- ThePlus Audio
الحركة الدائرية والحركة الممتدة
بسم الله الرحمن الرحیم
الحركة الدائرية والحركة الممتدة (المستقيمة)
ينبغي للمؤمنين في نهاية شهر رمضان من كل عام أن يعلموا أن حظهم في الحصول على الغفران الإلهي في هذا الشهر يفوق سائر الشهور والأيام، ومن لم يسعده الحظ في استحصال المغفرة في هذا الشهر سيكون معرضا للشقاء، أفهل يرجى ممن خرج الإنسان من ضيافته ولم ينل ما رجا في الضيافة أن يحصل عليه خارجها؟
ومن أهم علامات الرضا الإلهي عن العبد شعوره ببرد الرضا والانتعاش النفسي؛ فكما يشعر العبد – إلا من ختم الله على قلبه – بحالة من الاحتقار الذاتي عند ارتكاب الذنوب وقد يصل به الأمر إلى أن يضرب نفسه ويحاول أن يجد مخرجا سريعا من ذلك الذنب وكفارة تخفف عليه وطأة النفس اللوامة ووخز الضمير، كذلك يشعر بأن الله سبحانه راض عنه، وكما نرى ذلك في عالم الأبدان أن الرجل عندما يعود إلى المنزل من عمله في يوم شديد الحر يقول لزوجته: يا فلانة لا أتحمل نفسي فلا يأكل الطعام قبل أن يغتسل ثم يخرج من الحمام منشرح الصدر منتعشا، وكذلك الإنسان الذي يعيش في ظلمة الذنوب وقذراتها لا يرتاح حتى يغسل روحه من درن المعصية، وكثير هم المجرمون الذين ينهون حياتهم بأيديهم بعد ارتكابهم الجرائم الفظيعة لوقوفهم على قبح ذاتهم. وينبغي للمؤمن أن يتخلص من تبعات المعاصي في حركته إلى الله عز وجل حتى لا يراوح في مكانه وتكون حركته إلى الله عز وجل حركة مستقيمة لا حركة دائرية.
فهناك حركتان في عالم الوجود: الحركة الدائرية، وهي أشبه شيء بالألعاب الدائرية في مدينة الملاهي؛ كالسيارات التي تسير في دائرة محددة ولو سرت بهذه السيارة ساعات لا تصل إلى شيء ولا تقطع مسافة. وهي تشبه أيضا حركة حمار الطاحونة الذي يدور حول الرحى في حركة دائرية. والحركة الأخرى هي الحركة المستقيمة أو الممتدة، كحركة الإنسان من منزله مسافرا إلى بلد آخر؛ فهو يسير من نقطة معينة قاصدا نقطة أخرى فلا تزيده كثرة السير إلا قربا من هدفه.
فأما الحركة الدائرية فلا مبدأ لها ولا منتهى؛ كدوران الحمار حول الطاحونة ولولا العصى لما برح مكانه وعند التعب لا تنفع تلك العصى أيضا، والذي يسير في حركة دائرية يبطئ في سيره بعد فترة من السير عندما يرى أنه لا يبلغ هدفا ولا يقطع مسافة وير أنه مخدوع أو مجبور؛ بخلاف الذي يسير في طريق مستقيم؛ فالمسافر يجد في السير عندما يرى أنه أصبح قريبا من مقصده ونرى ذلك واضحا في العدائين الذين يجدون في السير عن اقترابهم من نقطة النهاية لكيلا تفوتهم الجائزة الكبرى، والحركة الممتدة حركة مفعمة بالنشاط ويتضاعف النشاط عند الاقتراب من الهدف كالعريس الذي يكون على موعد مع العروس فهو في شوق للقائها؛ بخلاف الحركة الدائرية التي ليس فيها ما يبعث على النشاط وصاحبها معرض لليأس والإحباط!
أصناف الناس في السير إلى الله عز وجل
والناس منهم من يسير في الحياة سيرا دائريا ومنهم من يسير سيرا ممتدا، وهناك قوم كالخشب المسندة لا روح فيهم ولا عقل كما ذكر ذلك القرآن الكريم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)[١] وليس الرب عز وجل في مقام الانفعال بل هذا واقع حالهم؛ فهم بحسب القرآن الكريم أشبه شيء بالجماد. أليس العالم الذي يكشف أسرار الذرة ولا يعترف بما وراء الذرة والطبيعة وهو ييرى الأسرار المدهشة سواء هو والمجهر في المختبر؟! وتصور أن العلماء الذين صنعوا القنابل الذرية في الهند والذين منهم عباد البقر يتبركون بعد فلق الذرة ببول البقر، أليس هؤلاء كالخشب المسندة والحجر الذي لا يعقل ولا يفهم؟ وقد وصفهم الله بالحجارة والحصى في قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)[٢]، وهؤلاء لا قيمة لهم إلا أن يكونوا وقودا لإحراق الآخرين!
