Search
Close this search box.
Layer 5
فهرس نهج البلاغة
فهرس الخطب نهج‌البلاغة

الخطبة الستون بعد المائة من خطب أميرالمؤمنين عليه السلام المذكورة في كتاب نهج البلاغة يشرح فيها أمر الله (تعالى) وأنه لا يصدر إلا عن حكمة منه (سبحانه) وأقرب السبل إلى الله (تعالى) رضوانه ورحمته ويبين عجزه عن إدراك كنه عظمة الله تعالى وأن الكل في قبضته (سبحانه) ثم يبين الرجاء الصادق من الرجاء الكاذب ثم يشرح زهد النبي ص وضرورة التأسي به ويذم الدنيا ثم يذكر نماذج من زهد الأنبياء كالنبي موسى وداود وعيسى (عليهم السلام).

من خطبة له عليه السلام عظمة الله
عظمة الله
عظمة اللّه

أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ، وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةُ، يَقْضِي بِعِلْمٍ وَيَعْفُو بِحِلْمٍ.

حمد اللّه

اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَتُعْطِي وَعَلَى مَا تُعَافِي وَتَبْتَلِي، حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ، حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ وَيَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ، حَمْداً لَا يُحْجَبُ عَنْكَ وَلَا يُقْصَرُ دُونَكَ.
حَمْداً لَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ وَلَا يَفْنَى مَدَدُهُ. فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ وَلَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ أَدْرَكْتَ الْأَبْصَارَ وَأَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ وَأَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ وَحَالَتْ سُتُورُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ. فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً وَسَمْعُهُ وَالِهاً وَفِكْرُهُ حَائِراً.

كيف يكون الرجاء

يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللَّهَ، كَذَبَ وَالْعَظِيمِ، مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ، فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ، وَكُلُ رَجَاءٍ إِلَّا رَجَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ وَكُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلَّا خَوْفَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ، يَرْجُو اللَّهَ فِي الْكَبِيرِ وَيَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ. فَمَا بَالُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ؟
أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً، وَكَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَوَعْداً؛ وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَصَارَ عَبْداً لَهَا.

رسول اللّه

وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا.

موسى

وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ»، وَاللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ.

داوود

وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَقَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.

عيسى

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَلَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَلَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَلَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَخَادِمُهُ يَدَاهُ.

الرسول الأعظم

فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ؛ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً. عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ.
وَلَقَدْ كَانَ صلی الله علیه وآله يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ. وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا. فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَلَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَلَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.
وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ، وَإِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ. فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ وَإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً صلی الله علیه وآله عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَوَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِيماً. لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ. وَاللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ اغْرُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى.