ميلاده (عليه السلام)..
إن الموالي الذي يعيش في شهر رجب الأصب، فرحة ميلاد أمير المؤمنين، ويعسوب الدين، وقائد الغر المحجّلين إلى جنات النعيم، -بل البعض رأى هذه المجالس وهذه الاحتفالات منذ أن فتح عينه على الدنيا- والذي يزور دائماً أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعيد ومن قريب؛ عليه أن يستوعب الدروس والعِبر في مثل هذا اليوم المبارك من هذا الشهر الحرام!..
تجديد البيعة..
إن إحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) هو بمثابة التطعيم!.. ففي عالم الأبدان: يتم تطعيم الجسم بين وقت وآخر؛ كي يتحصّن ويقاوم الأمراض.. ونحن بحمد الله تعالى، وبفضل العترة الطاهرة؛ لدينا قرابة ۲۷ مناسبة في السنة بعدد المعصومين ولادة واستشهاداً ماعدا الإمام المنتظر (عليه السلام).. ويضاف إلى ذلك المبعث النبوي الشريف، والمناسبات الأخرى لمواليد ووفيات الملحقين بأهل البيت (عليهم السلام) كالعباس، وأخته الحوراء زينب (عليهم السلام).. وبالتالي، يصبح هناك قرابة ۳۰ مناسبة، أي بمعدل أكثر من مناسبتين في الشهر الواحد.. لذا يجب الاستفادة من تلك المناسبات، في التعرف على سيرتهم وسلوكهم، والاقتداء بهم في مختلف مجالات الحياة.
إن إحياء هذه المناسبات هي في الواقع إعلان بيعة، وتجديد عهد بهذه الذوات المقدسة.. فنحن عندما نقيم ذكرى ميلاد واستشهاد الإمام علي (عليه السلام)؛ فهذا يعني أن أمير المؤمنين شخصية محبوبة لدينا، وهو القدوة والأسوة بالنسبة لنا؛ وإلا لمَ نقيم احتفال من لا نعتقد بإمامته!.. فالإمامة ليست معنىً نظرياً: بمعنى أن يجلس الإنسان في المنزل ويغمض عينيه ويقول: إمامي وقدوتي هو أمير المؤمنين!.. بل الإمام هو ذلك الشخص الذي يُمشى خلفه، كما يمشي الإنسان خلف الدليل عندما يتيه في الصحراء الموحشة، حيث يجعل الدليل يمشي أمامه وهو يمشي خلفه، بل أكثر من ذلك يضع رجله في موضع رجل الدليل، خوفاً من الضياع.. وبالتالي، فإن من يدّعي حب الدليل وإمامته ولا يقتدي به، فهذه ليست موالاة.. وفي هذه الحالة لا يسمى ذاك الشخص: إماماً، ولا دليلاً، ولا قائداً.
فإذن، علينا أن نتخذ الأئمة (عليهم السلام) قدوة في حياتنا، وعلى رأسهم أمير المؤمنين؛ فهو أبو الأئمة النجباء.. وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يترك مجالاً من مجالات الحياة؛ إلا وأدلى بدلوه فيه: قولاً وفعلاً.
الإمام الزوج..
إن المؤمن الذي يسعى لحياة زوجية سعيدة؛ عليه أن يقتدي بسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وخُلقه، وينظر إلى أسلوبه في كيفية تعامله مع زوجته فاطمة الزهراء (عليها السلام)؛ تأسياً بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، وكذلك بقول الإمام (عليه السلام) في كتابه إلى عامله على البصرة، عثمان بن حنيف: (ألا وأن لكل مأموم إمام يقتدي به، ويستضيء بنور علمه)!.. والاقتاء ليس في القيادة فقط، بل في كل أمور الحياة الدينية والدنيوية.. فعلي (عليه السلام) حاول قدر استطاعته أن يجعل الزهراء مرتاحة في حياتها، لذا أوكل إليها إدارة شؤون المنزل، وتكفل هو بكل الشؤون الخارجية، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (تقاضى عليّ وفاطمة إلى رسول الله (صلی الله عليه) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على عليّ بما خلفه.. فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلی الله عليه) تحمّل رقاب الرجال).
إن الزهراء (عليها السلام) عندما تقاسمت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الوظائف، فرحت كثيراً لتوليها الأمور داخل المنزل؛ فقد ورد في الرواية: (إنّها استقت بالقربة، حتى أثّرت في صدرها!.. وجرّت بالرحى، حتى مجلت يداها!.. وكسحت البيت، حتى اغبرّت ثيابها!.. وأوقدت تحت القدر، حتى دكنت ثيابها)!.. فالمرأة خلقت لتربي أسرة، ولتربي جيلاً؛ لا لِتُدير معملاً؛ ولا لتقوم بهذه الأمور على حساب وظيفتها الأساسية.. فالزهراء (عليها السلام) خلقت ومن ضمن مهامها: تربية الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام).. ولكن تلك الأعمال لم تؤثر على عبادتها، فلسانها كان يلهج دائماً بذكر الله عز وجل، بل كانت تقف في محراب العبادة حتى تتورم قدماها من القيام بين يدي الله عزوجل.. فقد روي عن الإمام الحسن (عليه السلام) أنه قال: (رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح.. وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء.. فقلت لها: يا أماه!.. لم لا تدعين لنفسك، كما تدعين لغيرك؟.. فقالت: يا بني!.. الجار قبل الدار).
فإذن، إن علياً (عليه السلام) علمنا كيف تكون المعاملة الزوجية المثالية!.. فالمؤمن الذي ليس له استقرار عائلي، أي الذي يعيش في أسرة مفككة، أو مشاكسة، والذي كلما دخل المنزل رأى وجهاً مكفهراً؛ فإن ذلك يؤثرُ على كُل مستوياته في الحياة!.. لأن المؤمن يحتاج إلى بال غير مشوش في حياته العائلية، فمن موجبات الاستقرار في الحركة الروحية إلى الله عز وجل انتفاء المشوشات.. والإنسان عادةً لا يخلو من بعض المشاكل في حياته: فتارة تكون المشكلة مع الشريك؛ فيفسخ تلك الشراكة.. وتارة تكون له مشكلة في العمل؛ فيطلب النقل أو الاستقالة.. وتارة له مشكلة في البلد التي يعيش فيها؛ فيهاجر إلى بلد آخر!.. ولكن المصيبة الكبرى عندما تكون عنده مشكلة في أسرته!.. لذا، فإن تجنيب الأسرة موجبات الخلاف والاختلاف؛ أمر مهم جداً!.. وخير آية يمكن أن تكون مصدراً تربوياً للحياة الزوجية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ فإذن، إن العائلة هي السكن، ومن من لا يرى سكناً في عائلته؛ هذا الإنسان مضطرب ومشوش، لا يُركّز في صلاة، ولا في عبادة، ولا حتى في مطالعة هادفة.. وبالتالي، فإن السعادة الزوجية في الدنيا، والاستقرار الأسري؛ لهُ دور في حالة الإنسان وقربه من الله عز وجل!..
الإمام الأب..
إن البعض يعامل ولده كبدن فقط، أي يبدي كل الاهتمام بالنسبة إلى: طعامه وكسائه وسياحته وشهادته الدراسية؛ أي المهم أن يكون نظيفاً، وجميلاً، ومعافىً في بدنه؛ ولكنه لا يراقب باقي الأمور!.. وعليه، فإن من يربي الولد: كبدن، وكهيكل ظاهري؛ من الطبيعي أن تظهر له مفاجآت غير سارة، فمثلاً: من يكون عنده فتاة في سن الزواج، يتمنى أن يراها عروساً في بيت زوجها، تُربّي ذرية صالحة؛ وإذا به يكتشف أن لها علاقات محرمة هنا وهناك.. هذه الأمور عادة تحدث لمن يهمل تربية ابنته، ولا يهتم بتكليفها!.. وإذا به يتفاجأ ببلوغها، ولا يعلم به إلا بعد شهر أو شهرين؛ فتكون هذه البنت -خلال هذه الفترة- قد ظهرت سافرة؛ وقد تكون صافحت وقبلت رجالاً بدعوى أنها صغيرة غير مكلفة، بينما هي مكلفة في تمام التاسعة؛ ولكنها جاهلة بهذا الأمر.. فعلى من يقع الوزر في مثل هذه الحالة؟!.. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾؛ هذه الآية الكريمة تدعو الآباء إلى الاهتمام بتربية أبنائهم.
إن هناك علاقة بين ما يتعلمه الإنسان في صغره، وبين ما تستقر عليه شخصيته التي تميزه في مرحلة البلوغ.. لذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام): «إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية؛ ما أُلقي فيها من شيء قبلته.. فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجدِّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعُوفيت من علاج التجربة».
هذا هو الإمام الذي ربى الحسن والحسين، وقدم للأمة إمامين من أئمة الهدى.. وربّى تلك المرأة التي إلى يومنا هذا، لا نجد في قواميس النساء: صابرة، وصامدة، وعارفة؛ كسيدتنا زينب (عليها السلام).. وربى ذاك الذي رفع لواء الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، فالإمام (عليه السلام) لم يكتف بأن اختار أم العباس من قبيلة ذات صفات كريمة المناقب، عندما قال لأخيه عقيل -وكان نسّابة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم-: (ابغِني امرأة، وقد ولدتها الفحولة من العرب؛ لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً)!.. فقال له: (أين أنت عن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية؛ فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس)!.. بل تعهد العباس بالتربية كما تعهد بها ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام).
فإذن، إن تربية الأبناء واجب على الآباء، يقول الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (وحق ولدك أن تعلم أنه منك، مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وإنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته.. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه…الخ).
الإمام المجاهد..
إنه ليعز على المرء أن يرى أمير المؤمنين (عليه السلام) في تلك السنوات التي حكم فيها، بدلا من أن تثنى له الوسادة، وهو الأعلم بطرق السماوات من طرق الأرض، الذي نادى بأعلى صوته: “سلوني قبل أن تفقدوني”!.. وإذا به يجر من معركة إلى معركة: من معركة الجمل التي قاتل فيها الناكثين، إلى معركة صفين التي قاتل فيها القاسطين، ثم معركة النهروان التي قاتل فيها المارقين.. لقد شغلوه بالحروب عن بناء: أمة، وعلم، وثقافة، ومؤسسات حضارية.. فلو التفوا حولَ أمير المؤمنين؛ لما خرجَ لتلك الحروب، بل جَلسَ في مسجد الكوفة، وبثَّ علمه للناس!..
ومن المواقف التي يحق للإنسان أن يبكي عندما يتذكرها، ذاك الموقف الذي صدر من أحدهم عندما أطلق الإمام مقولته التي ما قالها أحد في التأريخ، “سلوني قبل أن تفقدوني”!.. وإذا بأحدهم يسأله عن شعر رأسه ولحيته!.. هكذا ابتلي أمير المؤمنين بأمثال هؤلاء الجّهال ممن كانوا حوله!.. تقول الرواية: عن الأصبغ بن نباته قال: (بينما أمير المؤمنين يخطب وهو يقول: “سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن شي مضى، ولا عن شيء يكون؛ إلا نبأتكم به”!.. فقام إليه سعد بن أبي وقاص فقال: يا أمير المؤمنين!.. كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟. فقال: “أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله أنك ستسألني عنها، وأن على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس يستفزك، وأن في بيتك سخلا يقتل الحسين ابني، وآية ذلك مصدق ما أخبرتك به، ولولا أن الذي سألت عنه يعثر برهانه لأخبرتك به، ولكن آية ذلك ما أنباتك به من لعنتك وسخلك الملعون”.. وكان سخله ابنه عمر بن سعد -لعنه الله- وفي ذلك الوقت كان صغيراً، ويدرج بين يديه، وكان الزمان قد أمهله، ورباه حتى ظهر ما أخبر به الصادق المصدق، وهو أول من خرج إلى قتال الحسين عليه السلام ….الخ).
الإمام العابد..
إن علياً (عليه السلام) لم تشغله الحروب والمعارك عن ذكر الله تعالى، بل كان يقاتل وعينه على السماء كي يصلي لله عز وجل!.. فهو لم يترك صلاة الليل قط، حتى في ليلة الهرير لم يترك ليس الصلاة الواجبة بل الصلاة المستحبة!.. تلك الليلة من الليالي التي لا تنسى في حياة أمير المؤمنين، وقد سميت ليلة الهرير لكثرة أصوات المقاتلين وهمهمتهم وهرَّهم على بعضهم، فقد كانت ليلة مظلمة، واشتبك الجيشان في جوف الليل بالسلاح الأبيض، وفي الظلام يصعب على الإنسان أن يميز العدو من الصديق.. وبالتالي، فإن هناك هول الليل، وهول المعركة، ورغم ذلك لم يترك صلاة الليل في تلك الليلة الموحشة!.. قال (عليه السلام): (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي (صلی الله عليه): “صلاة الليل نور”).. فقال ابن الكواء: ولا ليلة الهرير؟!.. قال (عليه السلام): (ولا ليلة الهرير).. هذا علي (عليه السلام) في قتاله وفي حروبه.
الإمام صاحب الأدعية..
۱. دعاء كميل: إن علياً (عليه السلام) أعطانا من وقته عشرين دقيقة، عندما جاءه كميل بن زياد في البصرة، وطلب منه أن يعلمه دعاء الخضر.. وإذا بالأمة من ذاك الوقت إلى هذه الساعة، وهي تلهج بدعاء كميل في كل ليلة جمعة.. يقول كُمَيل: (كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه، فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزّوجلّ: ﴿فيها يُفْرَقُ كلُّ أمْرٍ حَكيم﴾؟.. قال (عليه السّلام): هي ليلة النّصف من شعبان، والّذي نَفْسُ عليٍّ بيده!.. إنّه ما مِن عبدٍ إلاّ وجميعُ ما يجري عليه من خيرٍ أو شرٍ، مقسومٌ له في ليلة النصف من شعبان إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة.. وما من عبدٍ يُحييها، ويدعو بدعاء الخضر (عليه السّلام) إلاّ استُجِيب له.. فلمّا انصرف، طرقْتُه ليلاً.. فقال (عليه السّلام): ما جاء بك يا كميل؟!.. قلت: يا أمير المؤمنين!.. دعاء الخضر (عليه السّلام).. فقال: اجلس يا كميل!.. إذا حفظت هذا الدعاء، فادْعُ به كلّ ليلة جمعةٍ، أو في الشهر مرّةً، أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّةً: تُكْفَ، وتُنصَر، وتُرزَق، ولن تَعدِم المغفرة.. يا كُمَيل!.. أوجَبَ لك طولُ الصحبة لنا، أن نجود لك بما سألتَ.. اكتب)!.. فتهيأ كميل للكتابة، وراح الإمام يتلو عليه الدعاء الذي يردده اليوم ملايين المسلمين حيث اشتهر بـ “دعاء كميل”..
۲. دعاء الصباح: من يفتتح يومه بدعاء أمير المؤمنين في كل يوم؛ هذا إنسان: صباحه ونهاره مبارك، وزواله مبارك، وعصره مبارك، وليلته مباركة.. فمن يلهج بدعاء أمير المؤمنين في سجوده قائلاً: (إلهي!.. قلبي مَحجُوب، ونفسي مَعْيُوب، وعقلي مَغْلُوب، وهوائي غالب، وطاعتي قليل، ومعصيتي كثير، ولساني مُقِرٌ بالذنوب، فكيف حيلتي يا ستَّار العُيوب، ويا عَلاَّم الغُيوب، ويا كاشف الكُروب، اْغفر ذنوبي كُلَّهَا بحُرْمَةِ محمد وآل محمد!.. يا غفار!.. يا غفار!.. يا غفار!.. برحمتك يا أرحم الراحمين…الخ)؛ هذا الإنسان يصبح وقد اغتسل غسلاً معنوياً، ويستقبل يومه بالطهارة والنقاء.. مثل هذا الإنسان يكون موفقاً في يومه، ويأتي بالخير أينما ذهب!..
الإمام العارف..
إن أمير المؤمنين كزوج وكأب وكمقاتل وكعابد، عندما كان يصلي بين يدي الله عز وجل، كان يذهل عن الدنيا وما فيها، فقد كانت تُنزع السهام من بدنه أثناء صلاته.. رغم أن السهم عندما يُنزع من البدن يخرج معه مقدار من اللحم والجلد، ومع ذلك كان يصلي (عليه السلام) فيذهل عن الكون وما سوى الله عز وجل ومنه البدن.. وهذا ليس بأمر مستغرب، ألا يقول تعالى في سورة يوسف: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾.. رغم أن جمال يوسف جمال مخلوق، فكيف بمن رأى جمال الخالق جل جلاله!..
الإمام الخاشع..
