الكتاب الثالث والخمسون من كتب أميرالمؤمنين عليه السلام المذكور في كتاب نهج البلاغة وقد تلقاه مالك الأشتر من الإمام حين ولاه على مصر وتعرف بعهد الأشتر وأخذ هذا العهد حظا كبيرا من اهتمام العرب وغير العرب قديما وحديثا ومنهم المستشرقون وكان الأشتر من زعماء العرب وفرسانهم وأكياسهم ومن رؤوس الشيعة الموالين لأهل البيت (عليهم السلام).
فهرس نهج البلاغة
فهرس الخطب نهجالبلاغة
فهرس الكتب نهجالبلاغة
- نهج البلاغة
- » الكتب »
- الكتاب ٥٣
من كتاب له عليه السلام كتبه للأشتر النَّخَعي رحمه الله، لمّا ولاه على مصر
كتبه للأشتر النَّخَعي رحمه الله، لمّا ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمرمحمّد بن أبي بكر رحمه الله، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا.
أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ.
ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَت. وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ. وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَيَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!
إِيَّاکَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ کُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ کُلَّ مُخْتَال.
أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِکَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِکَ، وَمَنْ لَکَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِکَ، فَإِنَّکَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ. وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ کَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَکَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ. وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.
وَلْيَکُنْ أَحَبَّ الاُْمُورِ إِلَيْکَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَکْرَهَ لِلاِْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالاِْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الاِْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُْمَّةِ، فَلْيَکُنْ صِغْوُکَ لَهُمْ، وَمَيْلُکَ مَعَهُمْ.
وَلْيَکُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِکَ مِنْکَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَکَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَکْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْکَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْکَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَکَ، وَاللهُ يَحْکُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْکَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْکَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِکَ. أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْکَ سَبَبَ کُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ کُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَکَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ.
وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِکَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِکَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُکَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُکَ عَنِ الاُْمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَکَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ.
إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِکَ مَنْ کَانَ لِلاَْشْرَارِ قَبْلَکَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِکَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلاَ يَکُونَنَّ لَکَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاَْثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِکَ أَخَفُّ عَلَيْکَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَکَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْکَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِکَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولَئِکَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِکَ وَحَفَلاَتِکَ، ثُمَّ لْيَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَکَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَکَ وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَکُونُ مِنْکَ مِمَّا کَرِهَ اللهُ لاَِوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذَلِکَ مِنْ هَوَاکَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ; ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوکَ وَلاَ يَبْجَحُوکَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ کَثْرَةَ الاِْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ.
وَلاَ يَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَکَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذَلِکَ تَزْهِيداً لاَِهْلِ الاِْحْسَانِ فِي الاِْحْسَانِ، وَتَدْرِيباً لاَِهْلِ الاِْسَاءَةِ عَلَى الاِْسَاءَةِ وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاع بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْکِ اسْتِکْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ. فَلْيَکُنْ مِنْکَ فِي ذَلِکَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَکَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِکَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْکَ نَصَباً طَوِيلاً. وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّکَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُکَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّکَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُکَ عِنْدَهُ.
وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الاُْمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الاُْلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ. وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْء مِنْ مَاضِي تِلْکَ السُّنَنِ، فَيَکُونَ الاَْجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْکَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.
وَأَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِکَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَکَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، وَمِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَمِنْهَا عُمَّالُ الاِْنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَکُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً.
فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَْمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَکُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ. ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ، لِمَا يُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الاُْمُورِ وَعَوَامِّهَا. وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِي اللهِ لِکُلّ سَعَةٌ، وَلِکُلّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِکَ إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ. فَوَلِّ مِنْ جُنُودِکَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِکَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَ لاِِمَامِکَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الاَْقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ. ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاَْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ; فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ. ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِکَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ; فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَکَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِکَ. وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِکَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ.
وَلْيَکُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِکَ عِنْدَکَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ، حَتَّى يَکُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ; فَإِنَّ عَطْفَکَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْکَ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ. وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ الاُْمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْک اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ، فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ; فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ، إِنْ شَاءَ اللهُ.
ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِئ إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ شَرَفُ امْرِئ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ صَغِيراً، وَلاَ ضَعَةُ امْرِئ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا کَانَ عَظِيماً.
وَارْدُدْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُکَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْکَ مِنَ الاُْمُورِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ»؛ فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ الاَْخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الاَْخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.
ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِکَ فِي نَفْسِکَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ; وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِکَ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ. وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْکَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِکَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِکَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَکَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِکَ نَظَراً بَلِيغاً، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ کَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَْشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِکَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاِْسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلاَقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاُْمُورِ نَظَراً. ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاَْرْزَاقَ، فَإِنَّ ذَلِکَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَکَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَکَ. ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَکَ فِي السِّرِّ لاُِمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاَْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَْعْوَانِ; فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَکَ أَخْبَارُ عُيُونِکَ، اکْتَفَيْتَ بِذَلِکَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.
وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَِنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَکُنْ نَظَرُکَ فِي عِمَارَةِ الاَْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِکَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَِنَّ ذَلِکَ لاَ يُدْرَکُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ; وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَکَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً. فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْکَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْکَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِکَ، وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِکَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِکَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِکَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ، بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِکَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِکَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِکَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاُْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ; فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاَْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.
ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ کُتَّابِکَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِکَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَکَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَکَايِدَکَ وَأَسْرَارَکَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَْخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْکَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْکَ فِي خِلاَف لَکَ بِحَضْرَةِ مَلاَ وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُکَاتَبَاتِ عُمِّالِکَ عَلَيْکَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْکَ، فِيمَا يَأْخُذُ لَکَ وَيُعْطِي مِنْکَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَکَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْکَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُْمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَکُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ. ثُمَّ لاَ يَکُنِ اخْتِيَارُکَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِکَ وَاسْتِنَامَتِکَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْکَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِکَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَْمَانَةِ شَيْءٌ. وَلَکِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَکَ، فَاعْمِدْ لاَِحْسَنِهِمْ کَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالاَْمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذَلِکَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِکَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ. وَاجْعَلْ لِرَأْسِ کُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِکَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ کَبِيرُهَا وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ کَثِيرُهَا، وَمَهْمَا کَانَ فِي کُتَّابِکَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ، أُلْزِمْتَه.
ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّکَ وَبَحْرِکَ، وَسَهْلِکَ وَجَبَلِکَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلاَ يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ. وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِکَ وَفِي حَوَاشِي بِلاَدِکَ. وَاعْلَمْ مَعَ ذَلِکَ أَنَّ فِي کَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَکُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذَلِکَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِکَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مَنَعَ مِنْهُ.
وَلْيَکُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْل وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ. فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْيِکَ إِيَّاهُ فَنَکِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَاف.
ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَکَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِکِ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاِْسْلاَمِ فِي کُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلاَْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَْدْنَى، وَکُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ; وَلاَ يَشْغَلَنَّکَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّکَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِکَ التَّافِهَ لاِِحْکَامِکَ الْکَثِيرَ الْمُهِمَّ.
فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّکَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّکَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْکَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لاُِولَئِکَ ثِقَتَکَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْکَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالاِْعْذَارِ إِلَى اللهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الاِْنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ.
وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِکَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ کُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.
وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْکَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَکَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَکَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَکَ وَأَعْوَانَکَ مِنْ أَحْرَاسِکَ وَشُرَطِکَ، حَتَّى يُکَلِّمَکَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن، «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِع». ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالاَْنَفَ يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْکَ بِذَلِکَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَکَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ. وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار!
ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِکَ لاَ بُدَّ لَکَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِکَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ کُتَّابُکَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْکَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِکَ. وَأَمْضِ لِکُلِّ يَوْم عَمَلَهُ، فَإِنَّ لِکُلِّ يَوْم مَا فِيهِ. وَاجْعَلْ لِنَفْسِکَ فِيمَا بَيْنَکَ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلَ تِلْکَ الْمَوَاقِيتِ، وَأَجْزَلَ تِلْکَ الاَْقْسَامِ، وَإِنْ کَانَتْ کُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ.
وَلْيَکُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَکَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِکَ فِي لَيْلِکَ وَنَهَارِکَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللهِ مِنْ ذَلِکَ کَامِلاً غَيْرَ مَثْلُوم وَلاَ مَنْقُوص، بَالِغاً مِنْ بَدَنِکَ مَا بَلَغَ. وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِکَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَکُونَنَّ مُنَفِّراً وَلاَ مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ. وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ کَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ کَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ وَکُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.
وَأَمَّا بَعْدُ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَکَ عَنْ رَعِيَّتِکَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاُْمُورِ، وَالاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاُْمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْکَذِبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُکَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُکَ مِنْ وَاجِبِ حَقّ تُعْطِيهِ، أَوْ فِعْل کَرِيم تُسْدِيهِ! أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ، فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِکَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِکَ! مَعَ أَنَّ أَکْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْکَ مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْکَ، مِنْ شَکَاةِ مَظْلِمَة، أَوْ طَلَبِ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة.
ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة، فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِکَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْکَ الاَْحْوَالِ. وَلاَ تُقْطِعَنَّ لاَِحَد مِنْ حَاشِيَتِکَ وَحَامَّتِکَ قَطِيعَةً، وَلاَ يَطْمَعَنَّ مِنْکَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة، تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ، فِي شِرْب أَوْ عَمَل مُشْتَرَک، يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَکُونَ مَهْنَأُ ذَلِکَ لَهُمْ دُونَکَ، وَعَيْبُهُ عَلَيْکَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ.
وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَکُنْ فِي ذَلِکَ صَابِرا مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذَلِکَ مِنْ قَرَابَتِکَ وَخَاصَّتِکَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْکَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِکَ مَحْمُودَةٌ.
وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِکَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِکَ، وَاعْدِلْ عَنْکَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِکَ، فَإِنَّ فِي ذَلِکَ رِيَاضَةً مِنْکَ لِنَفْسِکَ، وَ رِفْقاً بِرَعِيَّتِکَ، وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَکَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاکَ إِلَيْهِ عَدُوُّکَ وَلِلَّهِ فِيهِ رِضًى فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِکَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِکَ، وَأَمْناً لِبِلاَدِکَ، وَلَکِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّکَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِکَ حُسْنَ الظَّنِّ. وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَکَ وَبَيْنَ عَدُوِّکَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْکَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَکَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَکَ بِالاَْمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَکَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذَلِکَ الْمُشْرِکُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِکَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِکَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّکَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْکُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ وَلاَ مُدَالَسَةَ وَلاَ خِدَاعَ فِيهِ، وَلاَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْل بَعْدَ التَّأْکِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ وَلاَ يَدْعُوَنَّکَ ضِيقُ أَمْر، لَزِمَکَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَکَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِکَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاکَ وَلاَ آخِرَتَکَ.
إِيَّاکَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْکِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُکْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيمَا تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَکَ بِسَفْکِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِکَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ. وَلاَ عُذْرَ لَکَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لاَِنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ. وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْکَ سَوْطُکَ أَوْ سَيْفُکَ أَوْ يَدُکَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَکْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِکَ نَخْوَةُ سُلْطَانِکَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ.
وَإِيَّاکَ وَالاِْعْجَابَ بِنَفْسِکَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُکَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاِْطْرَاءِ، فَإِنَّ ذَلِکَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَکُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ.
وَإِيَّاکَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِکَ بِإِحْسَانِکَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا کَانَ مِنْ فِعْلِکَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَکَ بِخُلْفِکَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاِْحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: «کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لاَ تَفْعَلُونَ».
وَإِيَّاکَ وَالْعَجَلَةَ بِالاُْمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْکَانِهَا، أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَکَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ کُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ کُلَّ أَمْر مَوْقِعَهُ.
وَإِيَّاکَ وَالاِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْکَ لِغَيْرِکَ وَعَمَّا قَلِيل تَنْکَشِفُ عَنْکَ أَغْطِيَةُ الاُْمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْکَ لِلْمَظْلُومِ. امْلِکْ حَمِيَّةَ أَنْفِکَ، وَسَوْرَةَ حَدِّکَ، وَسَطْوَةَ يَدِکَ وَغَرْبَ لِسَانِکَ، وَاحْتَرِسْ مِنْ کُلِّ ذَلِکَ بِکَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْکُنَ غَضَبُکَ فَتَمْلِکَ الاِخْتِيَارَ وَلَنْ تَحْکُمَ ذَلِکَ مِنْ نَفْسِکَ حَتَّى تُکْثِرَ هُمُومَکَ بِذِکْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّکَ.
وَالْوَاجِبُ عَلَيْکَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَکَ مِنْ حُکُومَة عَادِلَة، أَوْ سُنَّة فَاضِلَة، أَوْ أَثَر عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوْ فَرِيضَة فِي کِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِکَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْکَ فِي عَهْدِي هَذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْکَ، لِکَيْلاَ تَکُونَ لَکَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِکَ إِلَى هَوَاهَا. وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ کُلِّ رَغْبَة، أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاکَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الاِْقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ، مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ، وَجَمِيلِ الاَْثَرِ فِي الْبِلاَدِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ وَتَضْعِيفِ الْکَرَامَةِ، وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَکَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً کَثِيراً، وَالسَّلاَمُ.