالغة!
إهدار ثروة العمر
إن الخُسر ـ كما فُسِّر في اللغة ـ هو انتقاص رأس المال ، ومن المعلوم أن رأس مال الإنسان يتمثّل في عمره ، وهو في انتقاص دائم منذ أن ولدته أمه وهذه حقيقة بديهية! . . فما تحوّل منه إلى زاد في آخرته ، فإنه رأس مال ينتقل من عالم إلى عالم آخر ، فلا خُسر في البين أصلا .
وأما لو فنيت ساعات العمر في ما يُسخط الله تعالى ، ليشمل ساعات المعصية وترك الواجب ؛ بل في غير ما يرضيه ليشمل ساعات الغفلة واللهو ؛ فإنه هدرٌ لهذا المال لا نقلٌ له . . فكم هي بديهية الخسران المدلول عليه في هذه الآية؟!
البركات الجلية والخفية
إن هناك آثارا جليّة للإيمان والعمل الصالح ـ ويجمعها عنوان النجاة من الخُسر ـ فمنها أن يحيا الإنسان حياة طيبة في الدارين لقوله تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[٤] والود عند الخالق والمخلوق ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[٥] والدخول في الرحمة الإلهية ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾[٦] .
الأثر للمركب الجامع
إن النتائج في عالم الطبيعة لا تتحقق إلا بعد اجتماع جميع مقدماتها ؛ كالإحراق المستلزم لوجود النار والحطب وانتفاء مانع الإحراق ، والأمر كذلك في عالم الأرواح ، فإن الفوز فيه أيضا لا يتحقق إلا من خلال اجتماع هذه العناصر جميعا ، وهي ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا﴾ فأي خلل في أيّ من هذه المقدمات يوجب الخسران .
وعليه ، فإن الذي آمن وعمل صالحا بإطلاق الكلمة ، ولكنه ترك التواصي بالحق والصبر ؛ فإنه أخلّ بركن من أركان الخروج من الخسران . . ومن هنا ، فلا ينبغي لأهل العبادات في الخلوات ، والتاركين لأمر إصلاح العباد أن يُعجبوا بأعمالهم ؛ لأنه لا فرق في تخلّف الأثر عند ترك أي جزء من أجزاء ذلك المركب ، كما في مثال الإحراق .
ربح الآخرة وخسارتها
كما أن هناك خسرانا وربحا نسبيين في تجارة الدنيا : فيُعد أحدهم رابحا قياسا لخاسر آخر ، وخاسرا قياسا إلى رابح اكبر ، فكذلك الأمر في تجارة الآخرة : فمَن يعمل ببعض الصالحات ويترك بعضها الآخر ـ كفسّاق المؤمنين ـ فإنه لا يحقق الفوز الأكمل ، بل هو في خُسر نسبي قياسا إلى تارك جميع الصالحات ، وهذا الاعتقاد من الممكن أن يحثّ البعض على العمل بباقي الصالحات ، ليخرج من هذا الخُسر النسبي إلى فوز أكمل!
ولا يخفى أن هذه النسبية لا تتأتى في الإيمان ، فمن له خلل في أصل إيمانه كمنكر النبوة ـ مثلا ـ وإن اعتقد بالتوحيد فإنه لا يُعد فالحا أبدا ، ويؤيده قوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾[٧] .
بركات التواصي
إن هناك فرقا بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين التواصي بالحق المأمور به في هذه السورة ، فالأول قد يكون واقعا بين المؤمن والفاسق ، كما قد يكون جهة واحدة : فهناك فرد آمر وناه ، وهناك فرد آخر مأمور ومنهيٌّ . . ولكن التواصي قد يكون بين المؤمنين أنفسهم بل قد يكون بين خواصهم ، فكل واحد منهم آمر ومأمور في الوقت نفسه ، وذلك لأن العبد مهما بلغ من الكمال فإنه بحاجة إلى من يذكّره ، والله تعالى هو القائل ﴿وَذَكِّرْ فإن الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[٨] .
ومن الممكن القول في هذا المجال : إن التواصي له شعبتان :
شعبة تتعلق بما يرتبط بالعلاقة مع الخالق ، ويناسبه التواصي بالصبر على الطاعة والمعصية والبلاء .
وشعبة تتعلق بالعلاقة مع المخلوق ، ويناسبه التواصي بالحق لئلا يضيع حقٌ من أي ذي حق .
الشيطان واغتنام الغفلة
إن النجاة من الخُسر تحتاج إلى عناية من الله تعالى ؛ وذلك أن كل آنٍ من آنات الحياة لهي مفردة زمنية يمكن أن تتصف بالفوز أو الخسران ، وأن العبد مهما بالغ في المراقبة والمحاسبة ، فإنه لا يمكنه الانفلات من الغفلة في جميع هذه الآنات وخاصة مع الشياطين المتربصة بقلب بني آدم والحائمة حوله ، والتي تلتقمه بمجرد الغفلة عن الذكر ، وتخنس عند ذِكره لربه كما يفهم من بعض الروايات ، ومن هنا لزم تحقق الفضل المتوجه إلى العبد ليبطل أثر هذه الغفلة ، فإن وجود بعض آنات الغفلة يحقق عنوان الخسر ، ولو بلحاظ تلك الآنات القليلة .
ولذا ، جاءت هذه الآيات مؤكدة على هذه الحقيقة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[٩] ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ﴾[١٠] ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾[١١] ومن المعلوم أنه بموازاة هذا الفضل الإلهي في دفع الخسران ، هناك التواصي بين العباد لدفع ذلك أيضا ، وهو ما ورد ذكره في هذه السورة .
التخصيص بالتواصي
ما من شك أن التواصي بالحق والصبر يندرج تحت العمل الصالح ، ولكنه خُصّ بالذِكر في هذه السورة لأنه يوجب تخفيف الخسران في الأعمار ، وهو أفدح من الخسارة في الأموال! . . كما أن التواصي بالصبر يندرج ضمن التواصي بالحق ، إلا أنه خُصّ بالذكر لما في الصبر أيضا من ضمان لتقبّل الوصية بالحق ، فإن الوعظ والوصية ثقيلة على نفوس العباد ، وذلك لمنافاتها لمقتضى إنّية النفس وعدم الاعتداد برأي الغير .
فلسفة الوجود
إن هذه السورة القصيرة تبيّن لنا فلسفة الوجود برمتها ، وذلك بالإشارة إلى :
حركة الإنسان في الحياة ، وإنها في خُسر مستمر رغم أن ظاهر حركته هو التقدم والنمو .
إن الخروج من هذا الأصل الأولي ، لا يكون إلا بالقرْن بين الإيمان والعمل الصالح في علاقة الإنسان مع نفسه .
إنه لا بُد من القرن بين التواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ ليُضاف إلى وازعية دعوة (الأنبياء) للأمة ، وازعية (الفرد) لنفسه ، ثم وازعية (المجتمع) بعضهم لبعض ، وبذلك يتحقق التكامل البشري .