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يغمى عليه، من شدة الخوف من الله عز وجل ومشاهدة جماله.. تقول الرواية: (كنا جلوسا في مجلسٍ في مسجد رسول الله (صلی الله عليه)، فتذاكرنا أعمال أهل بدر، وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم!.. ألا أخبركم بأقلّ القوم مالاً وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟.. قالوا: مَن؟.. قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام).. فو الله إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرضٌ عنه بوجهه، ثم انتُدب له رجلٌ من الأنصار فقال له: يا عويمر!.. لقد تكلّمت بكلمةٍ ما وافقك عليها أحدٌ منذ أتيت بها، فقال أبو الدرداء: يا قوم!.. إني قائلٌ ما رأيت، وليقل كلّ قومٍ منكم ما رأوا.. شهدتُ علي بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل من مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبَعُد عليّ مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوتٍ حزينٍ ونغمة شجيّ، وهو يقول: “إلهي!.. كم من موبقةٍ حملتَ عني مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرةٍ تكرّمتَ عن كشفها بكرمك.. إلهي!.. إن طال في عصيانك عمري، وعَظُم في الصّحف ذنبي، فما أنا أؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براجٍ غير رضوانك”.. فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه، فاستترتُ له وأخملتُ الحركة، فركع ركعاتٍ في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما به الله ناجى أن قال: “إلهي!.. أفكّر في عفوك، فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظُم عليّ بليتي”، ثم قال: “آه!.. إن أنا قرأتُ في الصحف سيئةً أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذٍ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء” ، ثم قال: “آه!.. من نارٍ تنضج الأكباد والكلى، آه!.. من نارٍ نزّاعةٍ للشوى، آه!.. من غمرةٍ من ملهبات لظى”، قال: ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركةً، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر.. قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب.. قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء!.. ما كان من شأنه ومن قضيته؟.. فأخبرتها الخبر، فقالت: هي والله يا أبا الدرداء!.. الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق ونظر إليّ وأنا أبكي، فقال: ممَّ بكاؤك يا أبا الدرداء؟!.. فقلت: مما أراه تنزله بنفسك، فقال: يا أبا الدرداء!.. فكيف ولو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكةٌ غلاظ، وزبانيةٌ فظاظ، فوقفتُ بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني أهل الدنيا، لكنتَ أشدّ رحمة لي بين يدي مَن لا تخفى عليه خافية.. فقال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحدٍ من أصحاب رسول الله (صلی الله عليه)).
الإمام المظلوم..
إن علياً (عليه السلام) كان يعيش البلاء تلو البلاء، والمرارة تلو المرارة، يظهر ذلك في قوله: (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى)!.. هل هناك شخص يصبر على شوكة في عينه، وعلى ما يعترض حنجرته؟.. هذا الإنسان كيف يعيش، وماذا يتحمل؟!.. لذا، إذا أراد الإنسان أن يدعو الله عز وجل ويقسم عليه، فليقل: إلهي!.. أسألك بظلامة أمير المؤمنين، فهذا الإمام ظُلِمَ عدد الحجر والمدر!.. هذا الإمام الذي كان يغشى عليه من خوف الله عز وجل، ويُقتل في محراب العبادة، عندما بلغ أهل الشام خبر استشهاده، وإذا بهم يقولون: وهل كان عليٌ يصلي؟!.. أيُّ ظلامة أعظم من هذه الظلامة!.. لقد ظُلم كثيراً، ولهذا إذا وصل الإنسان إلى أرض الغري، إلى تلك البقعة الطاهرة، ووضع خده على ذلك الضريح المبارك؛ فليتذكر هذه الفقرة من كلام علي، وليمسح دموعه على ذلك الضريح!..
الإمام الشفيع..
إن المؤمن يبكي على مصائب أمير المؤمنين وهو بجواره، فإن جاءته الرقة، ودمعت عينيه؛ فإن هذه الدمعة هي دمعة الولاء، وهي أرقى من دموع المصيبة!.. فمثلاً: مصيبة الحسين (عليه السلام) تُبكي حتى الكفار، ومن المعروف أن عزاء الحسين يُقام على يد غير المسلمين في الهند، فمصيبة الحسين عالمية.. أما البكاء الولائي، ورقة القلب لما جرى على أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو من موجبات الانتساب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ونيل شفاعته في تلك الليلة الموحشة!.. حيث أن أمير المؤمنين يزور ذلك المحب المبتلى في تلك الليلة الموحشة، فقد روي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال للحارث الهمداني: (وأُبشّرك يا حارث لتعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.