والمؤمن حركته في الحياة حركة تكاملية منذ أول يوم من تكليفه إلى آخر يوم في حياته؛ فصلاته حركة إلى الله عز وجل، وذهابه إلى المسجد حركة وصيامه واستعداده للعيد حركة والتهيئ للحج ولملمة الحقائب استعداد له حركة، ولا يتوقف المؤمن في صباحه ولا مسائه عن الحركة، ولو لم يأمرنا الإسلام بالصلاة وبناء المساجد وإقامة الجماعات وسائر ما افترضه على العباد لكنا كالخشب المسندة في الحياة! أفهل يبقى للإسلام قيمة من دون الصلاة والمسجد؟
وقد يبدأ المؤمن حركة ممتدة لتنتهي في نهاية المطاف إلى حركة دائرية لفقدان الهدف في الحياة؛ فتراه يأتي إلى المسجد لأنه جار المسجد ولأنه يعيش تأنيب الضمير أن يسمع صوت المؤذن ولا يأتي إلى المسجد ويأتي بسائر العبادات لأجل العادة وعلامته أنه يتمنى دائما أن تنتهي العبادة تلك بسرعة؛ فيتمنى التخلص من شهر رمضان – على سبيل المثال – لثقله عليه ويتهلل وجهه برؤية هلال شوال، ولو كان سروره لأجل أن العيد هو يوم الفوز والمغفرة والرضوان لم يكن ملوما ولكن سروره لطعام دسم أو لشراب لذيذ، بخلاف الذي تعلوه كآبة عند انتهاء شهر رمضان لفراق الشهر ولعدم معرفته بالنتائج المكتسبة!
هل رأيتم طالبا يخرج من قاعة الامتحان مسرورا وهو لا يدري إلى أين مصيره وهل قبل أم لم يقبل؟ ولا يفرح إلا بعدما يعطى ورقة القبول، ونحن في الدنيا نعمل الأعمال ولا ندري أقبلت منا أم لم تقبل؟ ولذلك يبقى المؤمن وجلا دائما بالرغم من قيامه بالأعمال الصالحة، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[٣]، يدفع الحقوق الشرعية ويأتي بالعبادات وينجز المعاملات ولكنه خائف وجل لا يدري أقبل منه ذلك أم لم يقبل.
الحركة الدائرية الرتيبة
والحركة الدائرية هي حركة رتيبة في عالم الأرواح، وينبغي أن يعود الإنسان إلى الوراء قليلا ليرى ما فعله في سنته هذه من الأعمال ويقف على حصيلته في هذه الأيام الثلاثمائة والستين وحجم النمو الروحي الذي حققه، فلو اعتنى الإنسان بشجرة منزلية سنة كاملة فلم تنمو هذه الشجرة سنتيمترا واحدا بعد العناية الشديدة والماء والسماد ألم يكن ليلقيها في سلة القاذورات؟ فكيف إذا أخذت الشجرة بالذبول والاصفرار؟ أليس من المؤلم أن تكون سنة الإنسان مليئة بالأعمال العبادية كالحج والعمرة وإقامة العزاء في شهري محرم وصفر وقد تكون له دمعة في كل ليلة من لياليهما، بالإضافة إلى شهري رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك وقيام الليل ثم لا يجد لكل هذه الأعمال أثرا على معرفته بربه وإيجاد الخشية في قلبه؟ ولقد قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[٤]، ولا يخشى الله سبحانه من لا يعرف الله عز وجل معرفة عميقة أو لا يحب الله عز وجل حبا شديدا ولا يخشاه من يبقى عاكفا على المعاصي.
الترواح في المكان
وقد ينتكس الإنسان ويختل مزاجه فلا يشعر بقبيح ما يأتي بل يستذوقه ويلتذ به وهو إنسان مريض يحتاج إلى علاج؛ كالحامل التي تشتهي التراب مثلا أو الإنسان الذي يأكل أظافره. تارة يرتكب الإنسان منكرا أو معصية وهو كاره كما في دعاء أبي حمزة: (وَلَكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعَانَنِي عَلَيْهَا شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ اَلْمُرْخَى عَلَيَّ)[٥] وتارة يرتكبها ولا يرى غضاضة في ارتكابها بل يستذوقها مع علمه أنه يغضب رب العالمين، وإذا كان سيرنا سيرا دائريا فمتى نصل إلى الهدف والمراد؟
فرصة شهر رمضان لإحداث التغيير في النفس
وينبغي للإنسان أن يستثمر طاقاته الباطنية وهو أقرب ما يكون من اكتشاف هذه الطاقات في باطنه في شهر رمضان عندما يذرف الدموع في مناجاة رب العالمين وفي إحيائه لليالي القدر فيه ولقدرته على ترك العادات السيئة ولو لبعض الوقت كالذي يقلع عن التدخين طيلة النهار وهذه طاقات اكتشفناها في شهر رمضان المبارك، ثم بعد اكتشافنا لهذا الحقل الباطني من البترول بدل أن نذهب به إلى مصافي النفط لنحوله إلى وقود للطائرات نطمه وندفنه، وقد يقال للمنحرف في يوم القيامة ألم تكن مثاليا في شهر رمضان فلماذا لم تستمر على ذلك؟ فقد يصلي البعض في شهر رمضان ويصوم ويقلع عن المعاصي ولكنه سرعان ما يعود إلى عاداته بعده ومادام الإنسان تمكن من ترويض نفسه شهرا كاملا لماذا لا يستمر بذلك؟
الاستمرار في البرامج العبادية بعد شهر رمضان
ويمكن القول أن شهر شوال هو من أسوأ الشهور عطاء وكثيرا ما تصاحبه انتكاسات في الأسبوع الأول منه وكذلك في سائر أيامه، فليس في هذا الشهر أية محطة عبادية ملفتة ويخرج الإنسان من رياض شهر رمضان ليدخل في صحراء شوال، وينبغي للمؤمنين أن يستمروا في بعض برامجهم العبادية في هذا الشهر كقراءة القرآن الكريم أو الاستمرار بصلاة الليل، وهناك ربع ساعة احتياطية قبل أذان الفجر حبذا لو استغلها المؤمن في صلاة الليل التي لها دور مصيري في حياة الإنسان ولو لم يكن لها دور عظيم وفضل كبير لما أبهم القرآن الكريم جزائها، فيقول سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[٦]، والتنكير في اللغة العربية دليل على الإبهام؛ فلا ندري ما هو المقام المحمود، أهو حورية متميزة أو قصر ذات أبراج أو ماذا؟ فالله عز وجل يعطي في صلاة الليل من الأجر ما لا يعطيه في غيرها.
حذار من الشياطين بعد مواسم العبادة..!
والإنسان بحسب التجربة يتعرض إلى ضربات مهلكة من الشياطين بعد الحج والعمرة وبعد شهري محرم وصفر وبعد شهر رمضان؛ إذ تقول الشياطين التي كانت مغلولة للإنسان: لأرجعنك إلى السجن انتقاما منك بعد أن خرجت منه شهرا كاملا. ولذلك يوم العيد هو يوم حزن لأولياء الله عز وجل، وليس العيد لمن لبس الجديد وإنما العيد لمن أمن الوعيد ولمن غفر له في هذا الشهر، وجدير بالإنسان أن يلجأ إلى رب العالمين في أن لا يخرج من رعايته وكنفه؛ فيكون كمن يدعون إلى وليمة السلطان ثم ينادى بهم أن اخرجوا عند انتهاء الوليمة ثم لا يرون خارج القصر إلا الأرض الجرداء وبعض العشب والطعام الجشب؛ فيتوسلون السلطان أن لا يخرجهم من القصر، وكذلك المؤمن عند نهاية هذا الشهر يقول لرب العالمين: إلى أين تخرجني وإلى من تسلمني والأعداء يحيطون بي من كل جانب والشياطين تترصدني وتتربص بي؟ ولنعم ما قال الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة التائبين: (إلهِي هَلْ يَرْجِعُ الْعَبْدُ الابِقُ إلاَّ إلَى مَوْلاهُ)[٧].
وكم من اللطيف أن يجلس المؤمن في الساعة الأخيرة من شهر رمضان على مصلاه ويكون حاله حال من يراد إخراجه من القصر الملكي إلى التيه والضلالة والحيرة ويسلم للأعداء الواقفين خلف باب القصر، ثم يقول لربه: يا رب لا تخرجني من ضيافتك فبإمكانك وأنت الرب الكريم أن تضيفني سنة كاملة كما أضفتني شهرا، وإن لم أصلح لمنادمتك فاجعلني في زاوية من زوايا قصرك الكبير ولكن لا تخرجني منه، وجدير بالمؤمن أن يقوم بهذه الحركات التي يستدر بها العطف الإلهي.
خلاصة المحاضرة
- من أهم علامات الرضا الإلهي عن العبد شعوره ببرد الرضا والانتعاش النفسي؛ فكما يشعر العبد بحالة من الاحتقار الذاتي عند ارتكاب الذنوب وقد يصل به الأمر إلى أن يضرب نفسه ويحاول أن يجد مخرجا سريعا من ذلك الذنب وكفارة تخفف عليه وطأة النفس اللوامة ووخز الضمير، فكذلك يشعر بالرضا الإلهي.
- هناك من الناس من يسير في حياته سيرا دائريا وسيره أشبه شيء بسير الدآبة حول الطاحونة يبقى يراوح في مكانه ومنهم من يسير سيرا ممتدا مستقيما لا يلوي على شيء حتى يبلغ مقصده ويصل إلى غايته ومنهم من هم كالجماد لا فهم لهم ولا عقل وهم من عبر عنهم القرأن: (كأنهم خشب مسندة).